samedi 17 janvier 2009

ذكريات زمن مضى


حديث البحر(قصة قصيرة)
كان لي صديق، استأثرت به النشوة أياما، ثم مضت حماسته تفتر و نشوته تخبو، بيد انه لم ينكص على عاقبيه و بقي به شئ مما كان ، أقصده كلما ألم بي كرب و اشتد علي حزن ، اطلب السلوى بحكايته التي يرويها و مغامراته التي يتقن صياغتها في كلام مشوق و حديث منمق، حالما رأني قادما إليه اهتز صدره فرحا و قال بصوت ينم عن السرور:
أين أنت يا رجل ! ؟ هل نسيت عشرتنا بهذه السرعة ؟
ثم استدرك قائلا: ‹‹اعلم أن مشاغل الحياة كثيرة ، لعن الله هذه الدنيا التي جعلتنا نجري وراء لقمة العيش ليل نهار دون أن ننال مبتغانا، الحياة صعبت وقل راكبها و فرقت الشمل بين الأصحاب و الخلان .›› وطافت بالرجل الذكريات اللذيذة فعاوده الحنين إلي صفو الحياة و جمالها.
ثم أمر بإحضار الشاي، و تهالك علي أريكة و وثيرة و جلست قربه ثم بدأ في ثرثرته المعهودة و قال بحماسة و فخار: ‹‹كنت أهوى البحر و اركب في سبيل بلوغه الأهوال و الأخطار.. لذ " لقريبع" ، صديق العمر الذهاب معي إلي البحر ، وقد اشتد الحر و ذهب الريح و القر، الصائفة اشتدت حرارتها و الأجساد قد تعرت، و السواعد قد نشطت و الغرف قد اقتضت و قبلت .. و النفوس لمرماها طمعت.
أراد " قريبع" في أيام صباه ـ و قد غرم غرما بساعده، حتى اشتد بلاؤه ـ أن يجد لنفسه مأوى يرفع به عن النفس و يذهب الحر و القلق فركب سيارة استأجرها و ركبت معه ، ووصلنا البحر فطالعنا كل جمال و كمال ... نسيمات عليلة اعترضتنا و تملقتنا... و طيور في الفضاء سابحة و لرب السماء شاكرة ..السماء زرقاء صافية و النجوم آفلة بعدما قضت الليل ساهرة و علي راحة الإنسان عاملة... البحر ليس له حدود والماء لا يعرف له ركود. و السماء تتسع منذ عهود ... فسبحنا من وضعها بغير عمد و أقامها بغير قد، فأعانت البحر على الجزر و المد.
نظرت أمامي فإذا السماء و الأرض مطبقتان كانهما منذ القديم متعاشرتان و لحماية نفسيهما متعاونتان .. و حملقت فإذا الماء هناك أزرق و هنا أبيض فعجبت لهذه الحال. و علمت فيما بعد... أن أبصارنا تخدعنا و لعقولنا المرجع و المنقلب.
حملنا أمتعتنا عل الشاطئ و بالقرب من أمواج البحر فرشنا و تمددنا ننعم النظر في النهود و نتأمل الخدود التي أقبلت من كل الجهات و الحدود... فبدأ الحمام لمرآنا يسرح و لنا يمرح . فعشقت ذات الوجنات الحمراء والأغصان البيضاء و القوام الممشوق و الشعر الطويل السود، فشكرت الشمس علي تركها اللحم تحت أشعتها ينعش و العيون بالجمال تنعم و تمنيتها أكلة شهية قرب أمواج البحر. و تمنى صاحبي أخرى على الفراش الوثير تمددت و علي ظهرها و بطنها تقلبت كتقلب السمك في الطاجين ...
و أقسم صاحبي أنه لم ير مثلها أكلة في عز الصيف فغمز صاحبي و غمزت و في بيت مهجور تم ما تم و أفرغنا الجيوب من النقود .. و تمنيت و تمني صاحبي لوهدمت السدود التي سطرت بالحدود و القلم الممدود حطي ننعم بدون عقود .. وقلت لقريبع: ‹‹هذا يومنا فلا نفرط فيه و قصدنا مجلس العم طاهر و قد جعله صاحبه لسراة القوم مقصدا ليشربوا النبيذ و يرقصوا حتى الثمالة . و قبل أن ندخل المجلس لمحنا العم الشاذلي بوصيد دكانه جالسا و علي سحنته هم و غم فخلنا أن ماله ذهب و بقي في نكد... فصارحته بذلك . رفع رأسه حيرة و تنهد من الأعماق و قال و هو يتمالك أنفاسه المضطربة:‹‹لقد ذهبت الحرة بعد أن تركت في نفسي غمة ››. فقلت مواسيا:‹‹لا عليك فالنساء في الوجود كثرة و صيدهن أيسرمن شرب الخمرة ، فالنفس له اشتاقت و لنبيذه تشوفت و ارتاحت فانفرجت اسارير وجهه و تنهد مسرورا و قام و أغلق الدكان و انصرفنا ...
و لما اقتربنا من المجلس رأينا الليل قد ذهب ظلامه، و تلألأت نجومه و أنواره و تصاعد في الجو البخور من القدور ، و تعالت الأصوات و عم الضجيج و الصياح و انتابني شك في المجلس المقصود ..، فهرول العم الشاذلي و هرو لنا خلفه و تسابقنا للجنان : خدر الأكواب الموضوعة ، و النمارق المصفوفة ، و الزرابي المبثوثة و الحور العين .. و اللحم المشوي.. رائحة زكية بعطر وزنود ونهود بيض نقية... و...
و دخلنا و دخل العم الشاذلي ... و رفع علي الأعناق .. فالجميع صحبه و بشذى أقاصيص غرامه و مغامراته تغنوا و ترنحوا .. قال العم الشاذلي مسلما :‹‹حياكم الله معشر الشباب ››
و رد الجميع بحماس فياض: ‹‹حييت يا عم ››.
ثم أخذ العم الشاذلي مجلسه و جلسنا . و عاد العم يقول هاتفا بصوته الأجش : ‹‹إلي أيتها المليحة ، هات الكؤوس التي تحيي النفوس و أسقي أهل الفؤوس ››∙
هرولت أحداهن و قدمت الشراب في الكؤوس فاشرأبت إليها الأعناق و النفوس،
فتسلمها العم و أجلس المرأة أمامه و أشربها النبيذ لتسقيه من خمرها اللذيذ ثم ارتمي عليها لتبادل الحلو و المر، ثم مد الكأس و صب الخمر على الرأس، فاشتد الغيظ بالفتاة و نهرته، و قربت إليها ‹‹قريبع›› و قد كان يتفحش مع إحداهن فغضب العم الشاذلي و أمتلأ حنقا و قال بحدة و هو يتميز من الغيظ: ‹‹لا عبثن بالمجلس يا قحاب ›› فقالت المرأة تستفزه :‹‹دع لي هذا الشاب يا عم ، فساعده بقوة الشباب معمر ، و أنت افقدتك النساء صلابته، فتهرأ ..
فأزداد غضبه ، و أمتلأ صدره حنقا و قال بصوت رفيع : ‹‹هاكم المال يا معشر القحاب .. و أخذت الدنانير تتناثر عن يمين و شمال .. و كثر الصخب و اللغط .. و تسابقت النسوة الحاضرات لجمع المال و العم الشاذلي واقف يضحك و يقهقه... رن الجرس ليعلن انتصاف الليل ، فترنحت الرؤوس ، و ذابت القلوب ..
ثم خرج العم الشاذلي و خرجنا ...

lundi 12 janvier 2009

نحو بناء حضارة اسلامية جديدة

هذا الكتاب حبرته عام 2006 بعد خروجي من السجن في قضية كيدية لا صلة لي بها مطلقا - اصدار شيكات بدون رصيد -
راجع البرقية الموجهة الى رئيس الجمهورية التونسية بتاريخ 17/جويلية 2008 المنشورة في جريد الموقف التونسية بتاريخ 12/سبتمبر2008 و موقعي الذي وقع حجبه في تونس http:islam3000.blogspot.com
------------------------
هذا الكتاب هو مجموعة مقالات نشر معظما في صحف و مجلات وطنية و عربية

واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا
واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا.
صدق الله العظيم







الإهداء


إلى التي أحيا من أجلها
إلى أمتّي



التصدير




"ما ينبغي أن يكون الفيلسوف مخترعا للمذاهب بل رسولا للحقيقة، وما دامت الشرور التي ابتليت بها البشرية قائمة بغير شفاء. وما دام مسموحا للخطأ والتحيز بأن يخلدا هذه الشرور. وما دامت الحقيقة مقصورة على القلة وعلى المميزين، محجوبة عن معظم النوع الإنساني فسيظل واجب الفيلسوف أن يبشر، بالحقيقة، وأن يحافظ عليها ويشجعها، وينيرها. وحتى إذا كانت الأضواء التي ينشرها لا تفيد في جيله وقومه، فإنها لا شك ستفيد في بلد وجيل آخرين. فالفيلسوف ذلك المواطن في كل مكان وزمان أمامه الدنيا كلها وطنا، والأرض مدرسة،والأجيال القادمة تلاميذ".






الإسلام وتحدّيات القرن 21













في أواخر القرن التّاسع عشر الميلادي كانت حركات الاستعمار الكبرى للعالم الإسلامي تركز قواعدها في الهند ومصر والجزائر وتونس والسودان.. كحلقة أخيرة من حلقات تطويق العالم الإسلامي والانقضاض على ثرواته ونهبها. وكان قد مهد لهذا الاستعمار بغزو حضاري نشيط، ابتدأه وألهب شرارته الأولى في ديار الإسلام ما يسمون عندنا «بزعماء الإصلاح العرب»! وهكذا تراجعت الرّابطة الإسلامية كشكل من أشكال البناء السّياسي القائم أمام ضربات الاستعمار الموجعة وقد توّج ذلك بسقوط الخلافة الإسلامية العثمانية عام 1924م على يد كمال أتاتورك.
لقد تمزقت الوحدة الإسلامية خلال القرن العشرين وتنازعت الدّول الكبرى ميراث الإسلام وسيطرت على أضخم قواعده وقدراته واندفعت الحركة الصّهيونية العالميّة من خلال مخطـّطات الاستعمار تسيطر على فلسطين وتجعل من احتلال بريطانيا للقدس مقدمة لسيطرتها عليها بعد خمسين عاما.
ولقد قاوم المسلمون في معارك حاسمة في أجزاء مختلفة من العالم الإسلامي في أفغانستان والقرم ومصر وسورية والجزائر والعراق وباكستان وحققوا بعض الانتصارات وتحرّرت البلاد الإسلاميّة من نفوذ الاستعمار العسكري المباشر وانبعثت من قبله «حركة تنويرية تحرّرية» بعد طول سبات.
غير أن حركة التـّنوير والتـّحرر لم تلبث أن واجهت عقبات كأداء في العقود الأخيرة من القرن الماضي وبداية هذا القرن الجديد، فقد تحالف الاستعمار الغربي والصّهيونية من أجل ضرب حركة التـّنوير والتـّحرّر ودفعها للانحراف عن ثوابتها الإسلامية ومفاهيمها القرآنيّة.. ومن ثم فانّ أخطر التحدّيات في السّنوات الأخيرة تتمثل في الحفاظ على الذّاتية الإسلاميّة وحماية الهوية الثقافية لشعوبنا الإسلامية، وتطوير هياكلها وتحرير العقل المسلم من الجمود الفكري ومن الأخطار الفكرية والمفاهيم الثقافية المنحرفة عن هداية الله التي تلقى إليه عن طريق وسائل الإعلام والاتصال المختلفة والتبشير والاستشراق والشعوبية من أجل إذابة الهوية الحضارية لأمتنا الإسلامية لدعوى "الحداثة" و"العولمة" و"العلمانية" و"اللائكية"... وهي دعاوى وإن اختلفت مسمياتها إلا أنّها تتّـفق على أن يترك المسلمون ثوابت دينهم الإسلامي ومفاهيم قرآنهم المتطابقة مع حقائق الكون والإنسان والحياة وتغييرها بفلسفات مريضة وتيّارات جانحة منحرفة من الفكر والثقافة والاعتقاد ونظرة خاطئة لحقيقة الألوهية والقدر حتى يسهل للغرب الاستعماري بعد ذلك السّيطرة علينا ونهب ثرواتنا واستغلال شعوبنا وإخضاعها لأطروحاته المعادية لكل مصالحنا...
هذا هو التحدي الكبير الذي يواجهه المسلمون في بداية هذا القرن!؟ فالقضاء على أصالة هذه الأمة وكيانها الفكري والروحي هو مقدمة لتحقيق مآرب الصهيونية اللقيطة في الاستيلاء على أرض المسلمين وخيراتهم بمساندة الغرب الاستعماري وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية!؟.
إنّ كلّ هؤلاء لا يخفون عداءهم لحملة الرّاية الإسلامية الذين اختاروا طريق الأنبياء والصّالحين في الانتصار للحق وإعلاء كلمة الله والتّمكين لشريعته في الأرض...وهذا العداء تتفق عليه مختلف تشكلانهم الثقافية والسّياسيّة والعسكريّة...
وخلاصة ما يسعى إليه الغرب الاستعماري بمعية الصّهيونية العالميّــة اللقيطة هو التدجين والاحتواء. ولعل أبرز التّحديات التي واجهت المسلمين لتدجينهم واحتوائهم تتمثل في تحريف مفهوم الإسلام وتشويهه وإخراجه من طابعه المتكامل الجامع بين الدنيا والآخرة – إذ أن حياة المسلم وكل أعماله في الحياة الدّنيا هي عبادة وتقرّب لله رب العالمين في المنظور الإسلامي -إذا ما اهتدت أعماله وكل سلوكياته بهدي القرآن العظيم- متّهمين شريعته بالتّخلف والرّجعية! ونادوا بعزله عن الحياة كما فعل اليهود والمسيحيون من قبل والذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله يشرعون لهم ويحددون لهم مفاهيم الحياة البعيدة كل البعد عن حقائق الوجود..! ودعوا إلى "اللائكية" و"العلمانية" بديلا عنه!؟ كما استغلوا جهل العامة والخاصة –من النخب المتغربة- بأهمية الشريعة الإسلامية والمفاهيم الإسلامية في الحفاظ على مكتسبات الأمة المسلمة وحماية النفس البشرية والكيان الاجتماعي من السقوط والانهيار ونادوا بالتحلل منها واستبدالها بقوانين الغرب وشريعته - والتي حولت العالم إلى غابة وحوش ضارية يأكل القوي فيه الضعيف!؟- رغم عدم انسجامها مع خصوصيتنا الحضارية وقيمنا الثقافية ومفاهيمنا الإسلامية !؟ ثم امتدت دعوة التغريب فزيفت المفاهيم حرفت الكلم عن مواضعه وشوهت المبادئ التي أقامت الحضارة الإسلامية وأوصلتها إلى أقاصي الأرض واستمد منها المسلمون القوة على الصمود والقدرة على الفعل وبناء القوة والعزة والحضارة لردح طويل من الزمن.. ويمكن حوصلة الهجمة الغربية – الصهيونية على الإسلام في النقاط التالية:
* محاربة الإسلام بنظريات زائفة كالتي تزعم أن الدين ليس سوى الانعكاس الواهم في دماغ البشر للقوى الطبيعية التي تسيطر على وجودهم اليومي (نظرية كارل ماركس).. كما شكلت مصنفات ما يسمون بفلاسفة الأنوار في القرن الثامن عشر ميلادي أرضية خصبة لمحاربة الدين عامة والفكر الإسلامي خاصة، من بعد ما تبنته نخبة هامة من" زعماء الإصلاح" في البلاد الإسلامية، ولم يدرك هؤلاء أنهم كانوا يحفرون مقابر حضارتهم الإسلامية بأيديهم!.
* محاربة القيم والمبادئ الإسلامية وكل القيم النبيلة التي تنسجم مع فطرة الإنسان السوي، بدعوى أنها قيما نسبية ومتغيرة، ومرتبطة بالبيئات والعصور وتختلف باختلاف الحضارات!.
* الدعوة إلى هدم الأسرة باعتبارها من مخلفات المجتمعات الإقطاعية وعصور الانحطاط والتشجيع على العلاقات المنحرفة كاللواط والسحاق والإجهاض كحل لبعض المشكلات الأسرية.
* الدعوة إلى قيام العلاقات البشرية على أساس المصالح المادية والعرقية والاثنية وإثارة العصبيات الطائفية والعرقية..
* محاربة اللغة العربية الفصحى، لغة الإسلام الأولى ولغة القرآن الكريم لإدراكهم الارتباط الوثيق بين اللغة العربية والدين الإسلامي ومجد ووحدة المسلمين، وقد عملوا جاهدين على ترويج الدعاوى التي تتهم اللغة العربية الفصحى بالعقم والبداوة والقوا عليها مسؤولية التخلف الحضاري للمسلمين ورفعوا شعار «من أراد التقدم والرقي فلا يتكلم اللغة العربية» زاعمين بعدم استجابة الفصحى للحضارة الحديثة وأنها لا تستوعبها وهي عسيرة على من يتعلمها ؟!
* اعتماد مناهج تربوية بعيدة كل البعد عن المنهج الإسلامي في تربية الإنسان المسلم المثبت من الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، المستضيء بنور الله الذي لا يخبو أبدا«قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين».
* خلق مفهوم صراع الأجيال حتى يسهل بعد ذلك دفع الشباب إلى الانهيار والتمزق في ظل فراغ نفسي وفكري وثقافي وعطش روحي.... وقد تخفوا وراء مذاهب ونظريات منحرفة مغرضة اثبت العلماء المحايدون تفاهتها وعدم ارتكازها على حقائق علمية ثابتة وانبناؤها على الظن والتخمين وليس لها أية صلة بالواقع، بل وقدرتها الفائقة على تخريب عقول الناشئة وصنع الرجال الجوف !
إن مجابهة هذه التحديات وغيرها تبدأ بتجديد الثقافة الإسلامية الصحيحة المبنية على الثوابت الإلهية الحقة انطلاقا من ثوابتنا القيمية والحضارية ومفاهيمنا الإسلامية المبثوثة في ثنايا الذكر الحكيم، إذ لا يعقل أن نجابه مفاهيم الزيف الحداثي والعولمة بمفاهيم عصور الانحطاط البالية في تاريخنا الإسلامي ودون أن نطور مفاهيمنا ونصححها ونجعلها تأخذ بالألباب كما أخذت بألباب رجال الجاهلية الأولى لإنبنائها على الحق والنور الإلهي.










سنن إقامة الحضارات
«زمن الانحطاط العربي» مقولة مختصرة لكنها معبرة، تعبر عن المرارة التي أضحى يشعر بها المفكر في البلاد الإسلامية وهو يرى أن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية... تزداد سوءا وانتكاسا على مر الأيام.
يحدث كل هذا بعد أن شهد ت البلاد الإسلامية جمعا من المصلحين والمفكرين الذين تخصصوا في شتى المجالات (1).
إن هذا الوضع الذي آلت إليه حالنا يحتم علينا أن نطرح السؤال التالي: ما هي الأسباب الكامنة وراء فشل البرامج الإصلاحية التي أخذت تظهر منذ مطلع القرن التاسع عشر الميلادي! ؟
أسباب الفشل:
إن المتتبع لمؤلفات رواد النهضة في بلادنا الإسلامية يلاحظ أن الانبهار بما حققته الحضارة الغربية كان عظيما في نفوسهم والانشداد إلى النمط الغربي في الحياة واضحـا وجلـيا(2) وهذا الانبهار بمنجزات الغرب جعلهم يتخذونه قدوة ومثالا، فكان النمط الغربي النهضوي حاضرا لدى جل هؤلاء الرواد(3) لذلك جاءت برامجهم الإصلاحية وتنظيراتهم تنقصها الدراسة العلمية المتأنية التي تراعى فيها الملابسات والظروف التي أدت بأمتهم الإسلامية إلى حالة من التخلف والانحطاط الحضاري.
ولا عجب بعد ذلك أن نجد منهم من يدعو إلى «أن نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم لنكون لهم أندادا ولنكون لهم شركاء في الحضارة خيرها وشرها وحلوها ومرها وما يحب منها وما يكره وما يحمد منها وما يعاب» (4).
إن الصفة المشتركة التي جمعت زعماء الإصلاح هي«افتقار الشعور بالعزة بهويتهم الحضارية الإسلامية، والانبهار الكلي بالغرب» وهذا الانبهار قد أعشى أبصارهم أن ترى الدّرب القويم والنهج السليم لنهضة أمتهم الإسلامية وبناء حضارة إسلامية جديدة تليق بخير امة أخرجت للناس وقد كلفها ربها بأن تكون شاهدة على الناس إن هي استمسكت بالنور الذي انزله الله عليها –القرآن- والتاريخ:«يعلمنا انه ما من مدنية تستطيع أن تزدهر أو تظل على قيد الحياة إذا هي خسرت إعجابها بنفسها وصلتها بماضيها»(5).

نظرة تاريخية
الإسلام ومرحلة الفكرة والمفاهيم الجديدة:
جاء الإسلام معلنا منذ بداية نزول الوحي على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم عن بداية ظهور نظرة مغايرة لما هو سائد بين البشر ومفاهيم جديدة للكون والإنسان والحياة، تختلف جذريا عما تعلمه الإنسان من مصادر بشرية ومعلنا بوضوح مخالفته لسائر التصورات(البشرية المساوية للجاهلية في المنظور القرآني): ثقافتها ومعتقداتها أخلاقها ومعاملاتها، نظمها وتشريعاتها:« اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم » (سورة العلق الآيات 3 و4 و5).. ليبرز بعد عملية الهدم مباشرة شخصيته المستقلة بكل أبعادها العقائدية والتشريعية ومختلف تصوراتها وطموحاتها على أنقاض الجاهلية (كلّ مفاهيم الإنسان عن الكون والإنسان والحياة التي تخالف المفاهيم الإلهية) والتي أعلن الحرب عليها منذ الوهلة الأولى:«كلاّ لا تطعه واسجد واقترب» (سورة العلق وهي أول ما نزل من القرآن الآية 19).
إن مراجعة بسيطة للنهج الذي اتبعه الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون في إحداث التغييرات الجذرية التي هزت جزيرة العرب يلاحظ ما يلي:
- بداية نزول الوحي على الرّسول صلى الله عليه وسلم في غار حراء وقد حمله ربه مسؤولية التبليغ وإيصال ما سيوحى إليه من قيم ومبادئ ومفاهيم جديدة عن الكون والإنسان والحياة إلى الناس كافة بدءا بالعشيرة الأقربين.
- الجهر بالدعوة الإسلامية وتحمل الأذى والصبر على تعنت الكفار وإجرامهم في حق أتباعه من المؤمنين برسالته.
- نزول ما سمي (بالقرآن المكي ويعد 86 سورة ) وهو في جملته آيات قصيرة تعالج قضايا توحيد الله وتحارب الشرك بالله بمختلف تشكلانه وتشير إلى مواطن الفساد في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وترد على بعض شبهات أهل الكتاب ومزاعم أهل مكة وتندد بتصرفاتهم المنحرفة وتصحح مفاهيم البشر عن الألوهية الحقة والربوبية الصحيحة والتي لا تجوز إلاّ لخالق الكون والإنسان والحياة العليم الخبير الذي يعلم غيب السّماوات والأرض... فالقرآن المكّي كان يدعو إلـى – فكرة جديدة ومفاهيم مغايرة لمفاهيم البشر– لتحل محل الفكر والمفاهيم والمعتقدات الجاهلية في ذهن المتقبل حتى تؤثر في فكره ووجدانه تمهيدا للانتقال به إلى مرحلة أخرى قادمة.
- كان الرّسول صلى الله عليه وسلم يدعو أصحابه الذين آمنوا بدعوته بالصّبر على الأذى والتنكيل الذي كانوا يتعرضون له على يد كفار قريش وعدم الرد بالعنف على الاضطهاد الذي كان يسلط عليهم – رغم استعداد بعض الصحابة للقيام بذلك... ولما اشتد الاضطهاد على بعض الصحابة نصحهم عليه الصلاة والسلام بالهجرة إلى الحبشة لان بها ملكا لا يظلم الناس عنده أبدا.. وقد استمر الرسول وأصحابه في الاستمساك بالمفاهيم الالاهية الجديدة والالتزام بالدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ومجادلة الكفار والمشركين وكل المناوئين بالتي هي أحسن. ولم يسجل لنا القرآن أو المؤرخون أن أحدا من الصحابة قد كون عصابة للرد على اضطهاد قريش أو تحرير البيت الحرام من أيدي كفار مكة ومشركيها.. بل كان سلاح المؤمنين الوحيد: الدعوة إلى الإسلام الحق والجهاد بآيات القرآن الكريم والتي تحمل المفاهيم الجديدة وإبلاغها إلى مسامع المشركين والصبر على إذا هم امتثالا لأوامر الله في القرآن المكي-سور القرآن التي أوحى الله بها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بمكة-.
- ثم جاءت حادثة الإسراء بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم لتتوج المرحلة المكية *مرحلة الفكرة والمفاهيم الجديدة*، وأهم ما يمكن استخلاصه من حادثة الإسراء هو بداية تلقي المسلمين لبعض التشريعات والعبادات كالصلاة وهي تشريعات عملية تستوجب توفر الأمن للقيام بها وهو ما يعني حدوث نقلة نوعية كبيرة، لان المرحلة المكية التي سبقت حادثة الإسراء تميزت بتركيز القرآن على المعتقدات الإسلامية والمبادئ الذهنية والمفاهيم الجديدة عن الكون والإنسان والحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والقيم الأخلاقية ومحاربة التمظهرات المتنوعة للكفر والشرك والتشهير بانحرافات زعامات قريش العقائدية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها.. وهذا يعني أن حادثة الإسراء كانت بمثابة التمهيد للإعلان عن انتقال المسلمين من مرحلة «الفكرة» إلى مرحلة « الدولة».
الإسلام ومرحلة الدولة:
بعد حادثة الإسراء أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة، وقد مهّد عليه الصلاة والسلام لهجرته وهجرة أصحابه عندما التقى بالأنصار – الاوس والخزرج- وأخذ منهم عهدا بحمايته وحماية أصحابه ونصرة الدين الذي بعثه الله به إلى الناس كافة وكان قد سبقه بعض صحابته إلى المدينة لتوضيح الغامض من دعوته..
- في المدينة أصبح للمسلمين أرض آمنة وقد امن جل أهلها بالرسالة الإسلامية وثروات متعدّدة وقوّة مادية استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم بما اوتيه من حكمة الاهية وبصيرة قرآنية من أن ينشئ منهم مجتمعا مسلما يعتنق العقيدة الإسلامية ويحتكم إلى الشريعة الإسلامية في علاقات إفراده بعضهم ببعض وتنتظم علاقاته وفق التصور الإسلامي والمفاهيم الإسلامية في الأسرة والمجتمع وعلاقاته الداخلية والخارجية... ثم كون الرسول \ القائد جيشا قوامه مؤمنون باعوا أنفسهم وأموالهم لله رب العالمين مقابل الفوز بجنة عرضها السماوات والأرض..« إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم » (سورة التوبة الآية 111)... إن تكوين الجيش الإسلامي جاء بعد تكوين الدولة الإسلامية لحمايتها من الأعداء المتربصين.
- ولم يمر زمن طويل حتى إذن للذين أوذوا في سبيل الله بالقتال واستعمال السلاح لاسترجاع حقوقهم المنتهبة من الكفار والمشركين وصد عدوانهم ومكرهم بالمسلمين..
- في مرحلة تالية بدا المسلمون- بقيادة رسولهم عليه الصلاة والسلام- يفكرون في نشر الدعوة الإسلامية خارج حدود دولتهم الفتية، وبدا الرسول \ القائد السياسي والعسكري في بعث السرايا والجيوش إلى مختلف الأصقاع لفتحها ونشر الإسلام فيها حتى تعم رحمة الإسلام الناس كافة.... استجابة لنداء "القرآن المدني".
إن هذا التسلسل الذي اتبعه الرسول \ القدوة صلى الله عليه وسلم وأصحابه في نشر الدعوة الإسلامية ومن ثم بناء الحضارة رغم وضوحه في السيرة النبوية (6)قد تغاضى عنه المسلمون في العصر الحديث فغابت عنهم الأولويات مما أوقعهم في المحظورات وأبعدهم عن هداية الله.

الرأسمالية الغربية
لقد مثلت الحداثة الغربية – قطيعة تامة بين عهود الظلام السابقة وبين ما سمي بفلسفة الأنوار التي نادت بتحرير الإنسان من سلطة الكنيسة وجبروتها وحرضته على امتلاك زمام أموره وكسر القيود الذي فرضته عليه عهود من الجهل والانحطاط، فلقد استفاق الأوروبيون فوجدوا ركاما ضخما من التجارب والمعارف التي خلفتها حضارات عديدة بما فيها الحضارة الإسلامية، فأغراهم ذلك بالتمعن فيها بحثا عن السبيل الموصل إلى البناء الحضاري والتقدم والتحرر من جهالات رجال الدين عندهم. وما انفك هذا الشعور يتنامى في أوروبا منذ القرنين الحادي عشر الميلادي والثاني عشر خصوصا في فرنسا وايطاليا...
وانتبه الغربيون بعد هيمنة طويلة فرضتها الكنيسة الكاثوليكية واثر تزايد قهر الأباطرة، وصار بعض المفكرين يتحسسون طريق الخلاص من تبعات عصور الانحطاط. وكان لتضخم ممارسات الكنيسة الكاثوليكية ولاستفحال السياسة القهرية التي ينتهجها الأباطرة دور كبير في تصعيد الاستياء وتنمية رصيد الشعور الرافض بعد يقين عمقته الملاحظة بان ممارسات الاكليروس ومقررات البابا فاقدة للمصداقية لأنّها تتضارب مع حقائق الوجود وتطلعات الإنسان نحو الإنعتاق... فهي تفرض وصايتها عليه!؟ وكان للجامعات أللاهوتية التي وقع بعثها في بعض أقطار أوروبا كالسربون مساهمات في المجال المعرفي وتأثيرات حتى في الكنيسة ذاتها(7).
إن فقدان الشّرعيات الدّينية مصداقيتها ليس فقط بالنّسبة إلى بعض المثقفين...
ولكن في الشرائح العريضة للمجتمعات الغربية بأسرها هو الذي ولد مفهوم العلمانية الداعي إلى تخليص قطاعات المجتمع والثقافة من سيطرة المؤسسات الدينية ونواميسها.. وقد سعى مفكرو عصر الأنوار(8) إلى تنوير الشّعب وتحريره من ظلم الكنيسة وجبروتها، فرفعوا في وجه الكنيسة التي كانت تبيع صكوك الغفران – "اللائكية"، وفي وجه رجال الدين واستغلالهم للشعب باسم الرب، رفعوا" الحرية والإخوة والمساواة"..
إن إزاحة الغربيين لتأثيرات الكنيسة عن مجرى حياتهم نظرا لما أصبحت تمثله من عقبات كأداء أوجد لديهم الحافز الـقوي علـى البـحث والتنـقيب واستنباط النـظم السياسية والاقتصادية والنظريات العلمية والمعرفية وغيرها بمعزل عن تأثيرات قرون من التخلف والجهل.. والذي ساهمت فيه بقسط وافر قناعات رجال الدين المسيحي الضالة عن وحي الله وكلماته في التوراة والإنجيل والقرآن..

الماركسية
عاش ماركس(1818-1883)ضمن المجتمع البرجوازي، وعاين عن قرب أوضاع العمال المتردية، ذلك أن العامل رغم قيامه بالعمل والإنتاج إلا انه لا يتمتع بثمار سواعده، حيث أصبحت الطبقة البرجوازية الرأسمالية هي المالكة" بل المغتصبة لما ينبغي أن يكون ملكا للعمال من وسائل الإنتاج "...يقول ماركس في معرض تحليله للأوضاع المتردية التي أفرزتها الطبقة البرجوازية:« إن البرجوازية لم تكتف بصناعة الأسلحة التي سوف تؤدي إلى فنائها بل أنجبت الرجال الذين سوف يستعملون هذه الأسلحة – اعني بهم عمال العصر الحديث - الذين يؤلفون البروليتاريا وكلما ازدادت قوة البرجوازية أي رأس المال ازداد نمو البروليتاريا، تلك الطبقة التي تضم العمال الذين لا تتوفر لهم أسباب العيش إلاّ إذا وجدوا عملا، ولا يحصلون عليه إلا إذا كان هذا العمل منميا لرأس المال. فهؤلاء العمال الذين يضطرون إلى عرض أنفسهم للبيع يوميا هم معرضون نتيجة لذلك إلى كل تقلبات المنافسة التي تعتري السوق... لقد صار العامل فقيرا وتفاقم الفقر بسرعة تفوق سرعة نمو السكان وتراكم الثـّروات... فمن البين إذن أن البرجوازية لم يعد في إمكانها القيام لمدة طويلة بدور الطبقة المسيرة (9)تكشف لنا هذه الوثيقة عن وعي ماركس بالظلم والحيف الاجتماعي الذي يعاني منه العمال في مجتمع تسوده الأنانية والاستغلال وسلوك كل السبل للإثراء ولو على حساب فقر الملايين من العمال.لا تهمنا هنا تحليلات ماركس وتنبؤاته الخاطئة فذاك أمر آخر! ما يهمنا هو الموقف الفكري والسلوك الحضاري الذي انتهجه تجاه واقع معين...تبنى ماركس إذن هموم العمال ومشاكلهم، وسعى إلى إنشاء منظومة فكرية تمثلت في نظريته – المادية التاريخية – ذلك أنها تقوم على مبدأين أساسيين: هما المادية المنطقية والمادية التاريخية. ذلك أنها تنظر إلى المادة على أنها أساس كل أمر في الحياة، وأن البشرية مسيرة في مختلف أطوارها بتأثير المادة فقط (10) يقول ماركس موضحا ذلك: « إن الأفكار لا يبتدعها دماغ الإنسان... وهذا الدماغ ليس إلا مادة دقيقة التركيب وهو جزء من الجسم يعكس مؤثرات العالم الخارجي »(11).
شنّ ماركس وأتباعه حملة منظمة ضد النظام الرأسمالي وكل مبادئه وقيمه طارحين بدائل أخرى وقيما جديدة، ومبشرين بإيجاد جنة أرضية يحكمها الكادحون والعمال والفقراء – ففي جريدة البرافدا ركز لينين حملاته تحت شعار: « كل السلطة للسفيات * الأرض للفلاحين... الخبز للجائعين...
وفي أكتوبر سنة 1917 قامت الثورة البلشفية، الثورة التي أنبنى على أساسها ما كان يسمى بالاتحاد السوفياتي..
بعد هذا الاستعراض السريع لثلاث حضارات مختلفات.. نعود لنطرح على أنفسنا السؤال التالي: ما هي السنن والقوانين التي تتحكم في إقامة الحضارات الإنسانية ؟
بناء الحضارة:
إن استقراءنا للحضارة الإسلامية والحضارة الغربية بشقيها الرأسمالي والماركسي يمكننا من بلورة السنن والقوانين التي تتحكم في إقامة الحضارات في النقاط التالية:
1- فكرة إنسانية سامية:
وهذه الفكرة يمكن أن تكون دينا سماويا أو بشريا أو منظومة اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية... تحمل في طياتها صفة العالمية واستطاع مفكرو الشعب أن يقنعوه بان فكرته التي يتبناها هي أسمى فكرة على الإطلاق وأن هذه الفكرة لا تحمل سعادته هو فقط بل مرشحة لإنقاذ البشرية كافة، وتستحق هذه الفكرة أن يضحي الشعب من اجلها ويغامر حتى تتجسد على ارض الواقع، ثم نقلها إلى بقية شعوب العالم لتستفيد منها وتخرجها – من الظلمات إلى النور- ومن الاستغلال إلى التمتع بخيرات الحياة وطيباتها... ومن الجور والظلم إلى العدل والمساواة... ومن ظلمات القرون الخالية إلى نور الحياة ورفاهيتها.إن أي برنامج إصلاحي أو منظومة فكرية عاجزة عن تحقيق النهضة المنشودة في الشعوب إن لم تكن تحمل في طياتها هذه السمة، وعجزت عن إقناع الشعب الذي يتبناها بسموها وتفوقها على كل الأفكار والمنظومات الأخرى.
2 - تقزيم الخصم والحط من فكره وقيمه(12)
وهذا القانون هو مواصلة للقانون الأول في شروط إقامة الحضارات إن تقزيم الخصم والحط من قيمة منظومته الفكرية عملية تأتي مواصلة للعملية الأولى وهدفها الوصول بالشعب المراد إنهاضه إلى مرحلة الشعور بالعزة وهذا الشعور يأتي كنتيجة حتمية لاعتقاد هذا الشعب بسمو فكرته ومعتقداته ومنظومة القيم التي تحكمه والتي تفوق في سموّها جميع القيم والمعتقدات والمفاهيم الأخرى، بل قد لا يعطي هذه المفاهيم أهمية البتة ما دام يملك ما هو أسمى.. وهذا يرتبط ارتباطا وثيقا بمدى تماسك أفكاره وصدقها وتطابقها مع الواقع وقدرتها على الإقناع ومدى اعتقاده فيها وحنكة مفكريه وقدرتهم على تشويه الخصم وأفكاره ومعتقداته..
نخلص إلى القول بأنّه متى توفرت لدى أي شعب من شعوب الدنيا منظومة فكرية تحتوي على فكرة سامية واقتنع هذا الشعب بأنها أعظم فكرة على الإطلاق في تلك الفترة من الزمن واقتنع بوجوب نشرها والتضحية في سبيل إيصالها إلى الشعوب الأخرى...عندها يبدأ ذلك الشعب بصفة تلقائية يسير رويدا رويدا نحو النهضة ومن ثم تكوين حضارة متفوقة على ما عداها من الحضارات القائمة... والسبب في ذلك يعود إلى أن إدراك هدا الشعب لسمو فكرته وعالميتها يدفعه إلى البحث والتنقيب في كل المجالات الحياتية والعلمية لإثبات سمو فكرته عمليا للآخرين كي يعتنقوا مثله القيم التي يؤمن بها من جهة، وإقناع خصومه بتفاهتهم ومحاولة " تقزيمهم" أمام عظمة فكرته وتكاملها وقدرتها على إسعاد الناس جميعا. كما تدفعه إمكانية مواجهة الخصم ماديا إلى الاعتناء بالمجال الاقتصادي والصناعي وتكوين جيش قوي لمجابهة كل التحديات الممكنة والتي يمكن إن تهدد فكرته..
وهكذا تبدأ حضارة هذا الشعب صاحب الفكرة والمفاهيم السامية الجديدة في صعود، أما أصحاب الحضارات الأخرى، إن كانت هناك حضارة قائمة فإما أن ينظموا إلى أصحاب الحضارة الصاعدة ويعتنقوا فكرتها السامية ويساندوها ويدعموها بمعارفهم وبالتالي تصبح إنجازاتهم تنتمي إلى الحضارة الجديدة. وإما أن يتزعزع اعتقادهم في فكرتهم التي بنوا عليها حضارتهم، فيفتقدون بذلك الحماس القادر على تمكينهم من مواصلة الإبداع وبناء الحضارة، عند ذلك تبدأ حضارتهم في أفول مستمر...وتضعف قوتهم المادية والمعنوية شيئا فشيئا أمام القوة الصاعدة والحضارة الجديدة.. كما يصبح الشعب صاحب الحضارة الآفلة مقلدا لظواهر وسلوكيات صاحب الحضارة الصاعدة، اعتقادا منه أن هذا التقليد قد يعيد فيه الحيوية من جديد– لكنه يبقى كالذي يريد أن ينجو من الغرق وما هو بناج، لأنه كلما اغرق في التقليد ابتعد أكثر عن إمكانية الشعور بالعزة، فتتبعثر أموره وتتذبذب حاله ويصبح كالكلب إن تحمل عليه يلهث وإن لم تحمل عليه يلهث..
الخاتمة
ظلّ " المفكرون وزعماء الإصلاح " في البلاد الإسلامية يعتقدون طويلا بان الأنظمة والتشريعات السياسية والاجتماعية هي التي ستنهض أمتهم من كبوتهم، فاقتبسوا أنظمة الغرب وتشريعاته، لكن دون جدوى... وما دروا انه على الرغم من تنوع الأنظمة والتشريعات قامت الحضارات العديدة في التاريخ الإنساني .
إن القوانين والتشريعات ما هي إلا شكل من أشكال التنظيم في المجتمعات البشرية وتنبع عادة من حاجيات هذه المجتمعات وطموحاتها وتنبثق عن منظوماتها القيمية والفكرية ومفاهيمها عن الكون والإنسان والحياة .. وليس هناك أي سند تاريخي أو واقعي يدل على أن الحضارة تبنى نتيجة لهذه القوانين والنظم والتشريعات وإنما هو التباس الأوضاع وضبابية الرؤيا.
-----------------------------
المراجع
1* (أمين)احمد: زعماء الإصلاح في العصر الحديث بيروت – دار الكتاب العربي 1979.
- ( شرابي)هشام: المثقفون العرب والغرب بيروت – دار النهار 1973.
2* انظر كتاب الرحالون العرب وحضارة الغرب في النهضة العربية الحديثة د نازك سابايارد الطبعة الأولى 1979.
3 *نفس المرجع
4 *مستقبل الثقافة بمصر د طه حسين .
5 *الإسلام في مفترق الطرق تعريب عمر فروج .
6*راجع مثلا: دراسة في السيرة للدكتور عماد الدين خليل، مؤسسة الرسالة، الطبعة الخامسة 1981.
7* كارل ماركس" بيان الحزب الشيوعي"
8*(يكن)فتحي:كيف ندعو إلى الإسلام ص55
9*خفاجي المحامي (عبد الحليم )حوار مع الشيوعيين في أقبية السجون ص55
10*المرجع. العلمانية وانتشارها غربا وشرقا ،فتحي ألقاسمي – سلسلة موافقات –الدار التونسية للنشر – فيفري 1994)
11*فولغين(ف)فلسفة الأنوار- بيروت – دار الطليعة ط1981
12*يقول الله عز وجل : « الله ولي الذين امنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون » - (سورة البقرة الاية257 )
* ويقول فولتير احد زعماء التنوير الأوروبي: إن محمدا ولد أميرا واستدعي لتسلم مقاليد الأمور عن طريق الناس له ... ولو انه وضع قوانين سليمة ودافع عن بلاده، لكان من الممكن احترامه وتبجيله ولكن عندما يقوم راعي ابل بثورة ويزعم انه كلم جبريل وانه تلقى هذا الكتاب غير المفهوم الذي تطالع في كل صفحة منه خرقا للتفكير المتزن حيث يقتل الرجال ويخطف النساء لحملهم على الإيمان بهذا الكتاب، مثل هذا السلوك لا يمكن أن يدافع عنه إنسان لم تكن الخرافات قد خنقت فيه نور الطبيعة.
*ويقول ماركس:« إن كل دين ليس سوى الانعكاس الواهم في دماغ البشر للقوى الطبيعية التي تسيطر على وجودهم اليومي»



أية ثقافــة نريد؟

اشتقت كلمة الثقافة من ثقف يثقف، وثقف العود بمعنى سواه وهذبه وبذلك يصبح مدلول كلمة ثقافة كل ما من شانه تهذيب سلوك البشر والرقي به من حالة الحيوانية إلى مدا رج الإنسانية الفاضلة.. إن الثقافة لها أهمية قصوى لدى الكائن البشري فهي لا تخرج عن كونها تهذيب لخصائص الإنسان الطبيعية، وتشذيب لخصاله المتوحشة، وتغيير لما جبلته عليه فطرته الحيوانية تغييرا يستوي بالتدريج هوية ثقافية.. وإذ تعلو الثقافة بالكائن البشري عن منازل التوحش، فإنها تكسبه خصائص جديدة يؤصلها فيه تراكمها وتصاعدها، فتغير لديه جوهره الطبيعي الغريزي المتوحش، ويكون التغيير تهذيبا وتشذيبا من جهة وتعديلا وتبديلا من جهة أخرى. فالثقافة تهذب، على سبيل الذكر، غريزة التناسل وحب البقاء، فتنقلها بالتشذيب والتثقيف من طور التوحش الغريزي إلى طور الثقافة المكتسبة التي تقيدها بمؤسسة الزواج مثلا، وتحسنها باختلاجات الوجدان وصنائع العقل...
كما تعكس الثقافة ـ بمفهومها الأنتروبولوجي ـ خصوصية المجتمع والقيم التي يتبناها والمفاهيم التي ينظر من خلالها إلى الحياة والكيفية التي يتعامل بها الفرد مع نفسه ومع بقية الأطراف الاجتماعية.. كما تعكس مواقف تلك المجموعة البشرية من الكون والحياة والعالم وما بلغوه من ارتفاع فكري ورقي حضاري ونماء ذوقي.. وازدهار الثقافة أو تطورها متوقف إلي حد كبير علي ما يسود بين أفراد المجتمع وجماعاته من حوار بناء وتنافس نزيه في مختلف ميادين الحياة ودروبها ومشكلاتها، بما يعنيه من تنوع في وجهات النظر وترك الفرصة أمام جميع الفرقاء ليدلي كل واحد بدلوه دون إقصاء. وهذا لن يحدث ما لم يلتزم كل صاحب رأي بأدب النقاش والاختلاف، جاعلا نصب عينيه أن غايته من بذل الجهد الفكري هو تقدم بلاد الإسلام وعزتها وتحصينها ضد كل الأدواء التي يمكن أن تعرضها للخطر، عندها، يصبح اختلافنا رحمة تنشر ظلالها الوارفة وثمارها اليانعة علي الجميع فنختار الرأي الأصوب والأقرب لمصلحتنا حاضرا ومستقبلا، مـتـعـاونين ومتحفزين دوما إلي ما هو خير وأحسن، ونرتقي في جو من التسامح والتعاون والتكامل...
لقد احتاجت الأمم الناهضة دائما إلى بلورة فكرية- ثقافية في شخصيتها وقيمها ومعاييرها.. فلكل شعب من شعوب الدنيا سماته وشخصيته المتفردة. ومهمة المفكر أو المصلح في أية امة من الأمم هي البحث عن هذه السمات والخصائص بغية اكتشاف ما فيها من عناصر أصيلة لتقريبها واخذ الصالح منها. وما يمكن أن يكون فيها من شوائب دخيلة ومن ثم يعمل عل حذفها واستبعادها. وهي مهمة صعبة وعسيرة وتحتاج إلى كثير من الإرادة والمسؤولية.. وإذا ما أردنا النهوض من كبوتنا الحضارية فلا بد لنا أن نجعل من الثقافة الإسلامية والثوابت الالاهية ركيزة أساسية من ركائز التغيير ودعامة صلبة للمجتمع المدني الذي ننشده وحافزا لكل نهضة وإبداع حضاري.. فلا تقدم ولا تطور لمجتمع بشري بدون ثقافة ناضجة ومتحفزة لاختراق الآفاق واعتلاء القمم.. تستنفر كافة قوى الإنسان وطاقاته وقدراته على البذل والعطاء والمشاركة الفعالة في تحريك هياكل المجتمع والمساهمة في بناء لبناته وتأسيس كيانه ونحت ملامحه..
إن كل مجتمع ينشد الرقي والازدهار لا بد له من ثقافة مميزة يتخذها ركيزة ودعامة صلبة للانطلاق والإقلاع الحضاري وإلا فانه سيضيع في متاهات الطريق. ويفقد توازنه على الفعل وتحبط أعماله ومجهودا ته وينتكس إلى الوراء...
فما هي أبرز الخصائص التي نريدها لثقافتنا...؟ وما هي حدودها...؟
إن الثقافة التي نريد، لها مواصفات وقرائن وهي تلك التي لها القدرة الكاملة علي تلبية حاجياتنا العضوية والغرائزية، وتتوفر علي قدر من الانسجام مع شخصيتنا الحضارية والعقائدية والمفاهيم القرآنية وتستجيب لطموحاتنا الفكرية والروحية بحيث تصل بالفرد والمجموعة إلى الانسجام والتوازن المادي والمعنوي، وتحفزهم لبلوغ ما وراء العرش تطورا وازدهارا ومواجهة تحديات:« الأخر/ العدو» على كافة الأصعدة: الثقافية والسياسية والاقتصادية والعسكرية.. ولا قيمة لثقافة تطلب من الإنسان أن يعيش مسكينا ومحروما من ملذات الدنيا وطيباتها التي أحلها الله لعباده:« قل من حرم زينة الله التي اخرج لعباده والطيبات من الرزق ».. ولا قيمة لثقافة تكبت غرائز الإنسان الطبيعية أو تطلب منه تأجيل تلبيتها إلى وقت يصل فيه إلى حافة القبر.. أو تعطل طاقاته ومواهبه أو تحد من طموحه ورنوه إلى أعلى.. كما نرفض ثقافة تطمس شخصيتنا وتميزنا، وتسعى إلي دمجنا وصهرنا إلي حد الذوبان في «الأخر/ العدو» لتحيلنا في النهاية إلي إذناب ليس لهم حول ولا قوة...
ويمكننا أن نجمل مرتكزات الثقافة التي نريد في النقاط التالية:
*الإيمان بالله خالق وحيد للكون والإنسان والحياة ورب أوحد الجدير بالطاعة والخضوع وإتباع أوامره..«اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق.» (سورة العلق الآية 1و2).
*القرآن الكريم الكتاب الوحيد الذي يحتوي على الحقائق المتطابقة مع الواقع في الكون والإنسان والحياة والمجتمع وهو الكتاب الوحيد الذي يستمد منه المسلم كافة مفاهيمه في مختلف ميادين الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، داخليا وخارجيا..لأنه من عند الله العزيز الحكيم« إلاّ يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ».
*لا بد من العودة إلى التأسي والاقتباس من المرحلة التاريخية التي تم فيها ميلاد المجتمع الإسلامي الأول، فلهذه الفترة قدسيتها وعصمتها لان رعاية الله كانت مستمرة، وتسديد الوحي كان مرافقا لكل خطوة وخلجة نفس، وهذا لن يتأتى لأية مرحلة تاريخية أخرى من حياة الأمة المسلمة. فالسيرة النبوية تشكل بالنسبة لنا أنموذج الإقتداء الوحيد الذي يجب أن يحتذى والمعالم ووسائل الإيضاح لآيات القران المجيد للاهتداء على ضوئها والسير طبقا لتعاليمها، إن تلك القدسية لا يمكن أن تكون لأية فترة ماضية أو حاضرة أو مستقبلة...
*بناء الإنسان المؤمن بالله الذي يستلهم في علاقاته بالكون والإنسان والحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الثوابت القرآنية ويستمد منها مفاهيمه وإن تلك الثوابت هي حقائق أزلية قد سارت على هداها كل المجتمعات\القدوة في الصلاح والتطور وقيادة الشعوب من لدن نوح عليه السلام.. إلى محمد الرسول القدوة. فالسيرة النبوية تشكل لنا أنموذج الإقتداء الوحيد الذي يجب أن يحتذي والمعالم ووسائل الإيضاح لآيات القران المجيد-المكي والمدني- للاهتداء على ضوئها والسير طبقا لتعاليمها.فهي المعين الذي يمد المسلمين في العصر الحديث بدروس العبر وضوابط النصر والظفر. يقول الله عز وجل: « شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه...» (سورة الشورى الآية 13).
*هناك صنفان من البشر لا ثالث لهما في الثقافة الإسلامية والمفهوم القرآني: مؤمن /أو كافر. مؤمن متبع لهدى الله قد اختار أن يتخذ من الله ربا ومن الإسلام دينا يخضع لشريعته بملء إرادته. وكافر معرض عن ذكر الله وآياته قد اتخذ أربابا أخرى من دون الله. فمنذ هبوط ادم إلى الأرض خاطبه الله قائلا: « فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن اعرض عن ذكري فان له معيشة ضنكا...» (سورة طه الآيات 123- 124).
هذه حدود ومرتكزات للثقافة التي ننشدها لا بد من استحضارها دائما ونحن نرنو إلي مستقبل أفضل، جاعلين نصب أعيننا انتمائنا الحضاري إلى خير امة أخرجت للناس وقد انزل الله عليها القران لتكون رحمة للعالمين. وشاهدة عليهم دنيا وآخرة.



أية حداثة نريد ؟

رغم مرور أكثر من قرنين منذ أن غزا بونابرت مصر سنة 1798م فان سؤال ‹‹كيف نتقدم؟››لا يزال يطرح بأشكال متعددة..
فمنذ تلك الغزوة بدا المسلمون يفركون عيونهم بعد نوم عميق كان سببا في إخراجهم من حلبة التنافس الحضاري لزمن طويل.. وقد اختلفت المقاربات وتنوعت في كيفية امتلاك منابع القوة والقدرة على الفعل وصنع أحداث التاريخ مرة أخرى كما كان أجدادنا يفعلون منذ انبلاج فجر الإسلام العظيم. فهم قد امتلكوا ناصية الأمم لردح طويل من الزمن وقادوها بالنور الذي انزله الله على امة الإسلام رحمة للبشرية كافة..
لقد أضحت قضية ما صار يعرف ب" الحداثة " قضية محورية مزمنة في تاريخ المجتمع العربي الإسلامي الحديث، ولم تتوضح الحلول المقنعة لجميع الأطراف إلى حد الآن..
وفيما يلي سأحاول تقديم مقاربة لقضية الحداثة الإسلامية عساي أساهم ولو بلبنة في المضي قدما للحسم في هذه القضية الشائكة....
فماذا نقصد بالحداثة تحديدا ؟
ما نعنيه بالحداثة هو: ‹‹ ذلك الصراع المحتد بين الأمم من اجل آن تكون امة هي الأقوى والأغنى والأوربي من بقية الأمم.. وامتلاك القدرة على التغيير الذاتي والتطوير المستمر نحو الأفضل لجميع هياكلها المسيرة، ويحصل أهلها على الأمن من الاعتداءات، مطمئنة مستقرة لا يخاف أهلها ولا يضايقهم شيء.. ".يأتيها رزقها رغدا من كل مكان"...››
وعلى النقيض من ذلك فان الأمة المتخلفة هي تلك التي يعيش أفرادها الجوع والحرمان والفزع والهلع ويشتد ألمهم علي مر الزمان، كما يكثر التطاحن والاجتماعي والصراع بين أفرادها!!...
فما هو السبيل لبناء حداثة إسلامية جديدة ؟
لقد احتاجت الشعوب التي استطاعت تشييد حضارة وقيادة الأمم في مرحلة زمنية معينة وتتوفر على معاني الحداثة التي حددناها آنفا إلى‹‹فكرة إنسانية سامية›› تأخذ بالألباب وتبهر العقول وتثير العواطف الإنسانية وتحرك الحواس الناعسة...فلقد حمل العرب المسلمون فكرة ‹‹إخراج الناس من الظلمات إلي النور››... ورفع الغرب شعار ‹‹تخليص الإنسان من القصور الذي كبلته به الكنيسة بوصايتها عليه والدعوة إلى الحرية والأخوة والمساواة››.. ووعد الاشتراكيون أتباعهم ب‹‹إيجاد جنة أرضية للعمال المسحوقين››...
وهكذا احتاجت هذه الحضارات الثلاث: (الإسلامية والغربية والاشتراكية)إلى:‹‹ فكرة إنسانية سامية›› لتجلب إليها الأنصار وتضمهم إلي صفوفها وتجعلهم مستعدين للنضال والتضحية في سبيل إنزال هذه ‹‹الفكرة السامية›› إلي الواقع المعيش ليحيا في ظلها الناس، بل وكان أنصار هذه الفكرة يغزون أو يفتحون أو يستعمرون الأصقاع باسم هذه ‹‹الفكرة الإنسانية السامية››... ولقد مثلت ‹‹ﺍﻠﺣﺪﺍﺜﺔ›› دائما قطيعة تامة بين عهدين، عهد الظلمات والمظالم والتخلف وعجز الإنسان عن الفعل الايجابي والغيبوبة التاريخية، وبين عهد جديد يتحرر فيه هذا الإنسان من سلطة التراث والتبعية والتقليد الأعمى لهذا الطرف أو ذاك وامتلاك زمام النفس والمبادرة وكسر القيود ـ بمختلف تشكلاتها التي تكبله.... وتمنعه من التحاور مباشرة مع واقعه، واختيار أنجع الطرق والوسائل والتقنيات لتجاوز الموروث سواء أكان هذا الموروث ينتمي إلي حضارة الأجداد أو حضارات الأمم الأخرى، قديما كان أو حديثا..
فالإنسان‹‹الحداثي›› هو ذاك الذي يمتلك القدرة الفائقة علي الاستفادة من الموروث الإنساني في جميع الميادين متحررا من كل ما يعيقه عن الإضافة والإبداع والتجاوز ومزيد بسط سلطته وهيمنته على الكون والحياة والارتقاء بأخيه الإنسان إلى السيادة المطلقة على كل شيء في هذا الكون الشاسع، حتى يتفرغ بعد ذلك لعبادة خالق الكون والحياة، فالإنسان سيد وحيد لهذا الكون والله رب وحيد للإنسان، فلا يخضعن هذا الإنسان لسلطة أخرى مهما كان مصدرها...سوى لسلطة الله خالق الكون والحياة والإنسان... وهو(الإنسان)في كدح متواصل حتى يلتقي بالملا الأعلى.. وقد أفرغ جميع شحناته وطاقاته وقدراته في هذه الأرض التي قبل أن يكون سيدا عليها وعبدا لخالقها وحاملا لأمانة الله في الأرض:« أنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان انه كان ظلوما جهولا ».
لقد ابتلي المسلمون قديما وحديثا بمن حول أحداث التاريخ وتجارب المسلمين السابقة إلي صنم / عائق يتعبدون في محرابه مرددا قول العرب القدامى في مواجهتهم للإسلام:‹‹ما سعنا بهذا في آبائنا الأولين›› و‹‹إنا وجدنا آبائنا علي امة وإنا علي أثارهم مقتدون ›› متناسين التزامهم بتوحيد الله والخضوع لربوبيته بما يعني عدم خضوعهم إلاّ لأوامر الله ونواهيه والسير على هدي القرآن العظيم. وقد حالت هذه المواقف المتخلفة بيننا وبين الحداثة الحق والتقدم السليم ورؤية ما يدور حولنا من أحداث متجددة ووقائع حياتية معاصرة تفرض علينا حلولا أخرى غير التي ارتآها أجدادنا لتغير الملابسات ! وكل هذا يتطلب اجتهادا وإعمالا للعقل لاستنباط الحلول الملائمة للمشكلات المعيشية والحياتية التي تواجهنا في حياتنا الدنيا وتعيق بلداننا عن النهوض والتقدم وتحقيق العزة والشهادة على بقية الأمم والشعوب بما نمتلكه من ثوابت الاهية/آيات / بصائر في الكون والإنسان والمجتمع تهبنا القدرة على معرفة السلوك القويم في مختلف دروب الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها...
كما ابتلينا بمن اتخذ منجزات الغرب وحضارته صنما/عائقا يعتقل عقلنا ويمنعنا من فهم متطلبات حياتنا وتحقيق سيادتنا على حاضرنا ومستقبلنا. وقد حال كل ذلك بيننا وبين الاعتماد على النفس لتحقيق إنجازاتنا الحضارية الخاصة بنا حتى نكون أهلا لقيادة العالم من جديد.
فما نملكه من ثوابت إلهية في جميع ميادين الحياة يعطينا الحق في قيادة الشعوب – إن نحن استمسكنا بها- والتصدر لتوجيهها نحو الخير والفضيلة حتى نكمل رسالة من ابتعثه الله رحمة للناس كافة..
إن الإبداع الحضاري والابتكار والتقدم مرهون إلي حد كبير بثقة الإنسان في صحة مبادئه واعتقاده في تفوقها على جميع المبادئ الأخرى، وإن ما نتج عن الحضارة الغربية إلي حد الآن من تعميق للهوة بين الفقراء والأغنياء ومن احتجاجات عالمية عن ‹‹الكيل بمكيالين ›› وما نراه ونسمعه من تطاحن رهيب وتقاتل على الحكم والمسؤولية باسم الديمقراطية الغربية.. وعدم استقرار للمجتمعات الغربية نفسها، وانتشار للظلم والعنصرية والحروب المدمرة واستفراد أقلية بالثروات الكونية... كل ذلك يجعل من إقناع الأمة الإسلامية بصحة هذه المبادئ والقيم الغربية أمرا متعذرا إن لم يكن مستحيلا، خاصة وهي الوارثة للقرآن العظيم الذي لم يثبت إلي حد اليوم أنه يحتوي على آية واحدة من شانها أن تعرقل التطور أو تقف في وجه الإبداع الحضاري في مختلف الميادين، لأن هذه الآيات لم تعالج مطلقا متغيرات الحياة البشرية وإنما نصت جميعها علي الثوابت/الحقائق التي تتطابق مع الواقع في الكون والحياة والإنسان وهي معادلات تخترق الزمان والمكان. وقد تركت هذه الآيات حرية الإبداع والاجتهاد في كل المتغيرات المعيشية التي يمكن أن تطرأ على حياة الإنسان بشرط استلهامه هذه الحقائق في اجتهاداته المختلفة. ففي قضية العلم مثلا نجد النص القرآني لم يحدد مطلقا الوسائل والأساليب التي يمكن أن يتبعها الإنسان لتحصيل العلم واختراق الآفاق وتحقيق الاكتشافات لأنها متغيرة بتغير الزمان والمكان وبحسب اجتهاد الإنسان وحاجاته، لكنها أجمعت كلها على ضرورة طلب العلم وجعله مفتاحا لكل ما يفيد الإنسان في دينه ودنياه، وفي السياسة نص القرآن علي وجوب الشورى في جميع ما يهم شؤون المسلمين الخاصة والعامة وحث المسلمين علي العدل واجتناب الهوى والحكم بما انزل الله في كتابه العزيز وعدم التمييز بين الناس:«يا أيها الذين امنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو اقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون» (سورة المائدة الآية 8 )، وتحريم الفساد في الأرض أو قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق أو جعل ثروات البلاد -التي هي ملك لله - دولة بين الأغنياء... وطالب باشتراك المسلمين جميعا في تحمل المسؤولية وتكوين: "أمّة" تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتتبع ما أوحى الله به إلى محمد صلى الله عليه وسلم /قدوة كل من أسلم وجهه لله رب العالمين، خلال مرحلتين: مرحلة الدعوة(المرحلة المكية)ومرحلة الدولة(المرحلة المدنية ).. وهكذا دواليك.... ودور الإنسان أن يعتمد هذه الثوابت المعلنة لاستنباط المؤسسات الكفيلة بإنزالها إلي حيز الواقع المعيش حتى ينعم الناس - جميع الناس- برحمة السماء ويأمنوا على حياتهم وأرزاقهم ومكتسبا تهم ويمتلكوا القدرة علي الإضافة والإبداع ويواصلوا أداء رسالتهم في الحياة.. يقول الله عز وجل :‹‹قل لوكان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفذ كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا ›› ﴿الكهف الآية عدد 109 ﴾ فما الذي أصابنا في العصر الحديث حتى صرنا عاجزين عن استنباط ما يلزمنا من حلول لإصلاح معيشتنا انطلاقا من آيات الله التي لا تنفذ معانيها أبدا وصرنا نتخبط خبطا عشواء معرضين عن نور الله!؟
إن اقتحام أ متنا لعصر العولمة باقتدار وجدارة وامتياز، رهين لشروط وقرائن لأبد من استحضارها جميعا حتى نفوز بقصب السبق في جميع الميادين الحضارية:
* إذ لابد من استعمال عقولنا وحواسنا نحن لمواجهة مشكلاتنا الحياتية، واستنباط ما يلائمنا من حلول لمختلف مشكلاتنا بما يتوافق مع مصلحتنا حاضرا ومستقبلا مستندين في ذلك إلى كتاب الله، بدلا من استنساخ الحلول القادمة من وراء البحار وإسقاطها على شعوبنا المسلمة والكف عن استعارة عقول ‹‹الآخرين /الأعداء›› وطرق تفكيرهم ومناهجهم في بحث المشكلات العالقة...
*لا بد من استحضار الواقع المعيش بكل تجلياته وتعقيداته.. ولا فائدة من ستر أمراضنا مهما كان الداء مستحكما بدعوى الحفاظ على أسرارنا وعيوبنا حتى لا يستغلها الأعداء !!؟ إن منطق التستر على الآفات التي تكدر صفو حياتنا السياسية والثقافية والاجتماعية والعلمية وغيرها قد زاد الطين بلة حتى صارت الجراثيم تصول وتجول وترتع حيثما شاءت وتعفن ما قدرت على اقتحامه من حياتنا حتى بدا لنا العلاج متعذرا لشدة ما فتكت بنا الأمراض وألحقته في نفوسنا من أذى وفي أجسادنا من جراح مثخنة. وكل هذا يتطلب وقفة حازمة صادقة خالية من العقد لنواجهه بصبر وثبات وننقذ حياتنا مهما تطلب ذلك من تضحيات....
*لا بد عند بحثنا لمجمل قضايانا أن نعود إلي ثوابتنا القيمية والحضارية والتي يمكن اختزالها في القرآن أساسا مستعينين في فك المستغلق من هذه الثوابت ـ إذا شئنا ـ بإنجازات كل الحضارات الإنسانية بدون استثناء دون إن يعيقنا ذلك عن المضي فدما في طريق بناء الحضارة الإسلامية الجديدة مستفيدين مما يمكن الاستفادة منه ودون الارتهان لتلك الإنجازات قديمها وحديثها...
إن أخذ كل هذه الشروط والاعتبارات لمواجهة كل مشكلاتنا الحياتية والحضارية من شأنه أن يعيد لنا القدرة علي الفعل والتحفز أكثر على الإنجاز واختراق الأفاق وبلوغ ما وراء العرش تطورا وازدهارا وتقدما حتى نكون أهلا لقيادة مسيرة البشرية من جديد.

الهجرة في سبيل الله

تعني الهجرة بأبسط مدلولاتها الانتقال من مكان إلى مكان وهجر مكان إلى أخر لأكثر من سبب، وهي قضية قديمة قدم وجود الإنسان على الأرض... لكننا سنهتم فيما يلي فقط بالهجرة في سبيل الله ومفهومها في القرآن.. تبتدئ الهجرة إلى الله باعتزال فكري/ نفسي داخل المجتمع الذي يحيا فيه المؤمن وذلك بالانخلاع من العادات والعبادات والتصورات والمفاهيم غير الإسلامية... وتنتهي بهجرة عملية حركية بالانتقال من موقع إذا ما تبين عقمه في مجال العطاء الإسلامي إلى مواقع أخرى أكثر خصبا ونماء..
1- الاعتزال الفكري/ النفسي وعدم الركون إلى الظلم:
الاعتزال الفكري يعني معرفة الحق ومن ثم الارتحال إليه فكريا والالتزام به قولا وعملا والثبات عليه والاستمساك به، وهو طريق الرسل عليهم السلام وكل الذين اختاروا السير على دربهم من المؤمنين عبر مختلف أحقاب التاريخ البشري – منذ نزول ادم عليه السلام إلى الأرض-. وهي ثمرة الأيمان بالله خالق الكون والإنسان والحياة، وتوحيده والخضوع لأمره، وبالتالي هي اصطباغ بالمفاهيم الإسلامية في النظرة للكون والإنسان والحياة والمجتمع التي ضمنها الله كتابه المعجز الموحى به إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم.. .يقص القرآن علينا قصة أصحاب الكهف – الفتية الذين امنوا بربهم : « هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين فمن اظلم ممن افترى على الله كذبا. وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا» (سورة الكهف الآيتين 15 و16). كما اخبرنا الله عن قصة نبيه إبراهيم عليه السلام مع أبيه وقومه: « واعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا» (سورة مريم الآية 4).
إن الإيمان بالله يوجب على المسلم الاستقامة بإتباع الوحي في كل صغيرة وكبيرة دون تجاوزه مهما كانت المبررات والضغوطات.!«فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا انه بما تعملون بصير. ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون» (سورة هود الآيتين112 و113).
إن استمساك المؤمن بالحق والخضوع لأوامر الله ونواهيه في العقيدة وما ينبثق عنها من سلوك قويم في مختلف ميادين الحياة ليس بالأمر الهين في محيط مجتمع تهيمن على معتقدات أفراده الأباطيل والخرافات وعلى سلوكياتهم وأقوالهم الظلم والفساد والمنكر والتقليد الأعمى لميراث الأجداد بغثه وسمينه:«وإذا قيل لهم اتبعوا ما انزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان إباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون»(سورة البقرة الآية 170)... إن التعارض والتضاد والتناقض حد العداء بين ما أصبح ينتهجه المؤمن من سلوك قويم مستندا في ذلك إلى أوامر الله في القرآن بفضل إيمانه بالله رب وحيد لكل مفاهيمه في الحياة وبين معتقدات المجتمع ومفاهيمه التي ترتكز أساسا على موروث الآباء والأجداد أو ما ترتئيه أهواؤهم أو ما يشرعه لهم نخبهم ورجال أديانهم... ينتج عنه حتما صراع بين أهل الإيمان الذين يستمدون مفهوم حياتهم من القرآن وبين أهل المعتقدات الزائفة. فيبدأ أهل الضلالات في أذية المؤمنين اعتقادا منهم أن الأذى قد يعيد المؤمنين إلى دائرة الجهل والطواغيت التي تعبد من دون الله وتطاع وتتخذ مرجعا في تقويم السلوك وسن التشريعات.. لكن الإيمان بالله يشحن المؤمنين بقدرة على تحمل إلاّ ذي والصبر على المكاره ومكر المناوئين والاستقامة كما أمر الله عز وجل في كتابه العزيز طمعا في مرضاته والفوز بجنته وعدم إتباع أهواء الذين لا يعلمون، متخذين من الرسول الكريم قدوة لهم: «قل يا عبادي الذين امنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وارض الله واسعة إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب» (سورة الزمر الآية 10).«لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا»(سورة الأحزاب الآية 21)

2- الهجرة في سبيل الله:
تعد الهجرة معلم خالد من معالم الدّعوة إلى الله وتحقيق العبودية لله رب العالمين.. وهي إحدى وسائل الصراع وصور المواجهة في المعركة بين الحق والباطل وطريقة للاستمساك بالحق والانتصار له... فهي في مضمونها وفي أصل شرعيتها انتصار للإيمان واستعلاء به وتحطيم للأغلال والقيود التي يحاول أعداء الحق إحكامها حول المؤمنين، وكسر للحواجز التي تحيط بالمؤمنين حتى لا يبلغوا دعوة الله، وسبيل لعدم السقوط تحت أقدام الطغاة والجبابرة استذلا لا واستعطافا لان ذلك يتنافى وكرامة الإنسان المؤمن وعزة نفسه.. لذلك يلاحظ المتأمل لحركة النبوة -من لدن ادم عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم- بان التفكير بالهجرة لا يبدأ والإذن بها لا يتحصل إلا عندما يستحيل أمر الدعوة ويحاط بها من كل جانب ويهدد الدعاة إلى الله في حياتهم وعندما تنعدم كل الخيارات إلا خيار الهجرة.. ومثال ذلك هجرة سيدنا موسى عليه السلام إلى مدين عندما أحيط به من كل جانب «وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملا يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين» (سورة القصص الآية 20 ). كما تقررت هجرة ا لرسول محمد صلى الله عليه وسلم وإذن بها لما اجتمع كيد الكفار في دار الندوة على الاشتراك في قتله وتوزيع دمه على القبائل «وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين» (سورة الأنفال الآية 30).
فالهجرة تتوجب عندما تفتقد الفاعلية ويتوقف العطاء على أرض المعركة وانسحاب مؤقت للعودة للمواجهة بوسائل أخرى، وهي ليست حركة انسحابية من المجتمع وتخليا وهروبا من مواجهة الظلم واستسلاما لواقع اليأس والإحباط.. وليس إيثارا للراحة وطلبا للعافية ولو كان الأمر كذلك لفقدت الهجرة هدفها وثوابها وأثرها وكونها وسيلة من وسائل التغيير الاجتماعي التي اعتمدها الأنبياء/ القدوة عليهم السلام .. لذلك لا يجوز للمؤمن التفكير في الهجرة إلى خارج الأرض التي يسكنها إلا إذا سدت الآفاق أمامه وفتن في دينه وظلم..«والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة اكبر لو كانوا يعلمون. الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون» (سورة النحل الآية 41 و42).
فالهجرة في سبيل الله هي إذن مواصلة للدعوة إلى الله والبحث عن النصرة لدين الله والتمكين لشريعته في ارض الله الواسعة:«ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم» (سورة النحل الآية 110)، لان المؤمن يعتقد أن الأرض كلها لله يورثها عباده الصالحين، «الموسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين» (سورة الأعراف الآية 128 ). بل إن انتصار الحق على الباطل وتمكين الله للمؤمنين في الأرض هو قانون من قوانين الله في الكون والحياة:«ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون»(سورة الأنبياء الآية 105 ).












الرحمة المهداة للعالمين
عاش الرسول الأمي محمد صلى الله عليه وسلم يتيما فقيرا مدة أربعين سنة ثم اجتباه ربه من بين جميع البشر ليكون المبلغ عن الله كلماته للناس كافة، وقد كان محمد صلى الله عليه وسلم في مستوى التكليف والمسؤولية الملقاة على عاتقه، فاستوعب آيات الله البينات، وامن بها وجسدها في أخلاقه ومعاملاته ومعتقداته ونظرته لكل تفاصيل الحياة البشرية فكان خلقه القرآن، واستطاع بصبره على أذى قومه بمكة أن يؤسس مجتمعا إسلاميا بالمدينة يدين بالإسلام في جميع مناحي الحياة الثقافية والسياسية الاجتماعية والاقتصادية والتشريعية...
إن آيات الله الموحى بها إلى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم تتناول كلها الحقائق والمفاهيم الثابتة في الكون والإنسان والحياة لأنها من عند العزيز العليم رب السماوات والأرض، ربّ العالمين، وهي حقائق لا تتبدل ولا تتغير منذ خلق الله الكون والإنسان والحياة، وقد أوحى الله بهذه الحقائق إلى كل أنبيائه عليهم السلام بلغاتهم المختلفة لتكون للمؤمنين بهؤلاء الأنبياء النور الذي به يهتدون في ظلمات الحياة ودروبها المتشعبة المدلهمة، يقول الله العليم الحكيم:«شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب» (سورة الشورى الآية 13).
لقد جاءت كلمات الله البينات لتفك كل رموز الحياة وتصحح مفاهيم الإنسان عن الألوهية والربوبية الحقة والكون والإنسان والحياة وتجعل الإنسان على بينة من أمره ليحيا من حيي عن بينة ويهلك من هلك عن بينة، وهي مهمة قد تكفل الله بها منذ نزول ادم عليه السلام إلى الأرض:«قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون» (سورة البقرة الآيتين 38 و39). وقد شاءت حكمة الله عز وجل أن يجعل من أسباب الحياة الطيبة الهنية الاهتداء بآياته البينات في جميع مناحي الحياة، يقول الله عز وجل:«قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى. ومن اعرض عن ذكري فان له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى. قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا. قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى» (سورة طه الآيات 123و124و125و126 ).
لقد كرّس الرّسول محمد صلى الله عليه وسلم كل حياته في سبيل إنارة درب أمته الإسلامية بمفاهيم الإسلام وجعلها خير امة أخرجت للناس للشهادة عليهم وقيادتهم وإخراج من شاء منهم من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده خالق الكون والإنسان والحياة الجدير بالعبادة، ومن ضيق الدنيا - بفعل الأغلال والتقاليد التي يلزمون بها أنفسهم إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان الباطلة إلى عدل الإسلام ورحمة الله التي وسعت كل شيء، قدوته في كل ذلك جميع الأنبياء السابقين عليهم السلام ما داموا يشتركون جميعا في حمل نفس الرسالة الموحى بها من الله رب العالمين: «يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم. وإن هذه أمتكم امة واحدة وأنا ربكم فاتقون.» (سورة المؤمنون الآية 51 و52). إن إقتداء الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بالرسل من قبله يأتي من منطلق وحدة الرسالة الالاهية التي بشروا بها أقوامهم على اختلاف أزمانهم وأوطانهم كما يأتي استجابة لأوامر الله عز وجل الذي قص عليه قصصهم في القرآن مع أقوامهم وكيفية تعامل كل واحد منهم مع قومه في التبشير والإنذار بالرسالة الالاهية التي كلفوا جميعا بإبلاغها إلى أقوامهم في إطار من الوضوح والبيان يقول الله عز وجل:«أولئك الذين أتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فان يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين. أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسالكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين» (سورة الأنعام الآيتين 89 و90).
فالله عز وجل قد أبان للإنسان المنهج الحق والشريعة الحق منذ خلق ادم عليه السلام لذلك نجده عز وجل يخاطب عبده ادم عليه السلام قائلا:«اهبطوا منها جميعا – الجنة- فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون» (سورة البقرة الآيتين 38 و39 ). كما نجد الله عز وجل يذكر المسلمين دائما بان القرآن هو كتاب الله الخالد الذي جاء مصدقا لما بين يديه من التوراة والإنجيل وكل الكتب الالاهية السابقة له:«إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى»(سورة الأعلى الآيتين 18و19)وعندما يخاطب الله بني إسرائيل يقول لهم:«يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون. وامنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون» (سورة البقرة الآيتين 40 و41). كما أن عقيدة المؤمن مبنية أساسا على الإيمان بالله وجميع كتبه ورسله... يقول الله عز وجل:«امن الرسول بما انزل إليه من ربه والمؤمنون كل امن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين احد من رسله وقالوا سمعنا واطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير» (سورة البقرة الآية 285 ). وعندما يأمر الله عز وجل المؤمنين بصيام شهر رمضان يذكرهم بان فريضة الصيام قد فرضت على المؤمنين من أتباع الرسل السابقين أيضا... يقول الله تبارك وتعالى:«يا أيها الذين امنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون»(سورة البقرة الآية 183). والحاصل إن شريعة الله مكتملة منذ خلق الله عز وجل ادم عليه السلام وقرر أن يجعله خليفة في الأرض، فأوامر الله ونواهيه ثابتة لا تتغير ولا تتبدل بتغير الزمان أو المكان، وكانت المهمة الأساسية لرسل الله عليهم السلام تذكير أقوامهم بها ليسير على هديها من شاء ويكفر بها من شاء، والمتبعون لها يسميهم الله:«المؤمنون والمهتدون وأولو الألباب وأولو العلم...» وغير المتبعين لتعاليم الله يسميهم الله:«المشركون والكفار والمنافقون والعصاة والظالمون والذين لا يعقلون والجاهلون كما يشبههم الله عز وجل بالأنعام بل هم أضل... وبالتالي لم يترك الله إمكانية للاجتهاد البشري في الدين ولو كان هذا المجتهد نبيا أو رسولا. فالتشريع قد اختص الله به دون سائر البشر وكل ما يحتاجه المؤمن في حياته الدنيا قد فصل الله فيه القول تفصيلا.. وقد أعلمنا الله عز وجل انه:«ما فرطنا في الكتاب من شيء» و«وكل شيء فصلناه تفصيلا». وهذا الإخبار ينزع عن المجتهدين في الدين أي مشروعية، بل إن الله يعتبر أن أتباع هؤلاء المجتهدين في الدين :"قد اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم" كما فعل اليهود والنصارى من قبل ..وبالتالي فان المجتهدين في الدين وأتباعهم هم كفار ومشركون في المفهوم القرآني! فالمؤمن بالله حق الإيمان المقتنع بربوبية الله عز وجل لا يحتاج لانتهاج السلوك القويم إلاّ لكتاب الله الذي انزل آيات بينات استطاع محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه من الأميين فهمها واستيعابها وإقامة دولة إسلامية قوية على أساسها أوصلت تعاليم الله إلى أقاصي الأرض.إن سلوك المؤمن يعتبر كله عبادة لله إذا ما اهتدي بهدي القرآن.. ولا يعبد الله إلا بما شرع في كتابه العزيز.
الوحي الإلاهي:
لقد جاء الوحي الالاهي منذ بداية نزوله على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم مبشرا بقراءة جديدة للكون والإنسان والحياة والربوبية الحقة والألوهية الصحيحة ومفاهيم مغايرة لما تعارف عليه البشر واصطلحوا عليه واستنتجوه من خلال تجاربهم الحياتية المحدودة زمانا ومكانا... إن القراءة الجديدة التي بشر بها الإسلام تصطبغ بصبغة الله الذي أحسن كل شيء خلقه:« اقرأ باسم ربك الذي خلق» فهي قراءة تبتدئ باسم الله وتنتهي باسم الله وهدفها الأساس فهم كلمات الله البينات لتجسيمها في الواقع المعيش للإنسان والسير على هداها في جميع مناحي الحياة لان كل سلوك المؤمن هي عبادة لله رب العالمين ما دام هذا السلوك منضبط بأوامر الله ونواهيه، وغايته ابتغاء وجه الله والإخلاص لدينه والفوز برضاه في الدنياوالآخرة...
لقد اخطر الله نبيه عليه السلام منذ بداية إنزال الوحي عليه بأنه عز وجل قد: «علم الإنسان ما لم يعلم» حتى لا يخطرن ببال إنسان مهما أوتي من علم انه يجوز له أن يفتي بغير ما انزل الله ولو كان نبيا:«قل ما كنت بدعا من الرسل وما ادري ما يفعل بي ولا بكم إن اتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين»(سورة الاحقاف الاية9). «وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا. ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا. إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا» (سورة الإسراء الآيات 73 و74 75. (
إن علم الله يتجاوز كل قدرات الإنسان الذهنية فالله قد أحاط بكل شيء علما أما معارف الإنسان فهي نسبية ومحدودة وهي مجرد استنتاجات وتخمينات قد تخطئ وقد تصيب، فالإنسان عاجز بقدراته الذهنية ووسائله المحدودة زمانا ومكانا أن يعرف السلوك القويم للإنسان في مختلف مجالات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية... وإنما هو قادر فقط بما وأتيه من إمكانيات ذهنية وتجريبية وتاريخية.. وقدرة على الاستفادة من حياة الكائنات والعوالم الأخرى أن يستنبط الحلول الملائمة لتطوير معيشته وابتكار أنجع السبل والوسائل لتيسير حياته كابتكار وسائل فلاحية متطورة والارتقاء بوسائل النقل البري والبحري والجوي وتيسير وسائل التعلم والمعرفة وصناعة آلات حربية ووسائل عسكرية اقدر على الفتك بالإنسان والتدمير وإهلاك الحرث والنسل...وقد سمى الله عزّ وجلّ كلّ ذلك "العلم بظاهر الحياة الدنيا": « يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا» (سورة الروم الآية 7). فاكتشاف القوانين الفيزيائية والكيميائية والجيولوجية وغيرها وتطويع كل ذلك لتيسير معيشة الإنسان وجلب الرفاهية له أمر متيسر لجميع البشر إذا ما تعلقت همتهم بذلك، أما السلوك الإنساني الرشيد الذي يرضي الله عز وجل ويضمن الحياة الطيبة والهانئة والمطمئنة للإنسان... فأمر متروك لخالق الكون والإنسان والحياة وحده، العليم بأسرار مخلوقاته، المطلع على كل خفاياها الظاهرة والباطنة...
الألوهية والربوبية:
لا أحد من الخلق ينكر أن الله عز وجل هو خالق كل شيء في الوجود وانه تعالى قد أحسن كل شيء خلقه، يقول عز وجل:«ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ». لكن الإشكالية الكبرى التي تنازع فيها البشر ولا يزالون يختلفون فيها ويقتتلون من أجلها ويتصارعون هي: ربوبيّة الله سبحانه وتعالى، والرّبوبية تعني في أبسط مفاهيمها خضوع العبد المؤمن بألوهية الله إلى كل أوامر الله ونواهيه والعمل بمقتضى آيات الله البينات، لذلك تساءل الله سؤالا استنكاريا:«أتقتلون رجلا يقول ربي الله ؟!». والذي يقول: "ربي الله" هو في المفهوم الإسلامي هو"المؤمن الحق "الذي يستحق الفوز بجنة عرضها السماوات والأرض، لذلك يتكرر في القرآن اقتران الإيمان بالله ب"العمل الصالح" أي العمل الذي يستضيء بنور الله وإلا أصبح إيمان المرء عدميا أي لا قيمة له، فالعمل الذي لا يقترن في ذهن صاحبه بربوبية الله أي أن يكون القصد منه التقرب إلى الله والسعي لمرضاته هو عمل كالهباء المنثور، يقول الله عز وجل: «وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا» ويقول أيضا: «والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الضمان ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب » (سورة النور الاية39). صدق الله العظيم.


جدلية الحداثة التغريبية
والتخلف الحضاري

لعل أغرب ابتكارات الحداثيين التغريبيين في عالمنا الإسلامي زعمهم أن كل ما هو قديم يتعارض مع الحداثة وبما أن«النص الديني» قديم في تقديرهم فلا يمكن حينئذ أن «يكون الأدب حديثا إلا اذا رفض كل نص مقدس» (كمال أبو ديب (. ولا يمكن لعاقل أن يقبل مثل هذه المعادلة التي تتنكر لأبسط حقائق الوجود، فالواقع لا يقر أبدا برفض القديم لأنه قديم أو قبول الجديد لمجرد انه جديد، بل يقبل الإنسان عادة على الأشياء التي يراها قادرة على تحقيق رغباته والإيفاء بحاجياته وتجسيد طموحاته.. فنحن حين نقرا للمعري مثلا أو المتنبي أو أبي نواس لا شك أننا نستفيد من تجربتهم الشعرية رغم طول العهد بيننا وبينهم، وبالتالي لا يمكن أن تطرح قضية الحداثة من حيث القدم أو الجدة بل الأصح أن تطرح قضية الحداثة من ناحية قيمة الشيء ومدى فاعليته في حياتنا المعاصرة. فما نراه نافعا لنا وقادرا على دفعنا نحو التجاوز والإبداع الأدبي أو التقدم الحضاري نستحضره ونأخذ منه ما يروق لنا وندع ما لا نفع فيه، فالمسالة لا تتعلق بمدى جدة الشيء أو قدمه زمنيا بقدر ما تتعلق«بجدوى الشيء أولا جدواه». فالشاعر طرفة بن العبد مثلا لا يزال حاضرا في ذاكرتنا فاعلا رغم طول العهد بيننا وبينه في حين يموت بعض شعراء« الحداثة » قبل أن يولدوا.
أما بخصوص النّص الدّيني ولأفترض أن- المقصود به القرآن – فلم تقف ولن تقف نصوصه –قديما أو حديثا- حجر عثرة في وجه الإبداع الأدبي أو غيره من المجالات الإبداعية والحضارية لسبب بسيط وهو أن هذه النصوص لم تتناول أبدا المتغيرات التي يمكن أن تطرأ على الحياة البشرية في أي زمان أو أي مكان وإنما نصت جميعها على الثوابت / الحقائق في الكون والإنسان والحياة وتركت للإنسان حرية التصرف في المتغيرات التي يمكن أن تطرأ على حياته بشرط أن يستلهم المسلم في اجتهاداته المختلفة تلك الثوابت ويستنير بحقائقها.. ولنأخذ مثلا قضية العلم، فالنص القرآني لم يحدد مطلقا الوسائل والأساليب التي يمكن أن يتبعها الإنسان لتحصيل العلم واختراق الآفاق لأنها متغيرة بتغير الزمان والمكان وبحسب اجتهاد الإنسان، لكنها أجمعت كلها على ضرورة طلب العلم واعتباره مفتاحا لكل ما يفيد الإنسان في دنياه وأخرته ولا يصح إيمان المرء إلا بالعلم الصحيح الذي هو القرآن...

إن أولئك الذين يربطون الحداثة بالمتغيرات الدائمة دون الارتكاز على ثوابت تحمينا من المنزلقات والمعوقات الخطيرة يريدوننا أن نكون كالشجرة التي اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار فلا تثمر أبدا بل تزداد يبسا على مر الزمن.أما الثوابت الواردة في النص القرآني / الديني فهي قادرة على جعلنا شجرة يانعة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها – إن نحن استرشدنا بها واتخذناها بصائر لنا – حتى لا نسير بالبشرية في دياجير الظلمة والضبابية المهلكة كما هوبائن في الحضارة الغربية المتداعية للسقوط.!.بل نشبع جوعها ونروي عطشها ونهديها طريق الأمن ورحمة السماء.
فالمتغيرات« الحداثية» إذن تدعونا إلى الضبابية وترك زمام أمورنا تذروها الرياح، مذبذبين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، ديدنا التردد والحيرة والتيه في دياجير الظلمة والتخلف والانحطاط.
توزيع الثروة في البلاد الإسلامية
درجت الحكومات في العالم الإسلامي على الإلقاء باللائمة على شحّ الموارد الطبيعية وقلة الثروات الاقتصادية في تفسير مظاهر الفقر بين الناس وعدم قدرتها على تلبية حاجيات مواطنيها والإيفاء بمتطلبات حياتهم الاجتماعية والصحية والثقافية وغيرها، وهذا لعمري تمويه وتضليل لعموم الناس حتى لا يطالبوا بحقهم في ثروات بلادهم، لان المشكلة الحقيقية التي توصل المواطنين في بلد ما إلى الفقر والحرمان بمختلف تشكلانه ليس فقر البلاد وقلة مواردها كما يزعم المضللون والمستكبرون بل التوزيع الظالم- الذي لا تراعى فيه حدود الله - للثروة مهما قلت، وعلى هذا الأساس فالمشكلة التي يجب أن يبحث لها عن حل هي فقر العباد وليس فقر البلاد، وعدم حصولهم على كفايتهم من الحاجيات والرغائب أي عدم قدرة الأفراد على تلبية حاجياتهم العضوية والغرائزية والفكرية...، وبعبارة أخرى المشكلة تكمن في توزيع الثروة وليس في إنتاج الثروة، فإنتاج الثروة أمر لا يختلف حوله الناس كاستعمال أحدث التقنيات العلمية والتقنية والتكنولوجية في الإنتاج..
أما مشكلة فقر الأفراد فأمر لا مناص منه فتحتاج إلى حل والحل يختلف باختلاف وجهة النظر والمفاهيم التي يؤمن بها الإنسان في الحياة كما يختلف باختلاف الشعوب والأمم على عكس مشكلة إنتاج الثروة.
وعلى خلفية المفهوم الإسلامي « الخلق كلهم عيال الله فأحبهم إلى الله انفعهم لعياله » يصبح مفهوم تآخي الناس والمساواة بينهم في المجتمع وأمام القضاء لا معنى له إذا لم تعززه عدالة اقتصادية واجتماعية تضمن لكل فرد حقه إزاء ما يقدمه لمجتمعه أو للناتج الاجتماعي، وتكفل ألا يستغل احد أحدا أو يبخسه حقه. فالعامل مثلا له أجره العادل لقاء مساهمته في الإنتاج والمعاملة الحسنة من قبل صاحب العمل، والحد الأدنى الذي يجب أن يحصل عليه العامل لقاء ما يقدمه من خدمات للمجتمع هو ما يؤمن للعامل كفايته من طعام جيد وملبس حسن له ولأسرته دون أن يكلف ما لا يطيق. أما الحد الأمثل فهو كما قرره النبي صلى الله عليه وسلم، الأجر الذي يمكن العامل من أن يأكل ويلبس، كما يأكل صاحب العمل ويلبس، فقال عليه الصلاة والسلام:« إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم من كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل ويلبسه مما يلبس » (رواه مسلم والبخاري). وعليه فان الأجر العادل لا يمكن أن يكون أقل من الحد الأدنى، وما ذلك إلا لينخفض التفاوت في الدخول ولتضييق الهوة التي تفصل العامل عن صاحب العمل في شروط معيشتهما، وهذا التفاوت لو حصل في المجتمع المسلم من شانه أن يوهن روابط الأخوة التي تعتبر سمة أساسية من سمات المجتمع المسلم الحق.
إن التفاوت الفاحش في الدخول والثروات وهو ما نراه اليوم منتشرا في كل « الدّول الإسلامية » ينافي جوهر الإسلام لان فيه قضاء محتما على مشاعر الأخوة التي يريد الإسلام بثها بين المسلمين" إنما المؤمنون إخوة"، وليس هناك أي مبرر يدعو إلى حصر الثروة « التي هي ملك لله خالق السماوات والأرض » عند قلة من الناس طالما أن الخالق سبحانه وتعالى لم يجعلها وقفا على فئة معينة.
إن عدالة التوزيع لثروة البلاد الإسلامية بين المسلمين في حدها الأدنى على الأقل من شانها أن توفر لكل فرد مستوى من المعيشة تهيؤه لان يحيا حياة تليق بكرامة الإنسان. ويتوجب على الدولة بعد ذلك أن تعمل على تامين العمل لمن يبحث عنه وإثابة العاملين بالأجر العادل وجمع الزكاة ليعاد توزيع الدخل للفقراء الذين لا يستطيعون ضربا في الأرض أو يعانون من معوقات عقلية أو جسمية أو يرزحون تحت وطأة ظروف خارجة عن إرادتهم كالبطالة مثلا وتطبيق شريعة الله في الإرث ليؤول إلى اكبر عدد من الناس.
الحضارة الغربية
وتفريخ الإرهاب
لعل أبرز ما يميز الحضارة الإسلامية على غيرها من الحضارات هي إيلاؤها الإنسان أهمية قصوى لا حدود لها، فلا شيء يعلو على حياة الإنسان / أي إنسان وضمان رفاهيته واستقراره النّـفسي والمادي:«فليعبدوا ربَّ هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وأمنهم من خوف»(سورة قريش الآية 3و4).. يستوي في ذلك كل الناس على اختلاف مواقعهم الاجتماعية والثقافية والسياسية، لان حياة كل البشر هي هبة من الله وبالتالي فهم عبيد متساوون في العبودية لله حتى وان أنكر بعضهم ذلك.
ومن هذا المنطلق فلا يجوز أن يستعلي احد على احد أو أن يظن أن حياته هي أهم من حياة الآخرين بسبب مركزه الاجتماعي أو السياسي أو الثقافي، ومن هنا يعتبر إزهاق روح بشرية واحدة ظلما وتعسفا هو بمثابة إزهاق أرواح البشر جميعا، وإحياء نفس بشرية (إنقاذها من الهلاك مثلا)هو إحياء للناس جميعا في الثقافة الإسلامية.
إن قداسة حياة الإنسان في الحضارة الإسلامية تجعل من إمكانية الاعتداء على فرد بسبب موقعه الاجتماعي أو انتمائه العرقي أو بسبب توجهاته الفكرية أو السياسية عملا مرفوضا جملة وتفصيلا في الثقافة الإسلامية، يستوي في ذلك المؤمن وغير المؤمن ما لم يبادر بالاعتداء وارتكاب جرم يوجب القصاص... إن مثل هذا المفهوم يغيب في الحضارة الغربية التي تزعم التفوق على من عاداها من الحضارات!؟. فأوروبا منذ بدايات القرن التاسع عشر الميلادي بادرت باضطهاد الشعوب واستعمارها ونهب خيراتها.. بمجرد امتلاكها للقوة التي تقهر بها تلك الشعوب، وأمريكا اليوم تبادر باضطهاد شعوب بأكملها لمجرد الحفاظ على مصالح تراها حيوية، وتدعم الصهيونية المقيتة لاغتصاب أراضي الغير وقتلهم وتشريدهم... فلا عجب أن نرى بسبب ذلك انتشار ظاهرة الجماعات الإرهابية، والتي هي حالة مرضية كردة فعل على حضارة مريضة لا تقيم أي وزن للإنسان / الآخر، وآن الأوان لاستبدالها بحضارة إسلامية جديدة ومتطورة تقوم على ثوابت الرحمان بدلا عن ترهات الإنسان وجهالته..

الإسلام يكره الإرهاب ويجرم الإرهابيين
صار ما يعرف بـ« الإرهاب الإسلامي » ظاهرة تتفاقم كل يوم وتسجل حضورها في مناطق مختلفة من العالم. ولقد سجل الإرهاب العالمي حضوره بكثافة في وعي الرأي العام العالمي كثافة الآلام التي يسببها لأناس أبرياء لا صلة لهم – في الغالب الأعم – بالسياسة والحروب التي يفجرها مصاصو دماء الشعوب... فهل في نصوص القرآن(مصدر سلوك المسلم الحق) ما يبرر مثل تلك الأعمال القتالية خاصة وأن الإرهابيين يزعمون أنهم يخوضون ضد الكفار حربا جهادية ركيزتها آية من آيات القران الكريم: «واعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوفى إليكم وانتم لا تظلمون»(سورة الأنفال المدنية الآية 60).؟!
لقد جاء الإسلام رحمة للعالمين.. من عرب وعجم وأهل كتب الاهية سابقة«وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين»(سورة الأنبياء الآية107).. ووعد أتباعه المؤمنين بالقرآن، المتبعين لوحي الله بالعزة والقوة والتمكين لهم في الأرض.. « ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون » (سورة الأنبياء الآية 105). ورسم لهم في كتابه المجيد كل الثوابت والسنن الحضارية التي تورثهم الأرض وتجعلهم قادرين على قيادة العالم بالعدل والحق والقسطاس المستقيم والشهادة على الناس... ولقد كان الرسول محمد صلى الله عليه وسلم خير قدوة عملية لإنزال آيات القرآن العظيم / الثوابت الالاهية في الكون والإنسان والحياة للواقع المعيش في دنيا البشر. ولقد انقسمت حياته عليه الصلاة والسلام إلى فترتين هامتين سمي القرآن باسمهما:
1 – الفترة المكيّة – القرآن المكّي: دامت 13 سنة، وقد خلت كل السور المكيّة الموحى بها خلال هذه الفترة (86 سورة)من أي إشارة إلى القتال في سبيل الله كما خلت حياته صلى الله عليه وسلم من أي عنف أو استعمال للقوة في ردّ الاضطهاد والتـّنكيل الذي كان يتعرض له المؤمنون برسالته... وقد أمر الله فيها المؤمنين بتطهير نفوسهم وتزكيتها من الشرك بالله وإفراغها من قيم وتقاليد مجتمعهم الجاهلي، وملئها بقيم الإسلام الحنيف وتوحيد الله وإفراده بالطاعة، والخضوع التام لأوامره ونواهيه.. ولعل أبرز ما نهت عنه الآيات والسور المكية الفحشاء والمنكر كالزّنا وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وامتدحت: « الذين لا يدعون مع الله الاها أخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق آثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا ».(سورة الفرقان الآيات 68-69).
2 – الفترة المدنيّة- القرآن المدني: وهي الفترة التي تواجد فيها الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة التي كون فيها الرسول صلى الله عليه وسلم دولته الإسلامية، وقد أذن له وللمؤمنين بالقتال لحماية المؤمنين الذين صاروا يحيون طبقا للشريعة الإسلامية وتنتظم حياتهم بآيات القرآن المدني..يقول الله عز وجل: « أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله » (سورة الحج المدنية الآيتين 39 و40).
إن استحضار حياة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في تطبيق وحي الله عز وجل تكشف لنا بوضوح حقيقة هؤلاء الإرهابيين والمتمثلة في أنهم لم يستجيبوا لأوامر الله في النهي عن قتل النفس البريئة التي حرم الله قتلها ولم يدر في خلدهم الاستجابة لأوامر الله أو الخضوع لشرعه وإنّما هم يتبعون أهواءهم بغير علم ولا هدى من الله.:«ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله».
اللغة العربية والإبداع الحضاري(1)
أحب العرب لغتهم وتباروا في إتقانها منذ ما قبل مجيء الإسلام، واستعملوها في حلهم وترحالهم، وانتقوا القصائد العصماء سميت «المعلقات» لتعليقها عند الكعبة.
ولما انطلق المسلمون لحمل رسالة الإسلام الخالدة كانوا في الوقت نفسه حملة للغة العربية، لغة القرآن، لان الإسلام لا يمكن تفهم مفاهيمه عن الكون والإنسان والحياة وشريعته التي تنظم حياة المسلمين الاجتماعية والسياسية والاقتصادية إلا من وجهة لسان العرب. وبذلك كان المسلمون يدعون القلوب إلى الإيمان والألسنة إلى التعريب.
كما برع الخطاطون المسلمون في رسم اللغة العربية، وأبدعوا خطوطا عديدة زينتها بحلة قشيبة لان الخط الجميل يزيد الحق وضوحا وإبانة .. وزينوا المساجد والمنازل والقصور في مختلف البلاد الإسلامية وجملوا الأثاث والسجاد والملابس والمباني والآلات والكتب وغيرها.
ولقد مثلت اللغة العربية ولا تزال إحدى اللغات العريقة ذات التاريخ الحافل، وهي لغة ثرية بأبجديتها وتضم من الحروف ما لا يوجد مثيلها في اللغات الأخرى: كالثاء والخاء والذال والظاء.. فضلا عن حرف الضاد الذي تنفرد به دون سائر اللغات العالمية.
وهي لغة تفي بالقليل عن الكثير، وتمج الغث وتعج بالسمين.. كما أنها تمثل قلب الأمة الإسلامية النابض وعقلها الواعي الذي يحوي تراثها ومجدها.. ولقد استوعبت إنجازات المسلمين الحضارية كلها عبر تاريخهم الطويل بوفاء وأمانة، بل لقد شرفها خالق الكون والحياة بان اختارها ليخاطب بها بني ادم عبر كتاب معجز شكلا ومضمونا. وقد حولها هذا التشريف إلى لغة عالمية.. يقول المستشرق «جوبيوم» في مقدمة كتابه تراث الإسلام: « إن اللغة العربية لغة عبقرية لا تدانيها لغة في مرونتها واشتقاقها... ».
هذا بالإضافة إلى أنها اللغة ذات الصوت الواضح المميز، وذلك راجع إلى دقة مخارج حروفها، بعكس ما هو ملحوظ في بعض اللغات الأخرى التي تكثر بكلماتها الحروف الساكتة، أو التي يتلاشى بعضها في بعض خلال النطق.
إن تميز اللغة العربية بخصوصيات كثيرة جعلتها تتربع على عرش اللغات جميعها بما احتوت عليه من ضروب البيان والبلاغة والإعجاز وسهولة الاشتقاق منها وقدرتها العجيبة على التعبير عن كل خلجات النفس البشرية في أفراحها وأتراحها، في هزلها وجدها، في علومها وآدابها.. ولقد أدرك أعداء امتنا الإسلامية الارتباط الوثيق بين اللغة العربية ومجد ووحدة المسلمين، فعملوا جاهدين على ترويج الدعاوي التي تتهم الفصحى بالعقم والبداوة والقوا عليها مسؤولية التخلف الحضاري"لأمة الإسلام " في العصر الحديث، زاعمين بعدم استجابة الفصحى للحضارة الحديثة وهي عسيرة على من يتعلمها !؟
واتفق هؤلاء - المتآمرون على رمز هويتنا الحضارية- على استبدال اللغة العربية بلغات المستعمرين القدامى لديارنا أو باللهجات العامية لشعوبنا الناطقة بالضاد أو كتابة العربية بالحروف اللاتينية لمسخها والقضاء على صحة النطق بها، أو تغيير الأساليب البيانية والبلاغية للغة الفصحى.
وهذه الدعوات مهما لبست من أقنعة، وزخرفت من قول إنما هي دعوات مسمومة / مفضوحة يريد لها أصحابها أن يخربوا هوية" الأمة الإسلامية" حتى يسهل لهم تذويبها وتركيعها لأطروحاتهم المعادية لمصالح امتنا في التقدم والتطور وتحقيق العزة والمناعة.. ذلك لان اللهجة العامية مثلا التي يريدها أعداء امتنا بديلا عن اللغة الفصحى تمثل ألفاظا مهلهلة من لهجات تختلف من بلد لآخر كما تختلف في البلد الواحد باختلاف مناطقه وأجيال أبنائه، وهي فقيرة كل الفقر في مفرداتها، مضطربة في قواعدها وأساليبها حتى إن العربي يخاطب أخاه على لسان غير مبين فلا يكاد يفهمه ! يقول العقاد:«اللغة العامية لغة الجهل والجهلاء وليست بلغة الشعبيين، ولا من يحبون الخير للشعوب».!
لقد عبرت اللغة الفصحى قديما وحديثا بصدق عن المفاهيم والمصطلحات العلمية والأدبية والمشاعر التي توصل إليها المسلمون في مختلف ميادين الحياة ودروبها، تقوى وتينع بقوة المسلمين الحضارية وعزتهم وتضعف بضعف المسلمين وتخلفهم، فلا مجال إذن لان نتهم اللغة الفصحى بالعجز أو القصور بل الأصح أن نتهم أنفسنا بالتخلي عن دورنا الإسلامي والحضاري في قيادة الشعوب وبلوغ ما وراء العرش تطورا وازدهارا.
إن اللغة لا يمكن أن تتطور وتزداد مفرداتها وتراكيبها ويترسخ جمالها وتنتشر بين الناس إلا إذا تراكمت المعارف الجديدة والمعاني الجليلة والمفاهيم المتطورة، وكثرت الاكتشافات والاختراعات، وأبدع الناس في كل المجالات الحياتية والمعرفية والتكنولوجية.. حينئذ تأتي اللغة لتعبر عن هذا التطور والرقي والازدهار عن طواعية، وتسلم قيادها للمبدعين.. وكلما كثر هؤلاء المبدعون، كلما تطورت لغتنا واتسع قاموسها اللغوي وكثرت المعاني الجميلة بها، واقبل عليها الناس واستعملوها في أحاديثهم وخطبهم وكتاباتهم وإبداعاتهم.
---------------------------------
المراجع
1 - بن سالم بن عمر(محمد)اللسان العربي وتحديات التخلف الحضاري في الوطن العربي الإسلامي الطبعة الأولى 1995- المطبعة العصرية بتونس-












الفن الإسلامي وشروط الإبداع
يقصد بالفن: "التعبير عن الحال بمختلف الأساليب والأدوات من أدب إلى رسم إلى شعر.. "إلى غير ذلك من أساليب التعبير، والفنان إنسان يعبر عن الإحساس الداخلي الذي يحس وينفعل ويتأثر به، فيعبر بصورة من صور الفن التي يجيدها، والفنان الحق هو الذي يختار من الأفكار والأحاسيس التي يجد فيها مظهرا لجمال ظاهر أو خفي، أي يختار ما يوجد التأثر والانفعال، وتكون الألفاظ والتراكيب التي تؤدي هذه الأفكار والأحاسيس على وجه يثير القراء ويثير السامعين، فيهز مشاعرهم، ويبعث فيهم ما يقتضيه هذا الانفعال من غبطة ورضا، أو سخط وغضب.
كما أن الفنان الحقيقي هو الذي يمثل بفنه مثله العليا ومفاهيمه عن الكون والإنسان والحياة.. وينظر دائما إلى عالمه بالمقارنة مع مثله وقيمه ومبادئه، وكذلك الأديب الحق، والشاعر المقتدر هو الذي يبلغ أهدافه ولا يضيق ذرعا بقيود اللغة السليمة والتراكيب الجميلة المعبرة عن أن تصير وعاء يستوعب أفكاره ومشاعره التي يحسها داخل نفسه، فيساهم بقسطه من اجل رفع الحياة البشرية وترقيتها، ويسعى إلى تحريك النفس لتنفعل بالحياة في أعماقها وتتجاوب تجاوبا حيا مع الأشياء والأحياء.
يقول الجرجاني: « إن من كمال الجمال البلاغي أن تكون مادته الخير والفضيلة ». أجل، فليس الأدب سوى رسالة سامية تنير سبيل الحياة الطيبة التي بشر الله بها عباده المؤمنين بروبيته، وتعرف الناس كيف يهتدون إلى منابع السعادة والمعرفة فيها.. وهل الأديب سوى مبدع يحمل بيده مشعل الحب والحرية والتسامح، ويبحث بكل ما في ضميره من شوق وشغف وما في نفسه من نشاط وإخلاص عن مصدر السعادة والمعرفة في الحياة ليهدي إليهما نفوس البشر الحائرة، ويزيل عن وجه الحياة قشور الكآبة والجفاف، ويكلله بنور الغبطة والانتعاش ؟! نقول هذا القول ونحن ننظر بعين الحسرة والألم لما آل إليه الأدب الآن، إن قصارى جهود الكثيرين من «الأدباء والشعراء» التحدث عن التجارب الخاصة والمفاهيم المنحرفة عن هداية الله، واغلبها يدخل في نطاق المرأة، كما أصبح الأدب يعطي صورة منقبضة متشائمة للحياة طافحة باليأس والألم والقسوة، لأنه أدب صادر عن نفس حائرة مضطربة قد اهتزت أمامها السبل، فلا ترى اتساقا في الكون، وإنما عبثا، ولا تنتظر أملا، بل يلفها التشاؤم، إنها إفرازات العبث والعدمية والتّنكر لروبية الله ووحدانيته... وكم نحن بحاجة إلى أدب متفائل يحمل الحب والأمل والدعوة إلى العمل بمقتضى التنزيل الحكيم من لدن عليم خبير.

لقد مثل الفن بأشكاله المختلفة عبر الأحقاب التاريخية المختلفة مرآة الأمم ونبضات قلبها وعصارة فكرها وحقيقة وجدانها ومختلف تصوراتها عن الكون والإنسان والحياة، وهذا يجعلنا بحاجة أكيدة إلى تحديد إطار واضح، ومفهوم محدد للفن الذي ننشده، ليكون فنا متميزا واضحا، يعبر عن التصور الإسلامي والحضاري لامتنا الإسلامية... حتى نستطيع تقديم هذا المفهوم للناس إزاء المفاهيم الأخرى للفن الهائم والسائر في ظلمات بعضها فوق بعض والمتخبط على وجهه في متاهات الحياة ودروبها المدلهمة، فلا يكفي أبدا أن ننادي بفن إسلامي بديل وننشد الاهتمام به، دون تحديد لمفهومه ومعالمه وتصوراته.
إن الفن الذي ننشده هو كل فن جميل مؤثر ازدهر في ظل قيمنا الإسلامية وثوابتنا الحضارية المستنبطة من القرآن وارتوى بروائها وتغذى من نبعها، وأشرق على الدنيا داعيا إلى قيم المحبة في الله والخير والجمال والحق والعدل بين الناس، وانتصر للقضايا العادلة وحارب الباطل بمختلف تشكلا ته.. بعزة وثقة تامة وإقدام وبأسلوب واضح ولغة فصيحة يفهمها كل الناس. فالفن الذي ننشده هو نقيض الفن الهائم والضائع الذي يتبنى الزيف منهجا للحياة مزركشا بالأكاذيب والمساحيق المضللة عن الحق والعدل، إنا نطمح إلى فن إسلامي نظيف يحارب الغموض والعبث، ويشجب الحيرة والاضطراب والتناقض ونشر الفساد في الأرض، ونندد بكل فن يعمل على إيجاد الصراعات والإحن بين الناس، أو يكرس واقع التخلف والتوحش وحياة الأنعام، أو يشكك في شيء أصيل وجميل في ألذات البشرية. إن المبدع الفرقاني / الداعي إلى سبيل ربه بالحكمة هو إنسان خير بطبعه، ولديه مجموعة من الثوابت الالاهية والقيم السامية تدفعه لان يعمل ويبحث في موضوع ما، ومن أهم القيم التي يمتلكها المبدع المسلم هي الإصلاح والبحث عن الأصالة والصدق والأمانة، وكل الموضوعات التي يعالجها تصطبغ بالقيم الإنسانية الرفيعة التي يؤمن بها ويجسدها في حياته... على عكس الفنان الهائم الضال عن هداية الله الذي يقول ما لا يفعل ويظهر غير ما يبطن ويعيش حياة ضنكا بسبب إعراضه عن الحق.! وهكذا يصبح الفن وسيلة للبناء والتشييد، والسمو والتقدم، وحافزا للرّوح، ومشكلا للفكر والوجدان والمفاهيم المتطابقة مع الحق والعدل، وباعثا للحيوية والقوة الايجابية في حركة الحياة الشاملة، وممهدا لطريق السعادة والنقاء والحياة الطيبة المطمئنة، وحارسا لهوية أمّتنا الإسلامية...
إن الفن الإسلامي فسيح الرقعة، واسع الأرجاء، لان كل فن سار في فلك القيم الإنسانية النبيلة التي لا تمجها النفس السوية صراحة أو ضمنا كان فنا إسلاميا، وكل فن عالج قضايا وأفكارا بتصور إنساني راق واصطبغ بالمفاهيم الإسلامية الواردة في كتاب الله فهو الفن الإسلامي الذي ننشده لبناء حضارة إسلامية جديدة ومتقدمة عن أية حضارة إنسانية لا ترتكز على المفاهيم القرآنية في بناء المجتمع. وكل عمل يبث الخير في نفوس شبابنا وأطفالنا والأسرة بشكل عام هو عمل إبداعي وحضاري، وأي عمل فني ينفع الناس ليس فيه فساد ولا إفساد متعمد، وإنما فيه خير نبثه في نفوس شبابنا وأطفالنا وعقولهم ليساعد على خلق جيل يحمل الخير في نفسه، فهو عمل نباركه، والفن إن لم يكن خادما للمجتمع، مدافعا عن ثقافة الأمة ومفاهيمها السوية وأسلوب عيشها المميز في الحياة ومدافعا عن تطلعات الناس وطموحاتهم وحقهم في الحياة الكريمة وفق المنهج الإسلامي الذي ارتضوه لحياتهم، وتبصيرهم بالواقع، والصدق مع النفس،والتجاوب العاطفي الوجداني مع المشكلات الحياتية النابعة من ممارسات الواقع، ساعيا إلى تغيير البنية المادية والنفسية لأفراد الأمة، فاعلا بنجاعة في تطور المجتمع ومساهما في أداء الناس لمسؤولياتهم، رافضا لكل أنواع القهر والاستبداد والاستغلال، قائدا للأمة إلى أهدافها الرئيسية في الحياة.. فليس بفن.
إن أولى مهمات الفنان المؤمن هو مواجهة أوضاع التخلف والظلم والاستبداد والتسلط والطغيان وتغييرها إلى الأفضل والأمثل والتخلص من قيود المرض والجهل والتمييز الطبقي والطائفي، والتفتح على القيم الإنسانية النبيلة في العالم والارتفاع بمستوى المجتمع والأمة لتتناسب أوضاعها مع مبادئها الحضارية/الإسلامية التي تحفزها لبلوغ ما وراء العرش تطورا وتقدما وازدهارا، والنفاذ من أقطار السماوات والأرض...
إن هذه المهمات التي ندعو لأن يبشر بها الفنان الفرقاني في أدبه ومسرحه ورسومه ومختلف الأشكال الفنية التي يحسنها، هي التي ستجعله فنا متميزا جديرا بنيل احترام الناس بوصفه يتبنى قضاياهم ويعالج مشاكلهم ويساعدهم على تبين طريق الحق والسعادة والفلاح.
لقد قام الفن الإسلامي منذ بدايات الدعوة المحمدية بمهمات جليلة في التمكين لقيم الإسلام ومبادئه السمحة، وظهرت آثار التصور الإسلامي في المدينة المنورة، ونجحت التجربة الإسلامية نجاحا باهرا حين قدمت لنا وللعالم كله روائع الشعر الإسلامي القديم، ولقد عبر الشعر – ديوان العرب الأول – عن أدق خواطر الإنسان ومشاعره، وأزماته وهمومه، وحيرته وقلقه، وسخطه وتمرده،وموقفه من الحب والغربة والموت، وتأملاته في الكون والطبيعة، وتعاطفه مع الحيوان، ورثائه للطيور الصادحة، وحنينه إلى الأوطان، وتمجيده للقيم النبيلة، وتصويره للبطولات الملحمية... إلى غير ذلك من التجارب الشعرية الرائعة. كما استخدم الأدب كوسيلة في تهذيب الأخلاق وتربية الضمير وهداية العقول إلى الحق والخير وفي هذا يقول حسان بن ثابت:
إذا الشعر لم ينشر مكارم قومه فلا حمدت منه المكارم مشهدا
ويقول زهير بن أبي سلمى:
وإن أحسن شيء أنت قائله بيت يقال إ ذا أنشدته صدقا

فالحضارة الإسلامية لم تفصل في يوم من الأيام بين النواحي الجمالية في الفن والمضامين الراقية التي ترتفع بفكر الناس وأذواقهم وتجلب لهم الفائدة في حياتهم وتخضع لهم الدنيا ذليلة لأنهم عرفوا حقيقتها من خلال الحكم والأمثال والقصص التي تبثها مختلف الفنون في نفوسهم، يقول عبد القاهر الجرجاني في (أسرار البلاغة ج 2 ص 133): « المقصد الاسنى للشعر هو تنمية الذّوق السّليم بحكمة يقبلها العقل وأدب يحسب به الفضل وموعظة تروض جماع الهوى وتبعث على التقوى وتبين موضع القبح والحسن في الأفعال وتفصل بين المحمود والمذموم من الخصال ».

ويشدو أبوتمام:
ولولا خلال سنها الشعر ما درى
بغاة العلا من أين تؤتى المكارم

واستمر هذا الفهم الصحيح لمهمات الفن الإسلامي والأدب المصطبغ بالمفاهيم القرآنية وأنتج تيارا فنيا مباركا ظل متدفقا في مختلف العصور الإسلامية، حتى أطلت علينا رؤوس الفتن في حياة هذه الأمة بنزعاتها العنصرية، وشعوبيتها وقومياتها الحديثة، وكان السبب الرئيس والمباشر في ذلك فتور المفاهيم الإسلامية الصحيحة التي كان لها الفضل في عزة المسلمين وقوتهم وازدهارهم. ولا عجب بعد ذلك أن أصبحنا نرى في العصر الحديث أفرادا يحملون القلم ويخطون الكتاب ويدبجون المقال والقصة والقصيدة... بيد أنهم منفصلين عن كيان الأمة الإسلامية وضميرها!!
لقد شهد النصف الثاني من القرن الماضي تحركا إنسانيا ملحا في سبيل البحث عن ألذات، وتحديد الهوية البشرية الحقة، ونفض الغبار المتراكم على إلا ذهان والقلوب بعد أن شعر الفرد بالتمزق والضياع، واختنق العالم كله فكريا وروحيا بمنطق العصر الآلي الصناعي... بل وأصبح الناس يوصفون بالرجال الجوف، ويشبهون بتماثيل مليئة بالقش تصيح قائلة:
نحن الرّجال الجوف *** حشينا بالقش(1)

وفي ظلّ هذا الواقع الجديد الذي صار إليه الإنسان بسبب بعده عن هداية السماء يبقى: (العامل الالاهي وحده، هو الذي يستطيع أن ينتصر على العزلة، وأن يجعل الإنسان مدركا للشعور بالألفة والصلة ومتوخيا غاية جديرة بوجوده (2)، لذلك ينبغي أن يكون التصور الإسلامي هو الذخيرة التي يستمد منها الفن الفرقاني موضوعا ته ومجالاته، ثم تعمل البراعة الفنية عملها، فتخرج من تلك المفاهيم في شتى مجالاتها فنونا جميلة رائعة، بمقدار ما تطيق الفهم والتلقي والاكتشاف، وبمقدار ما تتفتح بصيرتها لارتباطات الكون والحياة والوجود، فالكون خلقه الله من عدم، وكل شيء فيه موجه بقدرته وعنايته سبحانه وتعالى، وهو في حركيته يخضع لقانون واحد ويتجسد فيه التكامل والتعاضد وتحدث فيه جملة من التطورات التي لا تصطدم مع المشيئة الالاهية، وقد كرم الله الإنسان وجعله خليفة في الأرض ليقيم العدل اعتمادا على الميزان – ميزان القرآن – وهو مسئول على عمارة الأرض وإنشاء الحضارة، والبشر كلهم من ادم وادم أصل خلقته من تراب وأحب البشر إلى الله انفعهم للناس إذا ما قصدوا بأعمالهم التقرب من الله، وما الشريعة إلا وسيلة ليعرف الناس دورهم في الحياة ولكي لا يتيهوا عن طريق الحق والرشاد. فالفن الفرقاني هو الذي سيبشر بالرؤية الشاملة للإسلام التي تملا فراغ النفس والحياة، وتستوعب الطاقة البشرية في الشعور والعمل، وفي الوجدان والحركة، فلا تبقي فيها فراغا للقلق والحيرة، ولا للتأمل الضائع الذي لا يحقق سوى التسيب والعبث.
إن الفنان الفرقاني مطالب بالبحث عن الحقائق الوجودية وأن يعيها جيدا، ويحاول الغوص وراء أسرارها ورموزها، ويبحث عن النماذج الإنسانية والتحركات الجماعية التي تؤكدها وتبلورها، حتى ينطلق في مسيرته نحو الخير والكمال والجمال. فهو اقدر الناس على نفع المجتمع الإنساني والسير به في الطريق الصحيحة لتحقيق المطامح المشروعة في هذه الحياة، لان منهاج حياته منضبط بالصدق والتعاون مع الآخرين، وبواجبات كثيرة ومتنوعة نحو نفسه ونحو الآخرين، وكذلك نحو المجتمع الذي يعيش فيه، ويحيى على أمل انه «لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون» وهو قوي أمام إغراءات الحياة المختلفة، فلا يقع في الحرام، أو ينزلق إلى الرذيلة، ولا يحني رأسه أمام الفساد والظلم وشراء الذمم، رافعا راية العدل والقوة والمحبة والوئام لإخراج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.

انه من الخطورة بمكان أن يقتنع بعض المبدعين في ديارنا الإسلامية بتفوق الثقافة الغربية على ثقافتنا فيلجئون تبعا لهذه القناعة إلى اتخاذ الغرب قدوة ومثالا، ويستبطنون مدارسه الإبداعية المختلفة، ومفاهيمه عن الحياة يقيسون بها إبداعاتنا ونتاجاتنا الفنية..، إن مثل هذا العمل يسقطهم أولا وأخرا في التقليد الذي يتنافى تماما مع العملية الإبداعية، لان التقليد يمثل العدو الأول للإبداع، كما أن استحضار الغرب في كل خطواتنا واعتباره سباقا في كل المجالات الحياتية يضعف من همتنا، ويميت تحفزنا للإبداع واختراق الآفاق، لان المرء إذا ما أدرك أن هناك من سبقه إلى درب من دروب الحياة واعتقد بعدم إمكانية الإتيان بشيء جديد، يفتر عزمه، ويتلاشى حزمه في تقديم التضحيات الكافية لبلوغ ذلك الدرب المقصود، على عكس ما إذا كان سباقا لاكتشاف جواهر مطمورة، ولآلئ مكنوزة، وتحف لم تر العين مثلها من قبل، فان نفسه تكون في توق، وقلبه في شوق، لتقديم كل غال ونفيس ليفوز بقصب السبق في الاكتشاف الجديد وبلوغ الهدف المراد ونيل كل عجيب متسام، ولقد أدرك أجدادنا من المسلمين هذا السر في الإبداع فصنعوا المعجزات فكرا واكتشافات، وبهروا نفوسا كرعب من ينابيعهم الثرة وبحارهم العميقة المليئة بكل رائع وجميل ومؤثر عجيب، وانتقلت آدابهم إلى أوروبا عبر الدردنيل والأندلس وصقلية وغيرها... وعلى ورثة هؤلاء الأفذاذ أن يواصلوا مسيرتهم في البناء والتشييد والإبداع...
ولقد جاء في مادة بدع ما يلي:« بدع، بدعا الشيء: اخترعه وصنعه لا على مثال، والبدع المحدث الجديد، والبدعة ما أحدث على غير مثال سابق»(3). والفن إبداع لأنه يبدع ما هو جديد، ويجعله يظهر للوجود فجأة، كان المرء يراه لأول وهلة، ولا بد من الإشارة إلى أن الفنان لا يقوم بخلق العمل الفني، لان الخلق هو عملية الإيجاد من العدم، وإطلاق صفة الخلق على الفنان يعتبر تجاوزا لحقيقة العمل الذي يمارسه الفنان. فالله وحده خالق كل شيء في الوجود. إن أقصى ما يستطيعه الفنان هو تركيب الصور والمفاهيم والمعاني التي خلقها الله، بشكل جميل ملفت للانتباه، ومؤثر، أي بشكل بديع يحسبه الناظر إليه انه يراه لأول مرة، فالرسام مثلا يختار بعض المشاهد الكونية التي خلقها الله ثم يقوم بتركيبها بصورة جميلة ملفتة للانتباه، وتحدث العجب والدهشة في نفس المشاهد، محاكيا في رسم هذه المشاهد حقيقة المشاهد الكونية، ومصبغا عليها المفاهيم التي توصل إليها خلال مسيرته الوجودية، إن المعاني والمفاهيم هي أيضا قد خلقها الله مع خلق الإنسان، ومهمة الإنسان اكتشافها والبحث عنها في المخلوقات الكونية أوفي الكتب السماوية الصحيحة التي تضمنت تلك المعاني والمفاهيم. إن أقصى ما يمكن إن يطمح إليه الفنان المبدع هو تحقيق السبق في اكتشاف المشاهد والصور والمعاني الراقية الجميلة والجليلة وتركيبها بصورة مؤثرة وممتعة لتقريبها من البشر حتى يتمتعوا بجمالية الصور والمعاني التي من شانها أن ترقى بأذواقهم وأفكارهم وتسموبسلوكهم وأخلاقهم. وهذا الفهم لرسالة المبدع / الفنان المسلم يجعلنا نلح على ضرورة توفر المضمون الهادف في كل الأشكال الإبداعية وأن تحتوي نتاجات المبدع على القيم الإسلامية النبيلة والمبادئ السامية من اجل رفع الحياة البشرية وترقيتها إلى مستوى التكريم الالاهي للإنسان. فالفنان إنسان واع بدوره في الوجود، يسعى بفنه إلى تحريك الحواس المتبلدة لتنفعل بالحياة في أعماقها، وتتجاوب تجاوبا حيا مع الأشياء والأحياء، فقيمة الفن تظهر فيما يقدمه للحياة والناس من خير، وما يبشر به من قيم عليا ومثل سامية وما يدعو إليه من أخوة وتراحم وعدالة ومحبة بين الناس ليتعارفوا ويعيشوا في امن وسلام، ويدلهم على الطريق ويأخذ بأيديهم إلى العزة والفضيلة، إن الفن موهبة من الله يحدث به صاحبه ثورة فكرية تضرب الأوضاع الفاسدة، وتملا النفوس تذمرا وتطلعا دائما إلى الأفضل، فهو وسيلة للدفاع عن الحق والانتصار له وإذاعة الفضيلة ومحاربة الشر في كافة صوره ومقاومة الظلم وأصحابه ومن يمشون في ركابه...!
فأمام الفن إذن حقول خصبة للإبداع والعطاء وخاصة في مجال القوة الذاتية التي تحفظ القيم السامية والمبادئ النبيلة في نفوس الشرفاء المؤمنين برسالتهم في الحياة جيلا بعد جيل، ولعل من أعظم الأشياء قيمة « الأمل»، حيث لا تموت الأماني، أو يتطرق اليأس إلى النفوس في أحلك الأوقات وأحرجها، ولا يقع الفنان المؤمن برسالته فريسة الخوف أو الخشية إذا ما قارن قوة أعداء أمته المادية بقوته، المهم أن يمضي قدما في مسيرته الخالدة مهما كانت التضحيات جسيمة « إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي...» وهذا يجعل مقاييس النصر أو الهزيمة، ومقاييس القوّة والضّعف تختلف وجهة نظر الفنان الفرقاني إزاءها عن وجهة نظر الآخرين باعتباره يستمد كل مفاهيمه عن الكون والإنسان والحياة من القرآن الكريم. وهكذا يصبح الفن المنشود هو الذي يقوي الذات وينميها ويكملها، فالفن يجب آن يكون إنسانيا يخاطب في الإنسان سموه، ويركز على جانب القدرات الايجابية فيه، والتي تنسجم مع مهمته فوق الأرض، والتي تحقق مبدأ الاستخلاف، ما دام الإنسان مستخلفا، انه إضاءات وجدانية، وإشراقات عقلية في الوقت نفسه تستهدف الإنسان كأعظم مشروع يتحقق فيه التصحيح.
إن المضامين الهادفة والراقية إذا لم توضع في قوالب جمالية مؤثرة تفقد جزءا من قيمتها ويصبح تأثيرها محدودا، لذلك يصبح من شروط إبداع الفن الفرقاني تهيئة اللقاء بين الجمال والحق، فالجمال حقيقة في هذا الكون الذي أبدعه الله كأحسن ما يكون.. والحق هو ذروة الجمال، من هنا فإنهما يلتقيان في القمة التي تلتقي عندها كل حقائق الوجود، والفن بهذا المعنى هو التعبير الجميل عن حقائق هذا الوجود اعتمادا على مواهب ناضجة، وأسس فنية واضحة، مؤثرة، فالفنان المسلم يجب أن يكون وسيطا بين الوجود والتعبير ويقف في موضع الوفاق والتناغم الذي يحيل كل شيء إلى لحن جميل، وأن يبتعد قدر المستطاع عن عيوب الخطابة والتقريرية، وجمود الشكل، ونثرية العبارة، وبهوت الصورة، بشرط أن لا يطغى الإحساس بالجمال عن الفكرة الملتزمة بقضايا الوجود والحياة والمصطبغة بصبغة الإسلام وثوابته .
فلا بد إذن من اتخاذ العدة الفنية التي تستطيع تقديم الفكر النظيف في صورة موحية مؤثرة، وأن يسعى الفنان إلى استغلال الجوانب الفنية والنفسية والتأثيرية في الفن لاجتذاب الفطر السليمة.. وإقناع العقول السوية، والتغلغل إلى أعماق الوجدان الحي، للخروج بالإنسان إلى نطاق الفعل المتبصر، والحركة الواعية، والتغيير الايجابي، وإيجاد مجتمع الخير والعدل والفضيلة مع الانتصار على سلبيات الفكر والسلوك.
إن المزاوجة بين الجمال والحق أي المزاوجة بين الشكل والمضمون بصورة مبدعة تتطلب الاقتدار على الضبط، والبراعة في إحسان التحرك وإجادة التصرف في أضيق المساحات والمجالات، وأدق الأطر دون المساس بها، أو خدشها وتشويشها أو المروق منها. والاقتدار على الحركة داخل هذا الإطار الضيق المحدود هو المقياس أو المعيار الذي نفرق به بين الصادق والدعي، وبين الأصيل المتمكن والدخيل المتطفل. فالطفل الذي لم تنم مهاراته، تعطيه الصفحة الكاملة ليرسم فيها شجرة فيحتج بصغر المساحة التي لا تتسع لرسم شجرة، وتعطي عشر معشارها لفنان مقتدر، فيعطيك فيها عالما متكاملا يضج بالحياة، وينضح بالفتنة والجمال...
والفنان المبدع يدرك جيدا أن الفن لا يقوم على تصوير الحياة كما هي، بل لا بد من تدخل الفنان الذي يقوم باختيار أهم العناصر وانتقائها من واقع الحياة ثم يعيد ترتيبها ويخلع عليها من ذاته المسلمة وخياله وتفسيره مم يجعل تلك العناصر عملا فنيا محكما، فيه يمتزج الواقع بالخيال بما لا يشوه ذلك الواقع أو يفقده واقعيته ولبابه، فالفن الفرقاني المنشود لا بد أن يكون مرتبطا بالحقيقة والواقع متميزا بأسلوبه ومضمونه وغايته ويقصد منه أولا وأخرا تحقيق الموعظة الحسنة والعبرة ودفع الناس للتفكير في حكمة الله وربوبيته، وان يبتعد قدر المستطاع عن الغموض والإبهام، ويحرص على تحقيق الإشباع العقلي والوجداني دون حيرة أو إبهام، حتى يمهد ذلك السبيل لرحلة جديدة من التفكير والتذكر واتخاذ موقف واضح من الوجود.

--------------------------------
المراجع
1- نقلا عن كتاب « اليوت» للدكتور فائق متى ص155.
2- نيقولاي برديائف : العزلة والمجتمع ص121 – ترجمة فؤاد كامل – مكتبة النهضة المصرية – القاهرة 1960 .
3- منجد الطلاب ص24 – 25



















المصادر والمراجع


المصادر:

القرآن الكريم
المراجع

1* (أمين)احمد: زعماء الإصلاح في العصر الحديث بيروت – دار الكتاب العربي 1979.
2* (شرابي)هشام: المثقفون العرب والغرب بيروت – دار النهار 1973.
3*كتاب الرحالون العرب وحضارة الغرب في النهضة العربية الحديثة د. نازك سابايارد الطبعة الأولى 1979.
4*مستقبل الثقافة بمصر د. طه حسين .
5*الإسلام في مفترق الطرق تعريب عمر فروج .
6*دراسة في السيرة للدكتور عماد الدين خليل، مؤسسة الرسالة، الطبعة الخامسة 1981.
7*كارل ماركس بيان الحزب الشيوعي
8* (يكن)فتحي:كيف ندعو إلى الإسلام ص55
9*خفاجي المحامي عبد الحليم حوار مع الشيوعيين في أقبية السجون ص55
10*العلمانية وانتشارها غربا وشرقا، فتحي القاسمي سلسلة موافقات –الدار التونسية للنشر – فيفري 1994)
11*فولغين(ف)فلسفة الأنوار- بيروت – دار الطليعة ط1981
يقول الله عز وجل « الله ولي الذين امنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون » 14* (سورة البقرة الاية257 )
12*أليوت- الدكتور فائق متى.
13*العزلة والمجتمع- نيقولاي برديائف.
14*بن سالم بن عمر(محمد)-اللسان العربي وتحديات التخلف الحضاري في الوطن العربي الإسلامي –الطبعة الأولى 1995-المطبعة العصرية- تونس.

• الصحافة في تونس لا تصلح حتى لمسح الأحذية و النوافذ


الأستاذ محمد بن سالم بن عمر مؤسس *دعوة الحق العالمية* يقول في أول تصريح له/
· دعوتنا تهدف بالأساس إلى عقلنه هياكل المجتمع الإسلامي السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية و تحريرها من جاهلية الغرب و حيوانيته ...

· علمانيون و إسلاميون حولوا الإسلام و الغرب إلى صنم يعبدونه من دون الله و لا سبيل إلى نجاة امتنا الإسلامية إلا بالتحرر من كل هؤلاء الخونة لله و رسوله ...


· الإعلام العربي يروج للصنمية البشرية و الإعلام الغربي يروج للصنمية الفكرية و كلهم يعيشون في ظلمات بعضها فوق بعض ...

· النخبة في الوطن العربي عاجزة تماما عن تغيير المجتمع الإسلامي أو تثو يره لانبتاتها عن قيم المجتمع و افتقادها لآليات التغيير الفكري و النفسي .... و تبنيها لظلامية الفكر الغربي المأزوم ...

· الصحافة في تونس لا تصلح حتى لمسح الأحذية و النوافذ .. و ينتابني حزن عميق كلما اضطررت لشراء جريد تونسية ... و المعارضة ضعيفة و فاقدة لأي برنامج فكري قادر على تغيير بنى المجتمع التونسي و لن تنتخب في الانتخابات القادمة إلا من قبل الاحمرة الجانفة و الكلاب السائبة في شوارع قرانا التونسية ...

· القوانين الوضعية العمياء الظالمة التي تنتظم بها حياتنا في بلاد الإسلام ما هي إلا أغلال لتكريس الصنمية البشرية – عبادة الأشخاص – و تكبيل المواطن بأثقال تدفعه إلى مكان سحيق من التخلف الفكري و الانحطاط الأخلاقي و توسيع قابليته للنهب المحلي و الدولي و الاستغلال برضي تام حتى غدا فيئا للجراثيم الفتاكة و الأمراض المزمنة ....

· فلسطين لن تتحرر إلا بما تحرر به بنو إسرائيل من فرعون و جنده على عهد موسى عليه و على نبينا السلام = الصبر و الإيمان الصادق بالله و بالكتاب كله و التنكب عن / البعضية = الايمان ببعض الكتاب و الكفر بالبعض الأخر/ لان شرط وراثة الأرض و تحريرها من المجرمين و امتلاكها هو الصلاح و التقوى و ليس الاستمساك بالديمقراطية الغربية التي أوصلت حماس إلى السلطة وهي التي ستفنيها عن بكرة أبيها إذا ما واصلت الاستمساك بها ...

· كلنا خائنون لله و لكتابه فلنتحمل السحق و القتل و التنكيل و الخزي دنيا و آخرة على قتلة الأنبياء و عبدة العجل و الملعونين على السنة أنبيائهم ...

· القوانين الوضعية المتعارضة مع الفطرة الالاهية قد أفسدت حياة الناس شرقا و غربا و و تسببت في نشر الإمراض المزمنة و العجز الجنسي ... كما تتسبب الأرض غير المعبدة في إهلاك السيارات التي تنتهجها...
لنتذكر شعار الغرب في تحرير نفسه /اشنقوا آخر ملك بأمعاء أخر قسيس

samedi 10 janvier 2009

مقالات متنوعة

Portable :(00 216)23038163

المؤمل والمنشود في أدب الطفل

تعتبر تنشئة الأطفال وتربيتهم من أعوص المشاكل التي تواجه عالمنا المعاصر، فالطفل يولد نقيا طاهرا وأبواه والمجتمع هم الذين يوجهونه الوجهة التي يرونها صالحة لهذا الطفل لخدمة مستقبل بلادهم وعزّتها وقوّتها، وهم المسؤولون عن توثيق الروابط، وتعميق الصلات بين الأجيال المختلفة، في سبيل وحدة الجسد الاجتماعي وقوّته حتى يكون كالبنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضا.

ولتحقيق كل هذه الأغراض والأهداف النبيلة لابدّ أن يتخصص فريق من الأدباء لأعداد الطفل وتعهده بالتربية السليمة والتنشئة القويمة الصالحة.

ونظرا لخطورة المرحلة التي يمرّ بها الطفل في سنواته الأولى، لابد أن يكون واضع أدب الأطفال واعيا بجمال الكون والإنسان والحياة، ملما بمشاكل عصره، مواكبا لطموحات أبناء وطنه، يعرف ميول الأطفال وقدراتهم وأعمارهم العقلية، فيكتب لهم ما يجعلهم ينجذبون نحوه، وان يكون صديقا حميما للأطفال، يتحدث على لسانهم ويتحدث إليهم، كما يتحدثون إليه، ويشاركهم في عواطفهم وفي ألعابهم... وفي تخيلاتهم، كما يتحدث إليهم هاديا ومرشدا، فيرسم لهم بكلماته القيم السامية الرّشيدة، ويعكس خفايا الأنفس المتعطشة إلى حب الخير والمعاني المشرقة... ويوقظ فيهم حسّ المسؤولية كلبنات تنتظر دورها في مجالات الحياة المختلفة، وهو في الوقت نفسه، لا يستعصي على أفهامهم، ولا يعلو على قدراتهم وخبراتهم حتى لا يتحرك في فراغ، ويفقد قيمته وتوهجه... بلغة فصيحة سليمة، وأسلوب رشيق وألفاظ قريبة إلى معجم الأطفال في نعومتها وسلاستها، مفعما بمعاني سامية وناصعة تواكب عمر الطفل، وتشوّقه، وتجذبه نحو القراءة.

ويحسن أن تتنوع الموضوعات التي يعالجها أديب الأطفال، وتساير المحيطات التي يغشاها الطفل أو يتصل بها، وأن تكون قصيرة كي ييسر تعامل الأطفال معها... باعتبارها تنزل إلى مستواهم. ويعتبر ذلك من أصعب المهام لكتابة الأطفال.

وعلى أديب الأطفال أن يضع نصب عينيه أن الهدف من كل كتاباته الموجهة للأطفال هي تنشئة طفل يحمل المبادئ السامية الرفيعة، يعيش لعصره، متفهما للمشاكل التي يعيش فيها، عالما متطلعا لما يجري حوله، يقظا لكل ما يحاك لامته، عاملا على اتقائه ودرئه عنها، وأن يكون في الوقت نفسه مطلعا على تراثه وما قام به أجداده أيام مجدهم وعزّهم ليختار منهم البطل الذي ينير له الطريق وتنمي فيه روح المبادرة والنشاط، ويكون قادرا على الخلق والابتكار والابداع...

محمد بن سالم بن عمر

12، شارع الجمهورية، سيدي بوعلي 4040

الحمد لله

MMohamedsalembenamor21@yahoo.fr

Portable :(00 216)23038163

الأنظمة الحاكمة لبلاد العرب والمسلمين

برهنت أنها وريثة للاستعمار الغربي

لعل ابرز انجازات انتفاضة الشعب الفلسطيني الثانية ضد الاحتلال الصهيوني هي انها كشفت –بما لا يدع مجالا للشك- سبب تخلف وانحطاط أمتنا الاسلامية "خير أمة أخرجت للناس" في العصر الحديث، فهذه الأمة العظيمة قد ابتلاها الله بأنظمة حكم فاسدة جعلت همها الرئيس تكبيل أفراد الأمة ومنعهم من انجاز أي عمل حضاري من شانه أن يعيد للأمة القوة والازدهار، حتى تتمكن من أداء المهمة المناطة بعهدتها... وهي: "الشهادة على الناس وقيادة مسيرة الشعوب نحو التآخي والتعارف والرحمة و الحياة الحقة.. تبعا لقوله تعالى: "و كذلك جعلناكم أمّة وسطا لتكونوا شهداء على الناس.."، وقوله تعالى لنبيه الكريم صلى الله عليه و سلم "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"...

لقد برهنت الأنظمة الحاكمة لبلاد العرب والمسلمين أنها وريثة للاستعمار الغربي.. وإن الغرب الاستعماري قد بوأها مكانته إبان استعماره المباشر لديارنا، حتى تنجز المهمة التي من اجلها استعمر ديارنا.. والمتمثلة أساسا في نهب ثرواتنا والخيرات التي رزقنا الله.. وتكبيل القوى الحية للمجتمع لإدامة تخلفنا وتبعيتنا المهينة للمستعمر الغربي... وبذلك تتحقق مقولة "السيادة والعبودية"..فهم"السادة" ونحن "العبيد" كأننا ما خلقنا إلا لتحقيق سيادة الرجل الغربي والسهر على رفاهيته.. وهكذا تصبح رفاهية الغرب الاستعماري لا تتحقق إلا بفقرنا نحن وفقرنا هو وليد رفاهية الغرب الناهب لثرواتنا و المهيمن على قادتنا أعانهم الله...؟!

لقد مثلت الحركة الإسلامية الفلسطينية طلائع هذه الأمة المجاهدة.. فكان لابد من "تأديبها" بل تصفيتها.. فأوكلت هذه المهمة القذرة لقاعدة الاستعمار الأولى المتمثلة في الكيان الصهيوني اللقيط...

وقد سانده في هذه المهمة القذرة نُظُمٌ أغلقت الحدود أمام شرفاء الأمة والتنكيل بكل من سوّلت له نفسه دعم طلائع هذه الأمة المجاهدة و المتمثلة في الحركة الإسلامية الفلسطينية المجاهدة.

فالغرب الاستعماري تفتقت ذهنيته الإجرامية إبان استعماره لديارنا على زرع غدّة سرطانية في قلب الأمة وأمدها بالمال والسلاح وكافة أنواع الدّعم... وساند مجموعة اشربت ثقافته وفلسفته للكون و الإنسان والحياة، تولت الحكم وتسيير بقية أعضاء هذه الأمة.. مما حكم على جسد الأمة بالمرض والهزال والتخلف..

لذلك لا يمكن الحديث عن زوال هذه الغدة السرطانية وهي الكيان الصهيوني اللقيط المنغرس في قلب أمتنا إلا بزوال أنظمة فاسدة لا ترى مانعا من التوحد مع هذه الغدة السرطانية.. وهي أولى الخطوات لتحرير أمتنا من براثن التخلف والاستعمار والنهب وعودة أمتنا للفعل الحضاري وقيادة الشعوب لما فيه خيري الدنيا والآخرة ورحمة الله.

جريدة العرب

الثلاثاء 21/05/2002

Portable :(00 216)23038163

الماء في رحاب القرآن

تمهيد

تتميز نظرة الإسلام بالواقعية والعمق والشمولية، أمّا النظرة الواقعية فتتمثل في احتلال الماء أهمية كبرى في نصوص القرآن الكريم باعتباره أصل الحياة ونعمة النعم التي منّ الله بها على بني آدم. وأمّا عمق هذه النظرة فتبرز خاصة في البرهنة بحجج دامغة وملموسة على أنّ الماء آية من آيات الله الدّالة على وحدانيته سبحانه وتعالى وعظيم قدرته على البعث والنشور وإحياء الموتى...

وأما الشمولية فتتجسد أساسا في إحاطة الإسلام بكل منافع الماء وأدواره في هذه الدنيا وكذلك في الآخرة.

الماء واصل الحياة

أ‌- الماء أصل الحياة

إنّ كون الماء يمثّل سرّ الحياة النضيرة الزاهية المخضرّة حقيقة كونية ووجوديّة لم يغفل عنها الإنسان في أيّ زمان وفي أي مكان، لذلك نجد القرآن الكريم يثبت هذه الحقيقة بكل وضوح ودقّة: يقول عزّ وجلّ في سورة الأنبياء " أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرٍض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون" (أنبياء/30).

والمعنى: أو لم يعلم الكفار بالله والمشركون الذين أشركوا مع الله إلها آخر أنّ السماوات والأرض كانتا ملتصقتين شيئا واحدا، ففصلناهما وميزناهما عن بعضهما بكتلة الهواء، وخلقنا من الماء كلّ شيء: من حيوان ونبات وغيرهما أفلا يصدقون بقدرتي وتوحيدي؟

ب‌- الماء أصل خلق الإنسان

إذا تأمّل الإنسان ونظر نظرة مستنيرة من أي شيء خلقه ربّه، فسيجد أنّه خلق من ماء (مني) مصبوب في الرّحم، ويخرج هذا الماء من بين ظهر الرجل وعظام صدر المرأة يقول عزّ وجلّ: " فلينظر الإنسان ممّ خلق، خلق من ماء دافق يخرج من بين الصّلب والترائب". (الطارق/5-7)

ويقول عزّ وجلّ: " ألم نخلقكم من ماء مهين فجعلناه في قرار مكين إلى قدر معلوم فقدرنا فنعم القادرون". (المرسلات/20-23)

"وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربّك قديرا". (الفرقان/54)

أ‌- الماء أصل خلق الدّواب

إن كون كل من هبّ ودبّ على وجه الأرض قد خلق من ماء قانون إلهي ينطبق على كل المخلوقات بدون استثناء. يقول عزّ وجلّ: "والله خلق كلّ دابّة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء إنّ الله على كلّ شيء قدير" (النور/45)

نتيجة أولى: الماء دليل على وحدانية الخالق

إنّ وحدة العنصر الذي يرجع إليه أصل الحياة (وهو الماء) يبرهن بقوّة وبحجج دامغة على وحدانية الخالق وتفرّده بالخلق دون سواه، لأن إتباع نسق واحد في خلق السماوات والأرض وهندستها ورجوع أصل الحياة على اختلافها إلى شيء واحد ونظام واحد برهان قويّ وحجة ما بعدها حجّة على وحدانية الخالق وهو ليس كمثله شيء. فالله واحد في ذاته، لا شريك له، لم يلد ولم يولد من أحد، لأنّه قديم أزلي غير محدث فالله تبارك وتعالى هو خالق الكون وما فيه، وأنّه تعالى وحده المتصرّف فيه، وأن الجميع يخضع لإرادته ومشيئته، إن وحدة الموجد لهذا الكون، ووحدة الموجودات في السماوات أأأاوالأرضين ووحدة البشرية جميعا ووحدة القوانين التي تسير بمقتضاها الكائنات تنفي عبثية الكون وتدلّ على قدرة الله وترشد العباد إلى عظيم حكمة الله وتجنبهم الشّرك والكفر والضلال. إذ لو كان في السماوات والأرض آلهة أخرى غير الله لخربتا واختل نظام الكون وتضاربت نواميسه لاستبداد كل إله بتصرّف معيّن، فيقع التنازع والاختلاف. وبهذا يكون الماء آية تدلّ على أن الله واحد أحد لكونه أصل فريد لكلّ الكائنات الحيّة يقول سبحانه وتعالى في سورة الواقعة: " أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون" (الواقعة/68-70)، أي أخبروني أيّها الناس عن الماء الذي تشربون منه لإرواء العطش، أأنتم أنزلتموه من السحب أم نحن المنزلون له بإرادتنا وقدرتنا دون غيرنا؟

وبعد ما يثبت لنا القرآن العظيم وحدانية الخالق عزّ وجلّ وتنزهه عن الشريك في خلق السماوات والأرض والنّاس والدّواب والنبات، وتفرّده في تدبير الكون... يقدّم لنا الإسلام براهين ملموسة ومشاهدة على إمكانية البعث وإحياء الموتى يوم يقوم الناس لربّ العالمين.

الماء وقضية البعث

أ‌- بداية خلق الإنسان من تراب

تجمع عديد الآيات القرآنية على أن الله تجلت قدرته خلق الناس في الأصل من تراب بخلق أبيهم آدم عليه السّلام، ثم خلقهم من نطفة... يقول عزّ وجلّ: "ومن آياته أن خلقكم من تراب ثمّ إذا انتم بشر تنتشرون" (الرّوم/20). ويقول أيضا: "الذي أحسن كلّ شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين، ثمّ جعل نسله من سلالة من ماء مهين، ثمّ سوّاه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السّمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون" (السجدة/ 7-9).

ونجد أيضا هذه الآية: "هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفـّى من قبل ولتبلغوا أجلا غير مسمّى ولعلكم تعقلون" (غافر/67).

ب‌- إحياء الأرض الميتة بالماء

تلفت عديد الآيات القرآنية انتباه الإنسان إلى التحوّل الذي يطرأ على الأرض الميّتة بعد نزول المطر عليها. فهي تكون هامدة بين الحياة والموت فإذا نزل عليها الماء اهتزت وربت، وهي حركة عجيبة سجلها القرآن قبل أن تسجّلها الملاحظة العلمية بمئات السنين، فالتربة الجافة ينزل عليها الماء فتتحرّك حركة اهتزاز وهي تشرب وتنتفخ فتربو وتنبت من كلّ صنف نباتي نضير، يقول عزّ وجلّ: "ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها إنّ في ذلك لآيات لقوم يعقلون" (الروم/24). "أولم يروا أنّا نسوق الماء إلى الأرض الجُرُز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون" (السجدة/27) ويقول أيضا: " وهو الذي أرسل الريح بُشرا بين يدي رحمته، وأنزلنا من السماء ماء طهورا، لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسيّ كثيرا" (الفرقان/48-49).

نتيجة ثانية: الماء برهان على يوم البعث لأن إحياء الأرض الميّتة في الدنيا يضاهي إحياء الموتى يوم القيامة.

إذا كان الإنسان يشترك مع الأرض في الأصل الواحد وهو التراب فإنّ إحياء الأرض بعد موتها برهان على استطاعة الله إحياء الموتى يوم القيامة فإذا كان الله بقدرته يحيي الأرض الميتة بقطرات من الماء فهل يعقل أن يعجز عن إحياء الإنسان بعد موته وهو الذي بدأ الله خلقه من تراب..؟؟! فالذي أحيا الأرض قادر ولا شكّ على إحياء الموتى بعد فنائهم وهو قادر على كلّ شيء فالماء كما برهن يقينيا على وحدانية الله فهو يبرهن بالملموس ويقرّب إلى الأذهان كيفيّة البعث والنشور. فكون أصل الإنسان من تراب فإحياء الأرض بعد موتها يتفق مع إمكانية إحياء الإنسان بعد الموت، وفيما يلي بعض الآيات التي تشرح هذه المعاني وتربط بين كيفية إحياء الأرض بالماء وكيفية إحيائه الموتى يوم القيامة، يقول عزّ وجلّ: "يا أيّها النّاس إن كنتم في ريب من البعث فإنّا خلقناكم من تراب ثمّ من نطفة ثمّ من علقة ثمّ من مضغة مخلّقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقرّ في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمّى ثم نخرجكم طفلا ثمّ لتبلغوا أشدّكم ومنكم من يتوفـّى ومنكم من يردّ إلى أرذل العمر لكيلا يعلم بعد علم شيئا وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، ذلك بانّ الله هو الحق وأنّه يحيي الموتى وإنّه على كل شيء قدير" (الحج/5-6)

"والذي نزّل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون" (الزخرف/11)

"ومن آياته أنّك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنّه على كلّ شيء قدير" (فصلت/39)

"والله الذي أرسل الرّياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميّت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النّشوز" (فاطر/9)

فهذه الآيات تجمع على أن الله الذي أرسل الرّياح مبشرات بهطول الأمطار، فتحرّك سحابا وتدفعه إلى جهة ما فيسوق الله هذا السحاب المحمّل بالغيث إلى بلد مجدب قاحل غير منبت فيحيي بالمطر الأرض بإنبات النبات بعد يبسها وجدبها. وبمثل ذلك الإحياء يحيي الله العباد بعد الموت ، فهو "يخرج الحيّ من الميّت ويخرج الميّت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون" (الرّوم/19).

ولعلّ ما يبعث به نزول الغيث من أمل وبشرى في نفوس الناس بعد اليأس والقنوط عمليّة تقرّب من الأذهان كيفية الحياة بعد الموت أيضا لأنّ اليأس نوع من الموت، يقول عزّ وجلّ: "وهو الذي ينزّل الغيث من بعدما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد" (الشورى/28). فالله هو الذي ينزل المطر لإغاثة الناس بعد يأسهم من نزوله وتعمّ رحمته كلّ شيء، وتنشر منافع الغيث في كل مكان، وهو الذي يتولى الصّالحين من عباده بالإحسان المحمود على كلّ حال، المستحق للحمد والشّكر على نعمه الكثيرة فالمطر دائما يحمل البشرى بالخير والخصب، يقول الحق تبارك وتعالى: "الله الذي يرسل الرّياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من حلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون، وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين. فانظر إلى أثر رحمة ربّك كيف يحيي الأرض بعد موتها إنّ ذلك لمحيي الموتى وهو على كلّ شيء قدير" (الروم/48-50)

الماء أصل كلّ الخيرات في الدّنيا والآخرة

· في الدنيا

أ‌- طعام الإنسان أصله ماء

إذا ما نظر الإنسان نظرة تأمّل وتفكّر كيف أوجد الله له مطعومه الذي هو سبب حياته فسيجد أنّ الله أنزل المطر إنزالا سخيا كثيرا، ثمّ شقّ الأرض حبّا كالحنطة والشعير، وأعناب وكلّ ما يقطع أخضر طريّا وأشجار زيتون ونخيل وبساتين كثيرة الأشجار. وفاكهة مختلفة الألوان والأنواع وعشبا للدواب، خلقها الله منفعة للبشر ولجميع حيواناتهم يقول عزّ وجلّ: "فلينظر الإنسان إلى طعامه إنّا صببنا الماء صبّا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبّا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبًّا متاع لكم ولأنعامكم" (عبس/24-32). كما جاء قوله تعالى: "وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا لنخرج به حبّا ونباتا وجنات ألفافا" (النبأ/14-16).

فكل ما يمثل قوتا للعباد من بساتين مشجرة كثيرة، وزروع مختلفة ذات حبوب كالبر والشعير والنّخيل المتميّز بأشجار طوال عالية لها ثم منضد: كل هذه الخيرات أصلها المطر رمز الخير والبركة والمنفعة يقول عزّ وجلّ: "ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحَبَّ الحصيد، والنخل باسقات لها طلح نضيد رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج" (ق/9-11).

إنّ الرّبيع يبعث مع جريان الجداول، فتعمر المنتزهات الزاهية وتزدهي الطبيعة بكساء مزركش أخاذ، ويعبق الفضاء بنسيم نقي عاطر وترفرف البلابل والفرشات فتلقاها تجيء وتروح وتحوم وترقص... ويهنأ الناس باشهى الثمار وأجمل الورود والياسمين. وكل هذه الخيرات التي ينعم بها البشر تسقى بماء واحد كما الرّب واحد. لكن لا يجب أن يغترّ المرء بهذه الخضرة والتنوّع لأنّ كلّ ذلك سييبس ويجف فتراه مصفرّا بعد خضرته، ثمّ يتفتّت ويتكسّر يقول الله في ذلك: "ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثمّ يهيج فتراه مصفرّا ثمّ يجعله حطاما إنّ في ذلك لذكرى لأولي الألباب" (الزمر/21).

وهذه القوانين تنسحب على كل المخلوقات الكونية حتى يعلم الإنسان أن عبادة الله هي الغاية القصوى من خلقه فيسعى تبعا لذلك في هذه الحياة الدنيا مستفيدا مما سخره الله من الكائنات والخيرات كوسيلة لحفظ البدن الذاكر الشاكر المتفكّر...

ب‌- استخراج الزينة والحلي من البحر

يعتمد الإنسان في معاشه على ما يستخرجه من البحر أيضا كالسمك واللؤلؤ والمرجان، كما يستعمل السفن عابرات شاقات الماء يجربها فيه طلبا لرزق الله وفضله بالتجارة يقول عزّ وجلّ: "وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريّا وتستخرجون حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون".(فاطر/12)

ج‌- الماء فيه شفاء من بعض الأسقام

فقد ذكر الله سبحانه وتعالى أنّ النبي الصّابر أيّوب بن أموص بن أروم حين دعا ربّه متضرّعا بأنه أصيب بضرّ ومشقّة وألم أي مرض قال له الله: اضرب برجلك الأرض يخرج ينبوع من الماء البارد، كما أمر موسى بضرب الحجر، فضرب، فنبعت عين جارية، قيل له هذا ماء بارد مغتسل تغتسل به، وشراب تشرب منه، ففعل فبرئ مما أصابه، يقول الله تعالى في ذلك: "واذكر عبدنا أيّوب إذ نادى ربّه إنّي مسّني الشيطان بنصب وعذاب، اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب" (ص/41-42).

د- الماء إحدى المعجزات وحجة على الكفار

فقد أوحى الله إلى موسى عليه السلام حين طلب قومه السقيا، لما أصابهم من العطش في صحراء التيه، أن اضرب بعصاك الحجر، فانفجرت منه أثنتا عشرة عينا بعدد الأسباط، فقد علم كل سبط منهم مكان شربهم، قال تعالى: "وأوحينا إلى موسى إذا استسقاه قومه أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه أثنتا عشر عينا قد علم كل أناس مشربهم" (الأعراف/160). وكان الماء من أبلغ الحجج التي قدّمها النبي نوح عليه السلام لقومه لكي يؤمنوا بالله ويوحدوه، قال عزّ وجلّ على لسان نوح: " فقلت استغفروا ربّكم أنّه كان غفّارا يرسل السّماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم أنهارا" (نوح/10-12). وكذلك ذكّر كل من هود وصالح عليهما السلام قومهم بنعمة الماء يقول عزّ وجلّ: "كذبت عاد المرسلين إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون... فاتقوا الله وأطيعون واتقوا الذي أمدّكم بما تعلمون أمدّكم بأنعام وبنين وجنات وعيون" (الشعراء/123-134).

وقال صالح عليه السلام لقومه ثمود: "إنّي لكم رسول أمين فاتّقوا الله وأطيعون... أتتركون في ما هاهنا آمنين في جنات وعيون" (الشعراء/143-147). كما كان الماء سببا في إنقاذ المؤمنين بنوح عليه السلام من الطّوفان في السّفينة التي تجري فوق الماء، وهي سفينة نوح يقول عزّ وجلّ: "..إنّا لما طغا الماء حملناكم في الجارية" (الحاقة/11). وجعل الله اليم منقذ لموسى من الموت المحتم على يد فرعون عليه لعنة الله. يقصّ القرآن ذلك فيقول: " وأوحينا إلى أمّ موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليمّ ولا تخافي ولا تحزني إنّا رادّوه إليك وجاعلوه من المرسلين" (القصص/7).

ولمّا عرض زعماء قريش كأبي سفيان والنضر بن الحارث على النبي صلى الله عليه وسلم الملك والجاه والشرف ليكفّ عن دعوته فأبى ذلك... فسانده الله على موقفه مبينا له أنّه لو شاء لجعل له خيرا ممّا اقترحوه، وهو بساتين تجري من تحت غرفها الأنهار ممّا يبرهن على أن الماء يحتل عند الله أعلى الدرجات من بين جميع الخيرات، يقول عزّ وجلا في ذلك: " تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنّات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا" (الفرقان/10)

· في الآخرة

أ‌- الماء مكوّن من مكوّنات الجنّة

هذه بعض العينات للأهمية البالغة التي يحتلها الماء في حياة البشر من وجهة نظر إسلامية حاولنا أن تكون مدعّمة بآيات من القرآن الكريم، وهذه الأهمية التي يحتلها الماء في هذه الدّنيا ستزداد أهميتها يوم القيامة بالنسبة للمؤمنين الذين فازوا برضوان الله عزّ وجلّ وفيما يلي بعض الآيات القرآنية التي تصوّر لنا النعيم الذي سيمتع به الأبرار في الجنّة والذي سيكون الماء ركيزة من ركائزه يقول عزّ وجلّ: " إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير" (البروج/11).

"إن الأبرار لفي نعيم، على الأرائك ينظرون، تعرف في وجوههم نضرة النعيم يسقون من رحيق مختوم ختامه من مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ومزاجه من تسنيم، عينا يشرب بها المقرّبون" (المطففين/22-28). "إنّ المتقين في ظلال وعيون وفواكه ممّا يشتهون، كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون، إنّا كذلك نجزي المحسنين" (المرسلات/41-44). "إنّ الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا" (الإنسان/ 5-6).

"إنّ المتقين في مقام أمين في جنّات وعيون" (الدّخان/51-52). " لكن الذين اتّقوا ربّهم لهم غرف من فوقها غرف مبنيّة تجري من تحتها الأنهار وعد الله لا يخلف الله الميعاد" (الزمر/20).

"هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب، جنّات عدن مفتّحة لهم الأبواب متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب" (ص/49-51).

"إلا عباد الله المخلصين أولئك لهم رزق معلوم فواكه وهم مكرّمون، في جنّات النعيم على سرر متقابلين يطاف عليهم بكأس من معين بيضاء لذّة للشاربين لا فيها غَوْل ولا هم عنها ينزفون" (الصافات/40-48).

فالمؤمن كما هو في الدّنيا خيّر نافع مثمر، فإنّ جزاءه يوم القيامة يكون الإقامة الدّائمة في بساتين مختلفة، وأنهار متنوّعة، وفي مكان لا لغو فيه ولا تأثيم، عند ملك قادر لا يعجزه شيء، يقول عزّ وجلّ: "إنّ المتّقين في جنّات ونَهَر في مقعد صدق عند مليك مقتدر" (القمر/54-55).

الماء وسيلة يعاقب الله بها الكفار

· في الآخرة

إنّ آية الماء التي تبرهن على وحدانية الله وعظمته وتقرّب إلى الأذهان كيفية البعث والنشوز وكانت أصلا لخيري الدّنيا والآخرة بما تبعثه من خيرات في كافة مرافق الحياة، شاءت حكمة الله أن يكون الماء أيضا أداة فعّالة في عقاب الكفار في الدّنيا ومجازاتهم يوم البعث، فعلى عكس الجنّة التي وعد الله بها المتّقين، فيها أنهار جارية من ماء غير متغيّر الرّائحة والطّعم، وأنهار من حليب لم يتغيّر طعمه أيضا وأنهار من خمر لذة للشاربين، غير مؤذية ولا كريهة الطعم كخمر الدّنيا، وأنهار من عسل مصفـّى من الشّوائب على عكس مصير هؤلاء المتّقين سيكون مصير الكفار الخلود في النّار وسيسقون ماء حارّا شديد الغليان، فيقطع أمعاءهم، لشدّة حرارته، يقول عزّ وجلّ: "لم يتغيّر طعمه وانهار من خمر لذّة للشاربين وأنهار من عسل مصفّى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربّهم كمن هو خالد في النّار وسقوا ماء حميما فقطّع أمعائهم" (محمد/15).

· في الدنيا

إنّ هذه الحال التي سيكون عليها الكفّار يوم القيامة هناك صورة مصغّرة لها في هذه الدّنيا وفيما يلي بعض الأمثلة:

- غرق قوم نوح: كذبوا نبي الله نوحا عليه السلام وقالوا عنه مجنون وزجروه بشدّة فازدجر وكفّ عن دعوى الرّسالة فدعا ربّه بأنّه مغلوب على أمره ففتح الله أبواب السّماء بمطر غزير منصب بشدّة وتتابع وشقّ عيون الأرض بالمياه، فالتقى ماء السماء وماء الأرض على أمر قضى به في الأزل وقدره الله وهو الطوفان على "أمر" وهو إغراقهم... يقول عزّ وجلّ: "كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر فدعا ربّه إنّي مغلوب فانتصر ففتحنا أبواب السّماء بماء منهمر وفجّرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر" (القمر/9-12)، "قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكوننّ من المرجومين، قال ربّي إنّ قومي كذبون، فافتح بيني وبينهم فتحا ونجّني ومن معي من المؤمنين، فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون، ثم أغرقنا بعدُ الباقين، إنّ في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين" (الشعراء/116-121).

ويقول تعالى: " وقوم نوح لمّا كذبوا الرّسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية واعتدنا للظالمين عذابا أليما" (الفرقان/37).

فالله لما استنجد به نوح عليه السلام أوحى إليه أن اصنع السفينة بحفظه وعنايته وإرشاده وتعليمه إيّاه وأمره بأن يحمل في السّفينة من كلّ أنواع الحيوان صنفين: ذكر وأنثى، ليستمرّ توالد الحيوان وتبقى الحياة في الأرض ثمّ كتب على الذين ظلموا الغرق والموت.

- غرق فرعون وجنده وترك العيون والجنان: يقول عزّ وجلّ: "فدعا ربّه أنّ هؤلاء قوم مجرمون فأسر بعبادي ليلا إنكم متبعون واترك البحر رهوا إنّهم جند مغرقون، كم تركوا من جنّات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك وأورثناها قوما آخرين" (الدخان/22-28)

وقال الله تعالى في سورة الذاريات: "وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين فتولى بركنه وقال ساحر أو مجنون، فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليمّ وهو مُليم" (الذاريات/38-40)

ويقول عز جلّ مبينا أن الإغراق كان سبب الإفراط في العصيان والفساد وإغضاب الله: "فاستخفّ قومه فأطاعوه أنّهم كانوا قوما فاسقين فلمّا آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين" (الزخرف/54-55).

فعاقبة الظلم والكفر تكون دائما وخيمة بمقتضى النواميس الإلهية : "فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليمّ فانظر كيف كان عاقبة الظالمين". (القصص/40).

الفهرس

تمهيد

الماء وأصل الحياة

أ‌- الماء أصل الحياة

ب‌- الماء أصل خلق الإنسان

ت‌- الماء أصل خلق الدواب

نتيجة أولى: الماء دليل على وحدانية الخالق (لأن وحدة أصل الأشياء يبرهن على وحدة خالقها).

الماء وقضية البعث

أ‌- بداية خلق الإنسان من تراب

ب‌- إحياء الأرض الميتة بالماء

نتيجة ثانية: الماء برهان على يوم البعث (لأن إحياء الأرض الميتة يضاهي إحياء الموتى يوم القيامة)

الماء اصل كل الخيرات في الدنيا والاخرة

· في الدنيا

أ- طعام الإنسان أصله من ماء

ب‌- استخرا الزينة والحلي من البحر

ج- الماء إحدى المعجزات وحجة على الكفار

د- الماء فيه شفاء من بعض الأسقام

· في الآخرة

أ‌- الماء مكوّن من مكونات الجنة

الماء وسيلة يعاقب الله بها الكفار

· في الآخرة

· في الدنيا

Portable :(00 216)23038163

الأحزاب الدينية والمشهد السياسي في تونس

ردّا على ندوة: الأحزاب الدينية والمشهد السياسي الرّاهن / علمانيون وسلطة: تحالف ام تضاد؟!

ندوة فكرية عقدتها جامعة تونس للحزب الديمقراطي التقدمي يوم 7/12/2007.

مبلغ المنى في التوحد بين القول والفعل

يبدو لي أن كل ما ورد من أجوبة على الأسئلة المطروحة قد جانبت الحقائق التاريخية والواقع، فتونس قد صارت منارة إسلامية علمية وجهادية في كيان الأمة الإسلامية منذ الفتح الإسلامي لأفريقية سنة 27هـ/467م وما جامع عقبة والزيتونة وفتح إسبانيا على يد طارق بن زياد عنا ببعيد... أما ما يسمّى "بالاتجاه الإسلامي" فهو "نبت دخيل" على بلادنا ولا تربطه بمبادئ الإسلام كبير صلة إلا صلة الزي بصاحبه، لذلك كان هذا "الاتجاه" يغير من اتجاهاته وتوجهاته في كل آن وحين منذ أكثر من عقدين .. بينما مبادئ الإسلام ثابتة مكينة ثبات مسميات الأشياء وحقائقها في الكون والإنسان والحياة...

أما عن انقسام النخبة حول "منح حزب ديني رخصة العمل السياسي" فهو حق لمن لا يملكه ولا يمكن له أن يملكه، فصاحب الأمر والنهي قد أمر وأمره نافذ لا محالة طوعا أو كرها، وإنك يا قارئي لن تجد وسيلة إعلام واحدة في تونس أو في العالم لا تذكر بمبادئ الإسلام وشريعته المركونة في نفوس البشر جميعا... وما إذاعة القرآن عنا ببعيد.

أما القول بأن "الواقع لا يحتمل تطبيق الشريعة الإسلامية التي سنت قوانينها منذ 14 قرنا فهو قول مرفوض ومردود على صاحبه شكلا ومضمونا، أما الشكل فالشريعة قد سنت منذ خلق آدم وتعليمه "الأسماء كلها" وما بعثه محمد صلى الله عليه وسلم والمرسلين من قبله عليهم السلام إلا تذكيرا بها لا غير: "شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه..." (سورة الشورى الآية 13).

ولا أعتقد أن أي مبصر يجهل هذه الحقائق المكتوبة بين دفتي كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه منذ 14 قرنا. كما أن حدود الله وشريعته مطبقة تطبيقا في تونس وفي العالم كله منذ خلق الإنسان: "عصيان آدم لله في الجنة أنزله إلى دنيا التعب والكدح والشقاء، عصيان الله في الدنيا ينتج عنه حتما: المعيشة الضنك والتعب النفسي والبدني لكلٍّ حسب جريمته وظلمه وجهله... قاتل نفس بغير حق "يُقْتَلُ" ولو بعد حين...: "فرعون وجنده لما همّوا بقتل موسى ومن معه أهلكوا جميعا... الشيخ ياسين لما شجع على قتل الأبرياء قتِل... الزرقاوي.../ يوسف لما "همَّ" بإمرأة العزيز سجن بضع سنين.. "اللصوص قطعت أيديهم في الدولة الإسلامية... أو شلت أبدانهم في كل زمان ومكان أو ماتوا بأمراض مزمنة في قلوبهم وأدمغتهم... "شارون"... "ياسر عرفات"...إلخ.

لقد عبرت المعارضة عن تخوفها "من فكرة وجود حزب ديني سياسي" في تونس ودعت إلى "ضرورة التمييز بين حزب ديني سياسي وحزب سياسي ديني ورفض الخلط بين الوظيفة الدينية والوظيفة السياسية" فحققت السلطة المشرفة على أمن "المواطنين" المتخوفين من مجرد فكرة وجود حزب ديني رغبتهم "بالحضور المكثف للأمن السياسي"، ومنعت "المناضل الإسلامي" من حضور الندوة لأنه ببساطة ليس "قيادي حركة النهضة" كما صوب هو نفسه في جريدة (مواطنون بتاريخ 12/12/2007 ص5)، على عكس ما وهمت الجهة التي دعته لحضور حلقة النقاش.!

أما "النهضة" موضوع الحوار فقد حقق الله مسعى الخلّص من أبنائها في المساهمة في إنهاض المجتمع على يد قائد "التغيير" في نفس اليوم الذي فكر فيه الطامعون للانقضاض على السلطة تحت "غطاء الإسلام" الذي تزينت به ظاهرا وكفرت بشريعته حقا وواقعا حين غيرت إسمها وتلاعبت بثوابت الرحمان وأمضت على الميثاق الوطني. !!! ؟

محمد بن سالم بن عمر

كاتب وناقد تونسي

محمد بن سالم بن عمر

12، شارع الجمهورية، سيدي بوعلي 4040

الحمد لله

MMohamedsalembenamor21@yahoo.fr

Portable :(00 216)23038163

وعــي زائــف

الأستاذ رئيس التحرير

تحية طيبة وبعد،

من المخجل حقا أن يتصدّى لقيادة هذه الأمة العظيمة أشخاص لا يعرفون حقيقتها ولا يدركون عناصر القوة في هويتها الحضارية ولا أسباب الضعف فيها فيساهمون من غير قصد في تأييد تخلفنا وتبعيتنا المطلقة لعدو همه الوحيد إذلالنا والنكاية بنا واستغلال ثرواتنا والاستحواذ عليها.

إن من جملة ما ابتليت به هذه الأمة، تذبذب أبنائها المخلصين بين مناهج مختلفة ومتضاربة في تحليلهم لمجمل قضايانا الحيوية، أو غياب المفهوم الصحيح في أحايين كثيرة مما يوقعهم في غموض الفكرة وقصورها وهذا قد يوصلنا إلى التهلكة مكرهين. فهذا الكاتب يغيب عن ذهنه فكرة أن الشعب الفلسطيني هو جزء لا يتجزأ من الأمة الإسلامية ووحدة أهدافها وكل مل يمس الشعب الفلسطيني من قريب أو بعيد يهز كيان الأمة الإسلامية جميعا ويضربها في العمق بل ويفترض ان يهب كل أحزاب هذه الأمة –جيوشا وأفرادا- لنجدته إذا ما تعرض لسوء عملا بقوله عز وجل "ان هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون". إن الوعي الزائف الذي غرسه الاستعمار ولا يزال يقوم بغرسه عملاؤه وبقايا قوى الردة في بلادنا القائل بأن لكل شعب من شعوبنا شانه الخاص الذي يغنيه عن الالتفات لكل آلام الأمة الإسلامية لهو السبب المباشر في كل هزائمنا تقريبا، فهذا الشعور الزائف هو الذي أضعفنا ومكن قوى الاستكبار العالمي من الاستفراد بنا كل على حدة، "فالولايات المتحدة تحارب العراق لأنها ضامنة استفرادهم وإسرائيل تفتك بالفلسطينيين لأنها ضامنة استفرادهم... لم يحدث أن حارب أحد العرب كلهم" (المرجع: أ. طارق مصاورة في مقالة له بعنوان "بعد روس ستحل أولبرايت" "القدس العربي" عدد 2576).

أما من نصبوا أنفسهم الممثلين الشرعيين والوحيدين للشعب الفلسطيني فيتجاهلون أن كل الشعب الفلسطيني "بمتطرفيه ومعتدليه، بحمائمه وصقوره" تجب حمايتهم من العدو الصهيوني وحفظ أرواحهم وممتلكاتهم ولا يتذكرون هذه الحقيقة الا تحت ظروف قاهرة ولأسباب تكتيكية بحتة!!؟

ولقد أصبح هم بعض قادتنا –حفظهم الله- محاربة شعوبهم ورعاياهم تحت لافتات التطرف والإرهاب أو باسم الديمقراطية التي أشربوها فعرفوا أن بعض مواطنيهم لا ينتمون إلى عالم البشر بل وصاروا يرددون مصطلحات اختلقها اعداؤنا لمحاصرة أي شعلة نور يمكن أن تبزغ في سماء هذه الأمة العظيمة التي ابتعثها الله لتكون رحمة للعالمين. القدس العربي العدد 2597

13 سبتمبر 1997

محمد بن سالم بن عمر

12، شارع الجمهورية، سيدي بوعلي 4040

الحمد لله

MMohamedsalembenamor21@yahoo.fr

Portable :(00 216)23038163

بقايا الإستعمار

الأستاذ رئيس التحرير

تحية طيبة وبعد،

منذ انجلاء الاستعمار العسكري الغربي عن أرض العروبة والإسلام نشطت قوى الردة من بقايا هذا الإستعمار بكثافة لضرب مقومات أمتنا وتقزيمها وطمس هويتها الحضارية وتكريس واقع التخلف و"حياة الأنعام" لدى المواطن العربي وكل ما من شأنه أن يؤبد تبعيتنا الحضارية واستكانتنا للعبودية والانحطاط ومن ثمة يسهل إلحاق هذه الأمة العظيمة ذليلة محطمة بمصاصي دماء الشعوب.

وقد تنوعت أنشطة هذه القوى حتى شملت كافة الميادين المؤثرة تقريبا، وسأكتفي بذكر بعض النماذج من التخريب الذي أحدثته قوى الردة في تونس.

ففي ميدان الشاشة الصغيرة نجد عديد المسلسلات التي تكرس العقلية الخرافية لدى المواطن وتقترح عليه حلولا وهمية للمشكلات الكثيرة التي يعاني منها كمشكلة الفقر والبطالة فتحلها له هذه المسلسلات بالعثور المفاجئ على كنز مدفون، أو أن يمن عليه الملك بثروة تقلب حياته، أو يزوجه إبنته الوحيدة فيصبح ذلك الفقير المعدم وزيرا يتكلم فيطاع... وجماع هذه المسلسلات نجدها في حكايات "عبد العزيز العروي" الذي لا تزال حكاياته تبث ويعاد بثها المرات العديدة منذ حصول تونس على استقلالها وإلى اليوم.

ولمحاربة فكرة "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" نجد مسلسلات يعاد بثها باستمرار حتى ترسخ في وعي المواطن، من قبيل "مسلسل الحاج كلوف" تنفر الناس من التدخل في شؤون أفراد المجتمع وتصور الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر "بهلوانيا" لا يجلب سوى الاشمئزاز أو الضحكة، وقد صارت المقولة السائدة عندنا في تونس "الحاج كلوف يستاهل عشرة كفوف" (أي عشرة صفعات).

وفي السنوات الأخيرة لم يعد هم السينما التونسية سوى محاربة القيم العربية الأصيلة، ورسم ملامح حضارية لا تمت لقيمنا بصلة فيصبح المجتمع في شريط "عصفور السطح" لفريد بوغدير لا يعرف أفراده سوى الجري وراء تلبية غرائزهم الجنسية الملتهبة بكل السبل وتتحول المرأة إلى جسد عار لا يعرف الاحتشام إليها سبيلا، بل وتصبح الفتاة التونسية في شريط "صيف حلق الوادي" تلهث وراء من يَفُض لها بكارتها متحدية جميع القيم ولا يهمها من يكون خدينها يهوديا أو نصرانيا أو "مسلما"!

ويتحرر المجتمع من كل ثوابته وقيمه فيغلب على الأفراد شرب الخمرة والتسكع في الشوارع ومراودة الفتيات واختلاط الحابل بالنابل في مناسبات الفرح واتخاذ العشاق وبيع الذمم وتفضيل معاشرة الأسر اليهودية والمسيحية والتماهي كلية مع تقاليد المجتمع الغربي والولاء لكل ماهو غربي وكل ذلك رمز على تقدم الوطن وتحرره!!؟

وقد ارتفعت في مجال العمران – النزل السياحية والبنوك عاليا في سماء مدننا وقرانا لتأخذ بذلك مكان الصومعة والمسجد، وكل ذلك من شأنه أن يعطي انطباعا عاما بأن الرفعة والولاء قد تحول من الولاء لله ولدينه ولقرآنه ليصبح الولاء "للدينار وللغرب"، وقد صارت البيوت والمنازل عورة،وتبنى بطريقة لا يراعى فيها الحياء ولا أسرار الناس وبيوتهم ولا كون المرأة عرضا يجب أن يحفظ ويصان.

أما اللغة الفصحى فهناك من أصبح يتمعش بمحاربتها ويزعم أن اللهجة الدارجة المحلية أفضل وأنجع من لغة القرآن، اللغة التي كتب بها الجاحظ والمعري وابن سينا وابن خلدون...وغيرهم من جهابذة الحضارة الإسلامية، ولسان حاله يقول بفجاجة: "من أراد التقدم والرقي واللحاق بركب الحضارة الغربية فلايتكلم العربية الفصحى!" وقد صدرت حتى الآن – على حد علمي- صحيفتان أسبوعيتان ناطقتان كليا أو جزئيا باللهجة الدارجة وهما "الصريح" و"الأخبار" وقد صرح رئيس تحرير "الأخبار" في المدة الأخيرة على الهوائية (قناة تونس7) بأن اللغة الفصحى قد صارت في العصر الحديث عاجزة عن التعبير عن كل مشاغل الإنسان! وهنا يتبادر إلى الذهن، أي علم سنكتبه بلهجات تفتقد إلى المصطلحات العلمية والأدبية التي تشتمل عليها اللغة الفصحى بالإضافة إلى اختلاف هذه اللهجات من بلد إلى آخر، كما تختلف في البلد الواحد باختلاف مناطقه وأجيال أبنائه!! لقد استنبطت الشعوب هذه اللهجات الدارجة لتيسير التعامل اليومي فيما بين أفرادها وقضاء الحاجات اليومية البسيطة فكيف نسمح باتخاذها بديلا عن اللغة الفصحى للتعبير عن حضارتنا وإبداعاتنا وابتكاراتنا؟! وإني أتحدى كل من تحدثه نفسه باتخاذ اللهجات الدارجة أن يكتب مقالا بلهجة دارجة عن نظرية ابن خلدون مثلا في علم العمران البشري أو ابن سينا والرازي في الطب أو غيرهما من النظريات العلمية أو الأدبية!!

هذا بعض ما فعلته قوى الردة في تونس العزيزة ولا تزال تخطط وتجتهد وتتحرك في كل المجالات الثقافية والتعليمية والسياسية لتكريس واقع جديد يقضي على ما تبقى من هوية هذه الأمة لتقضي بذلك على أي أمل يمكن أن يراود هذه الأمة للنهوض مرة أخرى والتحرر من براثن الاستعمار والتخلف.

القدس العربي

العدد 2654 19 نوفمبر 1997

محمد بن سالم بن عمر

12، شارع الجمهورية، سيدي بوعلي 4040

الحمد لله

MMohamedsalembenamor21@yahoo.fr

Portable :(00 216)23038163

بسم الله الرحمان الرحيم

õإِنَهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارَ وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبَõ

طالعت في مجلة المنهل الغراء العدد (608) شهر سبتمبر /أكتوبر 2007 حوارا مع الدكتور محمد عمارة تحت عنوان :"الهيمنة الغربية تصنع أمراضنا..ويسعدني أن أبدي الملاحظات التالية بخصوص بعض المعاني والمفاهيم التي أبداها الدكتور فيما يخص أسئلة المجلة.

المنهل: يتحدث البعض عن موت الأمة الإسلامية، ترى ما مفهوم الأمة.. وما مقومات وجودها؟

يحدد الدكتور محمد عمارة مفهوم "الأمة" فيقول:"المسلمون أمة بمعنى جماعة.. تربطها وتجمع بينها وتوحدها عقيدة واحدة، وشريعة واحدة، حضارة واحدة..وهناك عنصر آخر هو دار الإسلام أو الوطن، هذه ثلاثة جوامع..على أساسها تكونت أمة إسلامية..وهي لا تزال موجودة إلى الآن بكل مكوناتها ومظاهرها منذ أن كونها الإسلام...

يلاحظ بادئ ذي بدء أن هناك خلطا في ذهن الدكتور محمد عمارة بين مفهوم الأمة ومقوماتها وبين حضارة الأمة وإبداعاتها، فالإسلام بما هو "دين الله وشريعته" قد دعا على لسان كل الأنبياء والمرسلين عليهم السلام إلى عبادة الله وحده دون شريك وإفراده بالطاعة والخضوع :"اعُبُدُوا الله مَا لَكُم مِنْ إِلاَهً غَيْرَهُ" وقد لبث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم (13) سنة كاملة يدعو قومه إلى وحدانية الله وإفراده بالربوبية والطاعة وكانت المحصلة (86) سورة مكية لغرس عقيدة التوحيد في نفوس المؤمنين بالله حتى إذا ما تم له ذلك كوّن عليه السلام "امة إسلامية" بالمدينة يتبع أفرادها الشريعة الإسلامية في علاقات بعضهم ببعض في جميع ميادين الحياة حتى كانت المحصلة (28) سورة مدنية محدّدة وضابطة لشريعة "الأمة الإسلامية" وبذلك يكون مفهوم الأمة في الإسلام يعني:"مؤمنون بالله ربا وخالقا وهاديا ومشرعا واحدا لا شريك له، تصطبغ كل مفاهيمهم عن الكون والإنسان والحياة بصبغة مفاهيم القرآن المنزل على النبي محمد صلى الله عليه وسلم".

فالأمة الإسلامية كائن حيّ فاعل ومنتج يشبه إلى حدّ بعيد الشجرة المباركة الطيبة أصلها ثابت لا يتغير (وحدانية الله وربوبيته ) وفرعها في السماء (الشريعة المنبثقة عن الله وكلماته) تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها (إنتاج الحضارة والمدنية).

إن حضارة الأمة الإسلامية هي نتاج مقوماتها الربانية الثابتة وليس جزءا من الشريعة أو العقيدة، فالعقيدة والشريعة الإسلامية قد اكتملت معالمها منذ اكتمال نزول الوحي"اليَومَ أَكْمَلتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيْتُ لَكُمْ الإسْلاَمَ دِينًا " (المائدة الآية 3) وتتلخص في "آمَنَ الرَسُولُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيهِ مِنْ رَبِهِ والمُؤْمِنُونَ كُلٌَ أمَنَ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبَهُ وَرُسُلَهَ لاَ نُفَرِقُ بَينَ أحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ" (البقرة الآية 285). وهي ثابتة لا تتغير بتغير الزمان والمكان لدى كل من أسلم وجهه للحي القيوم ومعلومة علما يقينيا كي "يخضع المؤمن لضوابطها ومعانيها بملء إرادته.." أما الحضارة فهي متغيرة ومتطورة لأنّها نتاج الأمة الإسلامية عبر مختلف العصور وما أبدعه بنوها في مختلف ميادين العمران البشري كالطب والجراحة والهندسة والفلاحة وعلم التاريخ والجغرافيا وتكنولوجيا الإتصال والتعليم والحرب..كما أن الحضارة تأتي نتيجة تراكمات معرفية وتجريبية وإنسانية في مختلف ميادين الحياة والعيش وتفاعل الإنسان مع مختلف العوالم المخلوقة لله ربّ العالمين. كما أنها قاسم مشترك بين كل البشر مهما كانت أديانهم وشرائعهم.

إن من بديهيات معنى توحيد الله أن يحيا الإنسان المؤمن والأمة المسلمة في أرض الله وتنتظم حياتهم في الأسرة والمجتمع طبقا لما يرضى الله. وما يرضي الله مفصّل في كتاب الله تفصيلا بينا، والتعامي على هذه الحقيقة تحول الإنسان مهما علا شأنه إلى أعمى لا يبصر وأصم لا يسمع وجاهل لا يعلم من حقائق الحياة شيئا.. فيعيش الإنسان في ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها وإن رآها يراها على غير حقيقتها، فتدلهم السبل أمامه وتقلب كل مفاهيم الحياة في ذهنه رأسا على عقب، ولا عجب بعد ذلك أن يرى مؤلف أكثر من 200 كتاب في فكر التجديد أن الأمة الإسلامية التي كونها الرسول محمد صلى الله عليه وسلم لا تزال "إلى الآن موجودة بكل مكوناتها ومظاهرها"! ! ؟؟

لقد أقام الرسول محمد صلى الله عليه وسلم سلطته على أرض المدينة المنورة/ أرض أنصار الله التي آمن جل سكانها بوحدانية الله خالق الكون والإنسان والحياة.. كما آمنوا بربوبية الله للمجتمع المسلم فهو المشرع الوحيد وهو مدبر الأمر كله وهو الحاكم لا معقب لحكمه وقد خلع المسلمون عنهم آنذاك رداء الجاهلية عقيدة وأخلاقا وعادات ومعاملات.. وقالوا لخالقهم ومدبر أمرهم بإيمان ويقين "سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرَ" وكانوا "يوفون بالنذر" و"يُؤْثِرُونَ عَلىَ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٍ" مما شكل منهم "خَيْرُ أُمَةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ" "تَأمُرُ بِالمَعْرُوفِ المُفَصَلِ فِي الذِكْرِ الحَكِيمِ وتنْهَى عَنْ المُنْكَرِ المذكور في القرآن وتؤمن بالله ربّ كل شيء الذي أمرها بالجهاد في سبيل إيصال كلماته وبصائره للناس كافة ومن ثم وراثة الأرض/كل الأرض التي وعدها الله عباده المتقين /الصالحين.

فالوطن لم يشكل في أي يوم جامع من جوامع الإسلام كما يزعم الدكتور محمد عمارة وإلا لما وصلت تعاليم الإسلام مصر أو شمال إفريقيا ..أو غيرها فالأرض في المفهوم الإسلامي كلها لله عزّ وجلّ وهي وقف على عباده الصالحين الذين يحتكمون إلى شرع الله عزّ وجلّ في كل صغيرة وكبيرة.. والأمة الإسلامية مطالبة _ إذا ما وجدت _ بالجهاد والقتال في سبيل الله حتى يكون الدين كله لله وتعم شريعته ورحمته أرض الله كلها.

إن العمى الفكري وغياب البصيرة القرآنية جعل الدكتور محمد عمارة يرى "أن الاختلاف سنة من سنن الله سبحانه وتعالى" وأن الأمة الإسلامية فيها "تنوع ديني.. شرائع وملل.." وكما ألمحتُ من قبل فإن شريعة الله واحدة لا تتغير ولا تتبدل لأنها مبنية على حقائق الكون والإنسان والحياة والحقائق لا تتغير ولا تتبدل "أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَطِيفُ الخَبِيرُ"

لقد علّم الله آدم الأسماء كلها وحقائق الأشياء ومعانيها وشرّع لأمة الإسلام ما وصى به كلّ الأنبياء عليهم السلام "شَرّعَ لَكُمْ مِنْ الدِينِ مَا وَصَى به نُوحًا وَالذِينَ أَوْحَينا إليكَ وَمَا وَصَيْنَا به إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أقٍيمُوا الدِيْنَ وَلاَ تتََفَرَقُوا فِيهِ"(سورة الشورى الآية 13).

إن أوامر الله ونواهيه ثابتة لا تتبدل ولا تتغير وبالتالي ليس هناك إمكانية للإجتهاد في الدين لأن الاجتهاد معناه استنباط أحكام جديدة تختلف باختلاف المجتهد كما أن الاجتهاد معناه الطعن في قول الله عزّ وجلّ "وَنَزَلْنَا عَليك الكِتًابَ تِبْيَانًا لِكُلِ شَيءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةٍ وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ" (سورة النحل الآية 89) وقوله عز وجل "وَمَا اخْتِلَفُتُمْ فِيهِ مِنْ شَيءٍ فَحُكْمُهُ إلىَ الله" (سورة الشورى الآية10 ) فالحلال بين والحرام بين ولا يعد الله إلا بما شرّع. واجتهاد الإنسان المؤمن يجب أن يقتصر على ما من شأنه أن يرتقي بنوعية حياته الاجتماعية والاقتصادية والعلمية... كاستنباط طرق ووسائل حديثة ومتطورة في ميدان الفلاحة والصناعة وتيسير تنقل الإنسان والمعرفة... وإحداث وسائل جديدة لطلب العلم والمعرفة...

ما سئل رسول الله (ص) في أمر يهمّ عقيدة المسلمين وشريعتهم في الأسرة والمجتمع والحياة إلا وكانت الإجابة قاطعة من الله عزّ وجلّ: "يَسْتَفْتُونَكَ قُلْ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الكَلاَلَةِ" (النساء الآية 176) "وَيَسْتَفْْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلْ اللهُُ يُفْتِيكُمْ فِيهُنَّ" (النساء 127) "قُلْ لاَ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنَ اللهِ وَلاَ أَعْلَمُ الغَيْبَ ولاَ أقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إَنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى والبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ" (الأنعام 50) "اتّبِعْ ما أُوحِيَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لاَ إلاَهَ إلاَّ هُوَ وأعْرَضْ عَنِ المُشْرِكِينَ" (الأنعام 106)،

فإذا كان الأنبياء عليهم السّلام مأمورون بإتباع الوحي وعدم أعمال العقل في أي مسالة تخصّ حياة المؤمنين لأنّ كتاب الله قد فصل القول في كلّ صغيرة وكبيرة.. فإنّ ألأوْلى بالمؤمنين عدم الاجتهاد في

أي مسالة تخصّ حياة المؤمنين الاجتماعية والاقتصادية والسياسية مادام كتاب الله قد فصل فيها القول تفصيلا...

لقد كان لهذه الفكرة الخاطئة "الاجتهاد في الدين" دور أساسي في ظهور الفرق والطوائف الدينية عبر مختلف أحقاب التاريخ الإسلامي... وقد ساهمت هذه الفكرة في تمزيق وحدة الأمة الإسلامية وتشرذمها إلى ملل ونحل متقاتلة.. متعادية مما حول "أمة الإسلام" إلى لقمة سائغة بيد "المغول والمستكبرين في الأرض" قديما وحديثا.

إن الأمة التي يدعو إليها الدكتور محمد عمارة أمة قد تبرأ منها الرسول الكريم وكل الأنبياء من قبله :"إِنَ الذِينَ فَرّقوُا دِينَهُم وَكَانُوا شِيعًا لَسْتُ مِنْهُمْ فِي شَيءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إلَى اللهِ ثُّمَ يُنْبِؤُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ"(الأنبياء الآية 159)

أخرجت معصية واحدة أبانا أدام من الجنة، فما بالك بمن يقدمون للناس مفاهيم مغايرة تماما لما قد فصّله الله في كتابه العزيز في آيات بيّنات لا يخطئ إدراكها وفهم معانيها من خلص عمله لله رب العالمين : إن مخالفة المعاني الواردة في كتاب الله قد أنتج "أُمَةٌ ميتة مزقوها إربا إربا باجتهادات ضالة عن هداية الله وأمة مزقوا وحدتها حتى صارت تحارب بعضها بعضا.. أمة حُرُماتها قد انتهكت من قبل أبنائها..أمة انتهكت حرماتها من قبل مفكرين صمّ بكم عمي شرّعوا للعصبيات والقوميات.. خلعوا لباس الإسلام على حُكّام لا يحكمون بما أنزل الله.. شرّعوا للعنف والقتل بدعوى "الجهاد" شرعوا للاصطفاف وراء ظلمة لشعوبهم.. خاضعين تابعين للهيمنة الغربية.. فهل يطمع أي مسلم صادق بأن يكون مفكرا مسلما دون تقصّي مفاهيم القرآن وإتباع مفاهيمه في كل صغيرة وكبيرة خاصة وأن الله قد أخبر المؤمن أنه "مَا فَرَطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيءٍ" و"كُلَ شَيءٍ فََصَلْنَاهُ تَفْصِيلاً"

"وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَلْنَاهُ عَلَى عِلْمِ هُدًى وَرَحْمَةٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُوُنَ" (الأعراف الآية 52).

المؤلف:

محمد بن سالم بن عمر مولود في 15 أكتوبر 1969

أصيل سيدي بوعلي ولاية سوسة متزوج و له بنت

خريج المعهد العالي للتنشيط الثقافي

له مساهمات عديدة في النقد و الإبداع و المقال الفكري\ الحضاري

صدر له كتاب اللسان العربي و تحديات التخلف الحضاري في الوطن العربي الإسلامي عام 1995

...................................

إن مجابهة هذه التحديات و غيرها تبدأ بتجديد الثقافة الإسلامية الصحيحة المبنية على الثوابت الالاهية الحقة انطلاقا من ثوابتنا القيمية و الحضارية و مفاهيمنا الإسلامية المبثوثة في ثنايا الذكر الحكيم, إذ لا يعقل أن نجابه مفاهيم الزيف الحداثي والعولمة بمفاهيم عصور الانحطاط البالية في تاريخنا الإسلامي, و دون أن نطور مفاهيمنا و نصححها و نجعلها تاخذ بالألباب كما أخذت بالباب رجال الجاهلية الأولى لانبنائها على الحق و النور الإلهي.

....

إن أخذ كل هذه الشروط و الاعتبارات لمواجهة كل مشكلاتنا الحياتية و الحضارية من شأنه أن يعيد لنا القدرة علي الفعل و التحفز أكثر على الإنجاز واختراق الأفاق و بلوغ ما وراء العرش تطورا و ازدهارا و تقدما حتى نكون أهلا لقيادة مسيرة البشرية من جديد.

الإسلام وتحديات القرن 21

في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي كانت حركات الاستعمار الكبرى للعالم الإسلامي تركز قواعدها في الهند ومصر والجزائر وتونس و السودان.. كحلقة أخيرة من حلقات تطويق العالم الإسلامي و الانقضاض على ثرواته و نهبها. و كان قد مهد لهدا الاستعمار بغزو حضاري نشيط, ابتدأه و ألهب شرارته الأولى في ديار الإسلام ما يسمون عندنا« بزعماء الإصلاح العرب»! و هكذا تراجعت الرابطة الإسلامية كشكل من أشكال البناء السياسي القائم أمام ضربات الاستعمار الموجعة و قد توج ذ لك بسقوط الخلافة الإسلامية العثمانية عام 1924م على يد كمال أتاتورك.

لقد تمزقت الوحدة الإسلامية خلال القرن العشرين و تنازعت الدول الكبرى ميراث الإسلام و سيطرت على أضخم قواعده ومقدراته و اندفعت الحركة الصهيونية العالمية من خلال مخططات الاستعمار تسيطر على فلسطين و تجعل من احتلال بريطانيا للقدس مقدمة لسيطرتها عليها بعد خمسين عاما.

و لقد قاوم المسلمون في معارك حاسمة في أجزاء مختلفة من العالم الإسلامي في أفغانستان و القرم ومصر و سورية و الجزائر و العراق و باكستان و حققوا بعض الانتصارات و تحررت البلاد الإسلامية من نفوذ الاستعمار العسكري المباشر و انبعثت من قلبه « حركة تنويرية تحررية» بعد طول سبات.

غير أن حركة التنوير و التحرر لم تلبث أن واجهت عقبات كأداء في العقود الأخيرة من القرن الماضي و بداية هدا القرن الجديد, فقد تحالف الاستعمار الغربي و الصهيونية من اجل ضرب حركة التنوير و التحرر و دفعها للانحراف عن ثوابتها الإسلامية و مفاهيمها القرآ نية.. و من ثم فان اخطر التحديات في السنوات الأخيرة تتمثل في الحفاظ على الذاتية الإسلامية و حماية الهوية الثقافية لشعوبنا الإسلامية, و تطوير هياكلها و تحرير العقل المسلم من الجمود الفكري و من الأخطار الفكرية والمفاهيم الثقافية المنحرفة عن هداية الله التي تلقى إليه عن طريق وسائل الإعلام و الاتصال المختلفة و التبشير و الاستشراق و الشعوبية من اجل اذابة الهوية الحضارية لامتنا الإسلامية لدعوى "الحداثة" و" العولمة" و" العلمانية" و"اللائكية"... وهي دعاوى وان اختلفت مسمياتها إلا أنها تتفق على أن يترك المسلمون ثوابت دينهم الإسلامي و مفاهيم قرآنهم المتطابقة مع حقائق الكون والإنسان و الحياة و تغييرها بفلسفات مريضة و تيارات جانحة منحرفة من الفكر و الثقافة و الاعتقاد و نظرة خاطئة لحقيقة الألوهية و القدر حتى يسهل للغرب الاستعماري بعد ذلك السيطرة علينا و نهب ثرواتنا و استغلال شعوبنا و إخضاعها لاطروحاته المعادية لكل مصالحنا...

هذا هو التحدي الكبير الذي يواجهه المسلمون في بداية هذا القرن !؟ فالقضاء على أصالة هذه الأمة و كيانها الفكري و الروحي هو مقدمة لتحقيق مآرب الصهيونية اللقيطة في الاستيلاء على ارض المسلمين و خيراتهم بمساندة الغرب الاستعماري و على رأسه الولايات المتحدة الأمريكية المتصهينة!؟.

إن كل هؤلاء لا يخفون عداءهم لحملة الراية الإسلامية الذين اختاروا طريق الأنبياء و الصالحين في الانتصار للحق و إعلاء كلمة الله والتمكين لشريعته في الأرض... و هذا العداء تتفق عليه مختلف تشكلانهم الثقافية و السياسية و العسكرية...

و خلاصة ما يسعى إليه الغرب الاستعماري بمعية الصهيونية العالمية اللقيطة هو التدجين و الاحتواء. و لعل ابرز التحديات التي واجهت المسلمين لتدجينهم و احتوائهم تتمثل في تحريف مفهوم الإسلام و تشويهه و إخراجه من طابعه المتكامل الجامع بين الدنيا والآخرة – إذ أن حياة المسلم وكل أعماله في الحياة الدنيا هي عبادة و تقرب لله رب العالمين في المنظور الإسلامي - اذا ما اهتدت أعماله و كل سلوكياته بهدي القرآن العظيم - متهمين شريعته بالتخلف والرجعية ! و نادوا بعزله عن الحياة كما فعل اليهود و المسيحيون من قبل و الذين اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا من دون الله يشرعون لهم و يحددون لهم مفاهيم الحياة البعيدة كل البعد عن حقائق الوجود..! و دعوا إلى "اللائكية" و" العلمانية" بديلا عنه!؟ كما استغلوا جهل العامة و الخاصة – من النخب المتغربة - بأهمية الشريعة الإسلامية و المفاهيم الإسلامية في الحفاظ على مكتسبات الأمة المسلمة و حماية النفس البشرية و الكيان الاجتماعي من السقوط و الانهيار و نادوا بالتحلل منها و استبدالها بقوانين الغرب و شريعته - والتي حولت العالم إلى غابة وحوش ضارية يأكل القوي فيه الضعيف!؟- رغم عدم انسجامها مع خصوصيتنا الحضارية وقيمنا الثقافية و مفاهيمنا الإسلامية !؟ ثم امتدت دعوة التغريب فزيفت المفاهيم و حرفت الكلم عن مواضعه و شوهت المبادئ التي أقامت الحضارة الإسلامية و أوصلتها إلى أقاصي الأرض و استمد منها المسلمون القوة على الصمود و القدرة على الفعل و بناء القوة و العزة و الحضارة لردح طويل من الزمن.. و يمكن حوصلة الهجمة الغربية – الصهيونية على الإسلام في النقاط التالية:

* محاربة الإسلام بنظريات زائفة كالتي تزعم أن الدين ليس سوى الانعكاس الواهم في دماغ البشر للقوى الطبيعية التي تسيطر على وجودهم اليومي (نظرية كارل ماركس).. كما شكلت مصنفات ما يسمون بفلاسفة الأنوار في القرن الثامن عشر ميلادي أرضية خصبة لمحاربة الدين عامة و الفكر الإسلامي خاصة, من بعد ما تبنته نخبة هامة من" زعماء الإصلاح" في البلاد الإسلامية, و لم يدرك هؤلاء أنهم كانوا يحفرون مقابر حضارتهم الإسلامية بأيديهم!.

* محاربة القيم و المبادئ الإسلامية و كل القيم النبيلة التي تنسجم مع فطرة الإنسان السوي, بدعوى أنها قيما نسبية و متغيرة, و مرتبطة بالبيئات و العصور و تختلف باختلاف الحضارات!.

* الدعوة إلى هدم الأسرة باعتبارها من مخلفات المجتمعات الإقطاعية و عصور الانحطاط والتشجيع على العلاقات المنحرفة كاللواط و السحاق والإجهاض كحل لبعض المشكلات الأسرية.

* الدعوة إلى قيام العلاقات البشرية على أساس المصالح المادية و العرقية و الاثنية و إثارة العصبيات الطائفية و العرقية..

* محاربة اللغة العربية الفصحى, لغة الإسلام الأولى و لغة القرآن الكريم لإدراكهم الارتباط الوثيق بين اللغة العربية و الدين الإسلامي و مجد ووحدة المسلمين, و قد عملوا جاهدين على ترويج الدعاوى التي تتهم اللغة العربية الفصحى بالعقم و البداوة و القوا عليها مسؤولية التخلف الحضاري للمسلمين و رفعوا شعار « من أراد التقدم و الرقي فلا يتكلم اللغة العربية » زاعمين بعدم استجابة الفصحى للحضارة الحديثة و أنها لا تستوعبها و هي عسيرة على من يتعلمها ؟!

* اعتماد مناهج تربوية بعيدة كل البعد عن المنهج الإسلامي في تربية الإنسان المسلم المثبت من الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا و في الآخرة, المستضيء بنور الله الذي لا يخبو أبدا« قل إن صلاتي و نسكي و محياي و مماتي لله رب العالمين ».

* خلق مفهوم صراع الأجيال حتى يسهل بعد ذلك دفع الشباب إلى الانهيار و التمزق في ظل فراغ نفسي وفكري و ثقافي و عطش روحي.... و قد تخفوا وراء مذاهب و نظريات منحرفة مغرضة اثبت العلماء المحايدون تفاهتها و عدم ارتكازها على حقائق علمية ثابتة و انبناؤها على الظن و التخمين و ليس لها أية صلة بالواقع, بل و قدرتها الفائقة على تخريب عقول الناشئة و صنع الرجال الجوف !

إن مجابهة هذه التحديات و غيرها تبدأ بتجديد الثقافة الإسلامية الصحيحة المبنية على الثوابت الالاهية الحقة انطلاقا من ثوابتنا القيمية و الحضارية و مفاهيمنا الإسلامية المبثوثة في ثنايا الذكر الحكيم, إذ لا يعقل أن نجابه مفاهيم الزيف الحداثي و العولمة بمفاهيم عصور الانحطاط البالية في تاريخنا الإسلامي و دون أن نطور مفاهيمنا و نصححها و نجعلها تاخد بالألباب كما أخذت بالباب رجال الجاهلية الأولى لانبنائها على الحق و النور الإلهي.

سنن إقامة الحضارات

« زمن الانحطاط العربي » مقولة مختصرة لكنها معبرة, تعبر عن المرارة التي أضحى يشعر بها المفكر في البلاد الإسلامية وهو يرى أن الأوضاع الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية... تزداد سوءا وانتكاسا على مر الأيام.

يحدث كل هذا بعد أن شهد ت البلاد الإسلامية جمعا من المصلحين والمفكرين الذين تخصصوا في شتى المجالات (1)

إن هذا الوضع الذي آلت إليه حالنا يحتم علينا أن نطرح السؤال التالي: ماهي الأسباب الكامنة وراء فشل البرامج الإصلاحية التي أخذت تظهر منذ مطلع القرن التاسع عشر الميلادي! ؟

أسباب الفشل:

إن المتتبع لمؤلفات رواد النهضة في بلادنا الإسلامية يلاحظ أن الانبهار بما حققته الحضارة الغربية كان عظيما في نفوسهم و الانشداد إلى النمط الغربي في الحياة واضحا و جليا ( 2 ) و هذا الانبهار بمنجزات الغرب جعلهم يتخذونه قدوة ومثالا, فكان النمط الغربي النهضوي حاضرا لدى جل هؤلاء الرواد( 3 ) لذلك جاءت برامجهم الإصلاحية و تنظيراتهم تنقصها الدراسة العلمية المتأنية التي تراعى فيها الملابسات و الظروف التي أدت بأمتهم الإسلامية إلى حالة من التخلف و الانحطاط الحضاري.

و لا عجب بعد دلك أن نجد منهم من يدعو إلى « أن نسير سيرة الاروبيين و نسلك طريقهم لنكون لهم أندادا و لنكون لهم شركاء في الحضارة خيرها و شرها وحلوها و مرها وما يحب منها وما يكره و ما يحمد منها و ما يعاب » (4)

إن الصفة المشتركة التي جمعت زعماء الإصلاح هي« افتقار الشعور بالعزة بهويتهم الحضارية الإسلامية, و الانبهار الكلي بالغرب » وهذالانبهار قد أعشى أبصارهم أن ترى الدرب القويم و النهج السليم لنهضة أمتهم الإسلامية و بناء حضارة إسلامية جديدة تليق بخير امة أخرجت للناس وقد كلفها ربها بان تكون شاهدة على الناس إن هي استمسكت بالنور الذي انزله الله عليها – القرآن - و التاريخ« يعلمنا انه ما من مدنية تستطيع أن تزدهرأو تظل على قيد الحياة اذا هي خسرت إعجابها بنفسها و صلتها بماضيها » (5 ).

نظرة تاريخية

الإسلام و مرحلة الفكرة والمفاهيم الجديدة:

جاء الإسلام معلنا منذ بداية نزول الوحي على الرسول محمد صلى الله عليه و سلم عن بداية ظهور نظرة مغايرة لما هو سائد بين البشر و مفاهيم جديدة للكون و الإنسان و الحياة, تختلف جذريا عما تعلمه الإنسان من مصادر بشرية و معلنا بوضوح مخالفته لسائر التصورات( البشرية المساوية للجاهلية في المنظور القرآني ): ثقافتها و معتقداتها أخلاقها و معاملاتها, نظمها و تشريعاتها اقرأ و ربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم » (سورة العلق الآيات 3 و 4 و5).. ليبرز بعد عملية الهدم مباشرة شخصيته المستقلة بكل أبعادها العقائدية و ا لتشريعية و مختلف تصوراتها و طموحاتها على أنقاض الجاهلية ={ كل مفاهيم الإنسان عن الكون و الإنسان و الحياة التي تخالف المفاهيم الالاهية ) والتي أعلن الحرب عليها منذ الوهلة الأولى:« كلا لا تطعه و اسجد واقترب » ( سورة العلق وهي أول ما نزل من القرآن الآية 19).

إن مراجعة بسيطة للنهج الذي اتبعه الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون في إحداث التغييرات الجذرية التي هزت جزيرة العرب يلاحظ ما يلي:

- بداية نزول الوحي على الرسول صلى الله عليه و سلم في غار حراء و قد حمله ربه مسؤولية التبليغ و إيصال ما سيوحى إليه من قيم و مبادئ ومفاهيم جديدة عن الكون و الإنسان و الحياة إلى الناس كافة بدءا بالعشيرة الاقربين.

- الجهر بالدعوة الإسلامية و تحمل الاذى و الصبر على تعنت الكفار و إجرامهم في حق أتباعه من المؤمنين برسالته.

- نزول ما سمي ( بالقرآن المكي ويعد 86 سورة ) وهو في جملته آيات قصيرة تعالج قضايا توحيد الله و تحارب الشرك بالله بمختلف تشكلانه و تشير إلى مواطن الفساد في الحياة الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية و ترد على بعض شبهات أهل الكتاب و مزاعم أهل مكة و تندد بتصرفاتهم المنحرفة و تصحح مفاهيم البشر عن الألوهية الحقة و الربوبية الصحيحة و التي لا تجوز الا لخالق الكون و الإنسان و الحياة العليم الخبير الذي يعلم غيب السماوات و الأرض... فالقرآن المكي كان يدعو إلى – فكرة جديدة و مفاهيم مغايرة لمفاهيم البشر– لتحل محل الفكر و المفاهيم و المعتقدات الجاهلية في ذهن المتقبل حتى تؤثر في فكره و وجدانه تمهيدا للانتقال به إلى مرحلة أخرى قادمة.

- كان الرسول صلى الله عليه و سلم يدعو أصحابه الذين امنوا بدعوته بالصبر على الاذى و التنكيل الذي كانوا يتعرضون له على يد كفار قريش و عدم الرد بالعنف على الاضطهاد الذي كان يسلط عليهم – رغم استعداد بعض الصحابة للقيام بذلك... و لما اشتد الاضطهاد على بعض الصحابة نصحهم عليه الصلاة و السلام بالهجرة إلى الحبشة لان بها ملكا لا يظلم الناس عنده أبدا.. وقد استمر الرسول و أصحابه في الاستمساك بالمفاهيم الالاهية الجديدة و الالتزام بالدعوة إلى الله بالحكمة و الموعظة الحسنة و مجادلة الكفار و المشركين و كل المناوئين بالتي هي أحسن. ولم يسجل لنا القرآن أو المؤرخون أن أحدا من الصحابة قد كون عصابة للرد على اضطهاد قريش أو تحرير البيت الحرام من أيدي كفار مكة و مشركيها.. بل كان سلاح المؤمنين الوحيد: الدعوة إلى الإسلام الحق و الجهاد بآيات القرآن الكريم والتي تحمل المفاهيم الجديدة و إبلاغها إلى مسامع المشركين و الصبر على ا ذاهم امتثالا لأوامر الله في القرآن المكي- سور القرآن التي أوحى الله بها إلى الرسول صلى الله عليه و سلم بمكة -.

- ثم جاءت حادثة الإسراء بالرسول محمد صلى الله عليه و سلم لتتوج المرحلة المكية *مرحلة الفكرة و المفاهيم الجديدة*, و أهم ما يمكن استخلاصه من حادثة الإسراء هو بداية تلقي المسلمين لبعض التشريعات و العبادات كالصلاة

و هي تشريعات عملية تستوجب توفر الأمن للقيام بها وهو ما يعني حدوث نقلة نوعية كبيرة, لان المرحلة المكية التي سبقت حادثة الإسراء تميزت بتركيز القرآن على المعتقدات الإسلامية و المبادئ الذهنية و المفاهيم الجديدة عن الكون

و الإنسان و الحياة الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية و القيم الأخلاقية و محاربة التمظهرات المتنوعة للكفر و الشرك و التشهير بانحرافات زعامات قريش العقائدية والاقتصادية و الاجتماعية و غيرها.. وهذايعني أن حادثة الإسراء كانت بمثابة التمهيد للإعلان عن انتقال المسلمين من مرحلة «الفكرة» إلى مرحلة « الدولة».

الإسلام و مرحلة الدولة:

بعد حادثة الإسراء أمر الرسول صلى الله عليه و سلم بالهجرة إلى المدينة, و قد مهد عليه الصلاة و السلام لهجرته و هجرة أصحابه عندما التقى بالأنصار – الاوس و الخزرج- و اخذ منهم عهدا بحمايته و حماية أصحابه و نصرة الدين الذي بعثه الله به إلى الناس كافة و كان قد سبقه بعض صحابته إلى المدينة لتوضيح الغامض من دعوته..

- في المدينة أصبح للمسلمين ارض آمنة وقد امن جل أهلها بالرسالة الإسلامية و ثروات متعددة و قوة مادية استطاع الرسول صلى الله عليه و سلم بما اوتيه من حكمة الاهية و بصيرة قرآنية من أن ينشئ منهم مجتمعا مسلما يعتنق العقيدة الإسلامية و يحتكم إلى الشريعة الإسلامية في علاقات إفراده بعضهم ببعض و تنتظم علاقاته وفق التصور الإسلامي والمفاهيم الإسلامية في الأسرة و المجتمع و علاقاته الداخلية و الخارجية... ثم كون الرسول\القائد جيشا قوامه مؤمنون باعوا أنفسهم و أموالهم لله رب العالمين مقابل الفوز بجنة عرضها السماوات و الأرض..« إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم و أموالهم بان لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون و يقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل و القرآن و من أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم »(-سورة التوبة الآية 111)... إن تكوين الجيش الإسلامي جاء بعد تكوين الدولة الإسلامية لحمايتها من الأعداء المتربصين.

- و لم يمر زمن طويل حتى اذن للذين أوذوا في سبيل الله بالقتال و استعمال السلاح لاسترجاع حقوقهم المنتهبة من الكفار و المشركين و صد عدوانهم و مكرهم بالمسلمين..

- في مرحلة تالية بدا المسلمون- بقيادة رسولهم عليه الصلاة و السلام - يفكرون في نشر الدعوة الإسلامية خارج حدود دولتهم الفتية, و بدا الرسول\القائد السياسي و العسكري في بعث السرايا و الجيوش إلى مختلف الأصقاع لفتحها و نشر الإسلام فيها حتى تعم رحمة الإسلام الناس كافة.. استجابة لنداء "القرآن المدني".

إن هذا التسلسل الذي اتبعه الرسول\القدوة صلى الله عليه و سلم و أصحابه في نشر الدعوة الإسلامية و من ثم بناء الحضارة رغم وضوحه في السيرة النبوية ( 6 ) قد تغاضى عنه المسلمون في العصر الحديث فغابت عنهم الأولويات مما أوقعهم في المحظورات و أبعدهم عن هداية الله.

الرأسمالية الغربية

لقد مثلت الحداثة الغربية – قطيعة تامة بين عهود الظلام السابقة و بين ما سمي بفلسفة الأنوار التي نادت بتحرير الإنسان من سلطة الكنيسة و جبروتها و حرضته على امتلاك زمام أموره و كسر القيود الذي فرضته عليه عهود من الجهل و الانحطاط, فلقد استفاق الاروبيون فوجدوا ركاما ضخما من التجارب و المعارف التي خلفتها حضارات عديدة بما فيها الحضارة الإسلامية, فأغراهم ذلك بالتمعن فيها بحثا عن السبيل الموصل إلى البناء الحضاري و التقدم و التحرر من جهالات رجال الدين عندهم. وما انفك هذا الشعور يتنامى في اروبا منذ القرنين الحادي عشر الميلادي و الثاني عشر خصوصا في فرنسا وايطاليا...

وانتبه الغربيون بعد هيمنة طويلة فرضتها الكنيسة الكاثوليكية و اثر تزايد قهر الأباطرة, و صار بعض المفكرين يتحسسون طريق الخلاص من تبعات عصور الانحطاط. و كان لتظخم ممارسات الكنيسة الكاثوليكية ولاستفحال السياسة القهرية التي ينتهجها الأباطرة دور كبير في تصعيد الاستياء و تنمية رصيد الشعور الرافض بعد يقين عمقته الملاحظة بان ممارسات الاكليروس و مقررات البابا فاقدة

للمصداقية لأنها تتضارب مع حقائق الوجود و تطلعات الإنسان نحو الانعتاق... فهي تفرض وصايتها عليه!؟ و كان للجامعات أللاهوتية التي وقع بعثها في بعض أقطار اروبا كالسربون مساهمات في المجال المعرفي و تأثيرات حتى في الكنيسة ذاتها( 10 ).

إن فقدان الشرعيات الدينية مصداقيتها ليس فقط بالنسبة إلى بعض المثقفين... و لكن في الشرائح العريضة للمجتمعات الغربية بأسرها هو الذي ولد مفهوم العلمانية الداعي إلى تخليص قطاعات المجتمع والثقافة من سيطرة المؤسسات الدينية و نواميسها.. و قد سعى مفكرو عصر الأنوار( 11 ) إلى تنوير الشعب و تحريره من ظلم الكنيسة و جبروتها, فرفعوا في وجه الكنيسة التي كانت تبيع صكوك الغفران – "اللائكية", و في وجه رجال الدين و استغلالهم للشعب باسم الرب, رفعوا" الحرية و الإخوة و المساواة"..

إن إزاحة الغربيين لتأثيرات الكنيسة عن مجرى حياتهم نظرا لما أصبحت تمثله من عقبات كأداء أوجد لديهم الحافز القوي على البحث و التنقيب و استنباط النظم السياسية و الاقتصادية و النظريات العلمية والمعرفية و غيرها بمعزل عن تأثيرات قرون من التخلف و الجهل.. و الذي ساهمت فيه بقسط وافر قناعات رجال الدين المسيحي الضالة عن وحي الله و كلماته في التوراة و الإنجيل و القرآن..

الماركسية

عاش ماركس( 1818- 1883) ضمن المجتمع البرجوازي, و عاين عن قرب أوضاع العمال المتردية, ذ لك أن العامل رغم قيامه بالعمل و الإنتاج إلا انه لا يتمتع بثمار سواعده, حيث أصبحت الطبقة البرجوازية الرأسمالية هي المالكة" بل المغتصبة لما ينبغي أن يكون ملكا للعمال من وسائل الإنتاج "... يقول ماركس في معرض تحليله للأوضاع المتردية التي أفرزتها الطبقة البرجوازية:« إن البرجوازية لم تكتف بصناعة الأسلحة التي سوف تؤدي إلى فنائها بل أنجبت الرجال الذين سوف يستعملون هذه الأسلحة – اعني بهم عمال العصر الحديث - الذين يؤلفون البروليتاريا و كلما ازدادت قوة البرجوازية أي راس المال ازداد نمو البروليتاريا, تلك الطبقة التي تضم العمال الذين لا تتوفر لهم أسباب العيش إلا اذا وجدوا عملا, و لا يحصلون عليه إلا اذا كان هذا العمل منميا لراس المال. فهؤلاء العمال الذين يضطرون إلى عرض أنفسهم للبيع يوميا هم معرضون نتيجة لذلك إلى كل تقلبات المنافسة التي تعتري السوق... لقد صار العامل فقيرا و تفاقم الفقر بسرعة تفوق سرعة نمو السكان و تراكم الثروات... فمن البين إذن أن البرجوازية لم يعد في امكانها القيام لمدة طويلة بدور الطبقة المسيرة (7 ) تكشف لنا هذه الوثيقة عن وعي ماركس بالظلم والحيف الاجتماعي الذي يعاني منه العمال في مجتمع تسوده الأنانية و الاستغلال و سلوك كل السبل للإثراء و لو على حساب فقر الملايين من العمال.لا تهمنا هنا تحليلات ماركس و تنبؤاته الخاطئة فذاك أمر آخر! ما يهمنا هوالموقف الفكري و السلوك الحضاري الذي انتهجه تجاه واقع معين... تبنى ماركس اذن هموم العمال و مشاكلهم, وسعى إلى إنشاء منظومة فكرية تمثلت في نظريته – المادية التاريخية – ذلك أنها تقوم على مبدأين أساسيين: هما المادية المنطقية و المادية التاريخية. ذلك أنها تنظر إلى المادة على أنها أساس كل أمر في الحياة, و أن البشرية مسيرة في مختلف أطوارها بتأثير المادة فقط (8) يقول ماركس موضحا ذلك: « إن الأفكار لا يبتدعها دماغ الإنسان... و هذا الدماغ ليس إلا مادة دقيقة التركيب وهو جزء من الجسم يعكس مؤثرات العالم الخارجي »(9).

شن ماركس و أتباعه حملة منظمة ضد النظام الرأسمالي و كل مبادئه و قيمه طارحين بدائل أخرى و قيما جديدة, و مبشرين بإيجاد جنة أرضية يحكمها الكادحون و العمال والفقراء – ففي جريدة البرافدا ركز لينين حملاته تحت شعار: « كل السلطة للسفيات * الأرض للفلاحين... الخبز للجائعين...

و في أكتوبر سنة 1917 قامت الثورة البلشفية, الثورة التي أنبنى على أساسها ما كان يسمى بالاتحاد السوفيتي..

بعد هذا الاستعراض السريع لثلاث حضارات مختلفات.. نعود لنطرح على أنفسنا السؤال التالي: ماهي السنن و القوانين التي تتحكم في إقامة الحضارات الإنسانية ؟

بناء الحضارة:

إن استقراءنا للحضارة الإسلامية و الحضارة الغربية بشقيها الرأسمالي و الماركسي يمكننا من بلورة السنن و القوانين التي تتحكم في إقامة الحضارات في النقاط التالية:

1- فكرة إنسانية سامية:

وهذه الفكرة يمكن أن تكون دينا سماويا أو بشريا أو منظومة اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية... تحمل في طياتها صفة العالمية و استطاع مفكرو الشعب أن يقنعوه بان فكرته التي يتبناها هي أسمى فكرة على الإطلاق وأن هذه الفكرة لا تحمل سعادته هو فقط بل مرشحة لإنقاذ البشرية كافة, و تستحق هذه الفكرة أن يضحي الشعب من اجلها و يغامر حتى تتجسد على ارض الواقع, ثم نقلها إلى بقية شعوب العالم لتستفيد منها و تخرجها – من الظلمات إلى النور- و من الاستغلال إلى التمتع بخيرات الحياة و طيباتها... و من الجور و الظلم إلى العدل و المساواة... و من ظلمات القرون الخالية إلى نور الحياة و رفاهيتها.إن أي برنامج إصلاحي أو منظومة فكرية عاجزة عن تحقيق النهضة المنشودة في الشعوب إن لم تكن تحمل في طياتها هذه السمة, و عجزت عن إقناع الشعب الذي يتبناها بسموها و تفوقها على كل الأفكارو المنظومات الأخرى.

2 - تقزيم الخصم و الحط من فكره و قيمه( 12)

و هذا القانون هو مواصلة للقانون الأول في شروط إقامة الحضارات: إن تقزيم الخصم و الحط من قيمة منظومته الفكرية عملية تأتي مواصلة للعملية الأولى

و هدفها الوصول بالشعب المراد إنهاضه إلى مرحلة الشعور بالعزة و هذا الشعور يأتي كنتيجة حتمية لاعتقاد هذا الشعب بسمو فكرته و معتقداته و منظومة القيم التي تحكمه و التي تفوق في سموها جميع القيم و المعتقدات و المفاهيم الأخرى, بل قد لا يعطي هذه المفاهيم أهمية البتة ما دام يملك ما هو أسمى.. و هذا يرتبط ارتباطا وثيقا بمدى تماسك أفكاره و صدقها و تطابقها مع الواقع و قدرتها على الإقناع ومدى اعتقاده فيها و حنكة مفكريه و قدرتهم على تشويه الخصم و أفكاره و معتقداته..

نخلص إلى القول بأنه متى توفرت لدى أي شعب من شعوب الدنيا منظومة فكرية تحتوي على فكرة سامية و اقتنع هذا الشعب بأنها أعظم فكرة على الإطلاق في تلك الفترة من الزمن و اقتنع بوجوب نشرها و التضحية في سبيل إيصالها إلى الشعوب الأخرى... عندها يبدأ ذلك الشعب بصفة تلقائية يسير رويدا رويدا نحو النهضة و من ثم تكوين حضارة متفوقة على ما عداها من الحضارات القائمة... و السبب في ذلك يعود إلى أن إدراك هدا الشعب لسمو فكرته و عالميتها يدفعه إلى البحث و التنقيب في كل المجالات الحياتية و العلمية لإثبات سمو فكرته عمليا للآخرين كي يعتنقوا مثله القيم التي يؤمن بها من جهة, و إقناع خصومه بتفاهتهم و محاولة " تقزيمهم" أمام عظمة فكرته و تكاملها و قدرتها على إسعاد الناس جميعا. كما تدفعه إمكانية مواجهة الخصم ماديا إلى الاعتناء بالمجال الاقتصادي و الصناعي و تكوين جيش قوي لمجابهة كل التحديات الممكنة و التي يمكن إن تهدد فكرته..

و هكذا تبدأ حضارة هذا الشعب صاحب الفكرة و المفاهيم السامية الجديدة في صعود, أما أصحاب الحضارات الأخرى, إن كانت هناك حضارة قائمة فإما أن ينظموا إلى أصحاب الحضارة الصاعدة و يعتنقوا فكرتها السامية و يساندوها و يدعموها بمعارفهم و بالتالي تصبح إنجازاتهم تنتمي إلى الحضارة الجديدة. و إما أن يتزعزع اعتقادهم في فكرتهم التي بنوا عليها حضارتهم, فيفتقدون بذلك الحماس القادر على تمكينهم من مواصلة الإبداع و بناء الحضارة, عند ذلك تبدأ حضارتهم في أفول مستمر... و تضعف قوتهم المادية و المعنوية شيئا فشيئا أمام القوة الصاعدة و الحضارة الجديدة. . كما يصبح الشعب صاحب الحضارة الآفلة مقلدا لظواهر و سلوكيات صاحب الحضارة الصاعدة, اعتقادا منه أن هذا التقليد قد يعيد فيه الحيوية من جديد – لكنه يبقى كالذي يريد أن ينجو من الغرق و ما هو بناج, لأنه كلما اغرق في التقليد ابتعد أكثر عن إمكانية الشعور بالعزة, فتتبعثر أموره و تتذبذب حاله و يصبح كالكلب إن تحمل عليه يلهث و إن لم تحمل عليه يلهث..

الخاتمة

ظل " المفكرون و زعماء الإصلاح " في البلاد الإسلامية يعتقدون طويلا بان الأنظمة و التشريعات السياسية والاجتماعية هي التي ستنهض أمتهم من كبوتهم, فاقتبسوا أنظمة الغرب و تشريعاته, لكن دون جدوى... و ما دروا انه على الرغم من تنوع الأنظمة و التشريعات قامت الحضارات العديدة في التاريخ الإنساني .

إن القوانين و التشريعات ما هي إلا شكل من أشكال التنظيم في المجتمعات البشرية و تنبع عادة من حاجيات هذه المجتمعات و طموحاتها و تنبثق عن منظوماتها القيمية و الفكرية ومفاهيمها عن الكون و الإنسان و الحياة .. و ليس هناك أي سند تاريخي أو واقعي يدل على أن الحضارة تبنى نتيجة لهذه القوانين و النظم و التشريعات و إنما هو التباس الأوضاع و ضبابية الرؤيا.

-----------------------------

المراجع

1* ( أمين) احمد: زعماء الإصلاح في العصر الحديث بيروت – دار الكتاب العربي 1979.

- ( شرابي) هشام: المثقفون العرب و الغرب بيروت – دار النهار 1973.

2* انظر كتاب الرحالون العرب و حضارة الغرب في النهضة العربية الحديثة د نازك سابايارد الطبعة الأولى 1979.

3 *نفس المرجع

4 *مستقبل الثقافة بمصر د طه حسين .

5 *الإسلام في مفترق الطرق تعريب عمر فروج .

6*راجع مثلا: دراسة في السيرة للدكتور عماد الدين خليل, مؤسسة الرسالة, الطبعة الخامسة 1981.

7* كارل ماركس" بيان الحزب الشيوعي"

8*(يكن) فتحي:كيف ندعو إلى الإسلام ص55

9*خفاجي المحامي (عبد الحليم ) حوار مع الشيوعيين في أقبية السجون ص55

10*المرجع. العلمانية و انتشارها غربا و شرقا ,فتحي ألقاسمي – سلسلة موافقات –الدار التونسية للنشر – فيفري 1994)

11*فولغين( ف) فلسفة الأنوار- بيروت – دار الطليعة ط1981

12*يقول الله عز وجل : « الله ولي الذين امنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور و الذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون » - ( سورة البقرة الاية257 )

* و يقول فولتير احد زعماء التنوير الاروبي: إن محمدا ولد أميرا و استدعي لتسلم مقاليد الأمور عن طريق الناس له ... ولو انه وضع قوانين سليمة و دافع عن بلاده, لكان من الممكن احترامه و تبجيله و لكن عندما يقوم راعي ابل بثورة ويزعم انه كلم جبريل و انه تلقى هذا الكتاب غير المفهوم الذي تطالع في كل صفحة منه خرقا للتفكير المتزن حيث يقتل الرجال و يخطف النساء لحملهم على الإيمان بهذا الكتاب, مثل هذا السلوك لا يمكن أن يدافع عنه إنسان لم تكن الخرافات قد خنقت فيه نور الطبيعة. *و يقول ماركس:« إن كل دين ليس سوى الانعكاس الواهم في دماغ البشر للقوى الطبيعية التي تسيطر على وجودهم اليومي»

Portable :(00 216)23038163

الإعلام العربي

وتكريس واقع التخلف

أرجو أن تتفضلوا بنشر هذا التعقيب على ما ورد في كلمة الأخ علي عبد الأمير في ركن بريد "القدس العربي" يوم الجمعة 15 أيلول (سبتمبر) 1997 العدد 2590 تحت عنوان "لا يشك بولائه للقائد" طمعا في مزيد إثراء الحوار حول الإعلام نظرا لما يحتله هذا القطاع العام في حياتنا المعاصرة.

لشدّ ما تقلقني تلك التحاليل التي ترجع كل مآسينا الحضارية كالقهر والتسلط وهيمنة الخطاب الواحد على وسائل إعلامنا العربية إلى عنصر واحد أو فرد واحد ألا وهو القائد أو الزعيم.

وسبب قلقي ان مثل هذه التحاليل من شأنها أن تغطي على مواطن الخلل في مجتمعنا ولا تعالجها بكيفية ناجعة، لآن شرط العلاج الصحيح هو التشخيص السليم والشامل لأسباب الخلل، إذ لا يعقل مثلا الزعم بأن التخلف الذي يهيمن على وسائل الاتصال عندنا مرده الولاء لقائد سياسي أو لنظام حُكم معين، فالقائد السياسي لا يزيد عن كونه يمثل رمزا لقوى اقتصادية واجتماعية وسياسية تختفي وراءه هذه القوى حتى لا يطالها النقد والتجريح. لذلك فهي في سعي دائب لتكريس واقع التخلف باحتكارها لوسائل الاتصال الجماهيرية، حتى لا توظف هذه الوسائل في توعية أفراد الأمة بحقوقهم في الانتفاع بثروات الوطن، ومشاركة هذه الشرذمة في الثروات والخيرات التي اغتصبوها ظلما وعدوانا من عرق جبين الأمة. وخير وسيلة تتبعها هذه الشرذمة تتمثل في صناعة "صنم بشري" تضعه في الواجهة لتحقيق مآربها. وتحيك حوله الأساطير وتنشط في تزييف الحقائق لإقناع الناس بضرورة الصبر لأن القائد الأوحد/ الصنم بصدد حل جميع مشكلاتهم، وهكذا يخلقون الأمل الزائف تلو الأمل ليبقى الناس يتضورون جوعا وفقرا وبطالة وقهرا ومرضا صابرين وهم في شوق ليوم قادم لن يأتي أبدا.

إن هذه القوى المحتكرة لثروات الأمة لا يمكنها أن تعيش إلا في ظل واقع مريض يوفر لها أسباب الاستمرار في احتكار الثروة والمسؤولية. والشرط الأساسي لاستمرار هذا المرض يتمثل في احتكار وسائل الاتصال الجماهيرية لأن انفلات هذه الوسائل من أيدي هؤلاء المحتكرين يعني بروز رجال صادقين ينصحون الأمة ويكشفون الزيف والنفاق ويحاربون الظلم والاحتكار وهذا من شأنه أن يفقد هؤلاء هيبتهم المصطنعة وثروتهم التي بنوها على جماجم الفقراء والمضطهدين.

محمد بن سالم بن عمر

12، شارع الجمهورية، سيدي بوعلي 4040

الحمد لله

MMohamedsalembenamor21@yahoo.fr

Portable :(00 216)23038163

اللغة أولئك أعزّوها...

وهؤلاء أذلّوها

تعتبر اللغة من أهمّ مقوّمات الشعوب. فهي ترجمان فكرها وعواطفها ومختلف مظاهر الحضارة والتمدّن فيها ولقد أدركت الأمم هذه الأهمية للغة، قديما وحديثا، فلم تتوان أيّ منها عن دراسة لغتها، والاهتمام بها، والحرص على نشرها وتعليمها للآخرين وتحبيبها إليهم.

ولقد بحث الإغريق في طبيعة اللغة ونشأتها، وتضافرت جهودهم في سبيل وضع قواعد للغتهم ابتداء من القرن الثاني قبل الميلاد. وشارك الفلاسفة اللغويين فكانت أبحاث أفلاطون في أصل الكلمة، ومشكلة المعنى كما درس العلاقة بين الأشياء والكلمات.

وتابعهم في ذلك الرومان، فدرسوا اللاتينية ولما كان الإغريق قد اقتصروا على دراسة لغتهم فقط، فقد فعل الرّومان مثلهم فلم يدرسوا قواعد أيّة لغة غير لاتينية، كأنّهم أرادوا أن تصبح هذه القواعد قوانين عامة تصلح لجميع اللغات، وهي نظرة سادت في أوروبا. وظلت آثارها إلى سنوات قليلة مضت قائمة إذ حاول اللغويّون هناك تطبيق قواعد اللغتين اليونانية واللاتينية على اللغات التي انحدرت منها غاضين النظر عن مسافة الخلف بين هذه اللغات الحديثة وتينك اللغتين الميتتين.

ولقد انصبّ اهتمام الإغريق والرومان على وضع قواعد لما يمكن أن يقابل اللغة الفصحى أو الأنموذجية، وهي لغة لم تكن متحدثة آنذاك وانشغلوا بوضع قواعد وضوابط ومعايير محدّدة لهذه اللغة سميت بالقواعد المعيارية وهي لا تتغير بمرور الزمن.

أما في الهند فقد كان للكتاب الذي ألفه "بانيني" في القرن الرّابع الميلادي، الأثر البارز في توضيح قواعد اللغة السنسكريتية مبيّنا فيه وواصفا النظام الصوتي والصرفي والنحوي لتلك اللغة وصفا دقيقا.

ولا تزال الأمم والشعوب في العصر الحديث تولي أهمية بالغة للحفاظ على لغاتها وتطويرها ونشرها، من ذلك إقدام الدولة الفرنسية على التدخّل في الواقع اللغوي عبر قوانين أصدرتها في سنوات 1490، 1510، 1539م وهذا الأخير هو الأشهر والمعروف بقانون "فيلي كوتري"، وقد سعت هذه القوانين إلى أبعاد اللاتينية والإسبانية والإيطالية من الساحة الفرنسية.

كما أبعدت لغات فرنسا ولهجاتها الأصلية التي تعدّ بالعشرات ومن بينها "اللغة الباسكية" و"اللغة الكاتالانية" و"اللغة البروطانية" إلى جانب ما يعتبره "كلود هاجيج" في كتابه "الفرنسيّة والقرون" بلهجات فرنسا: كاللهجة الفلامانيكية المنتمية إلى اللغة الهولندية واللهجة الألزاسية المنتمية إلى اللغة الألمانية واللهجة الكورسيكية المنتمية إلى اللغة الإيطالية.

وقد قامت فرنسا بواسطة قانون (توبون) سنة 1994 بمنع استعمال اللغات الأجنبية خصوصا الأنجليزية في كل شيء بما في ذلك الإشهار. ووصل هذا القانون قمته عندما أراد (توبون) وزير الفرنكفونية إزالة كلمات انجليزية مترسخة في القاموس اللغوي منذ قرون.

وفي العصر الحديث أدركت المجتمعات الراقية أهمية اللغة في حياتها وحياة الشعوب التي تريد غزوها وبسط الهيمنة عليها فأخذت تنفق ملايين الدولارات من اجل تصنيع الثقافة بلغتها وتصنيعها وتصديرها إلى جميع أصقاع العالم تصرف بها وجوه الناس إليها وتغزوهم في عقر دارهم عن طريق القنوات المرئية والإذاعات المسموعة والمجلات والكتب والصحف وغيرها من وسائل الاتصال... تفرض عليهم -من حيث يشعرون او لا يشعرون- نمط حياتهم وطريقة عيشهم، وأسلوب تفكيرهم، وتقدم لهم الحلول لمختلف المشكلات التي تهم حياتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

وفي خضم هذا الواقع الذي تتصارع فيه الأمم والشعوب من أجل الحفاظ على لغاتها ونشرها وتطويرها ننظر مستبدا بنا الألم إلى المستوى المنحدر الذي آلت إليه اللغة العربية، وقد ساهم كل منّا بقسطه في هذا الانحدار وجنينا جناية بالغة في حق أبناء هذا الجيل والأجيال المقبلة بل في حق اللغة العربية. يقول الأستاذ فاروق جويدة تحت عنوان "قبل أن تصبح اللغة العربية غريبة بيننا" اللغة العربية في محنة هذه حقيقة نكاد ندركها ونلمسها جميعا ولكننا للأسف الشديد نقف أمامها مكتوفي الأيدي كمن يشاهد إبنه يصارع أمواج البحر ولا يحاول إنقاذه، ومحنة اللغة العربية ظاهرة يتصاعد دخانها أمام أعيننا منذ سنوات طويلة حتى وصلت الأحوال بها إلى درجة توشك فيها أن تصبح غريبة بيننا.

الأخبار

26/06/1997

Portable :(00 216)23038163

دور التربية الموسيقية

في تنشئة الطفل

تعتبر الموسيقى من الثمار اليانعة التي تنتجها الحضارات عبر العصور، وهي من الفنون الراقية التي تربّي في الطفل الذوق السّليم وتعلمه السلوك الاجتماعي الهادف وتغرس فيه روح التعاون والتكامل والطاعة وحسن الإنصات، والتجاوب مع توجيهات وإرشادات القائمين على تربيته، لذلك احتلت مكانة بارزة في كل الحضارات تقريبا وأولاها الإسلام مكانة هامة تجلت في تشبيهه للأصوات المنكرة بصوت الحمير وحثه الإنسان على خفض الصوت عند الحديث وتشجيعه علىقراءة القرآن بصوت جميل مؤثر.

وفي عصرنا الحاضر صارت الموسيقى أهداف تربوية لا يمكن تجاهلها، واستحوذ حب الموسيقى على جميع الناس، وبخاصة الأطفال عدا من فقدوا نعمة السمع أو تعرضوا لمؤثرات عصبية أو فزيولوجية أفقدتهم التأثر بجمال الألحان والتوقيع.

ولكي تحقق الموسيقى أهدافها لدى الطفل فلابد من تعليمه الكلام بطريقة سليمة أي توخي الوضوح في استخدام المقاطع اللفظية مع التعوّد على استخدام النبر القوي والنبر الضعيف، ولابد من اختيار الكلمات التي تتفق مع ميول الطفل ومستواه الفكري، ويجب توخي البساطة في اللحن والابتعاد قدر الإمكان عن التعقيد والتحولات الكثيرة الزخارف، وأغنية الطفل يستحسن أن تكون قصيرة خفيفة الإيقاع، سهلة اللحن، جذابة ذات صيغة بنائية محددة قوية الطابع، وتراعي المنطقة الصوتية للطفل.

إن الإيقاع واللحن والغناء كلها استعدادات فطرية مهيأة للتفتح والنضج بالتدريب والممارسة. وتعتبر الأناشيد والأغاني المدرسية الغذاء الروحي اليومي للطفل ويمكن استغلالها لأغراض تربوية وأخرى تعليمية... لذا وجب إعطاء قيمة هامة للاستماع الداخلي أي القدرة على تخيل اللحن المدوّن (مثل القراءة الصامتة في تعلم اللغة) وتكوين الذاكرة الموسيقية تلك العادة الفكرية التي تقوم بترابط الأفكار والتكرار وتركيز الانتباه، لأن الطفل يحفظ عادة اللحن إذا ما تكرر في صورته المتكاملة أسرع مما لو سمعه مجزءا. لذلك لابد من استغلال الموسيقى كوسيلة تجذب الطفل وتحببه في المدرسة واتخاذها هواية مثمرة في أوقات الفراغ، كما انها تمكن المشرفين على التربية من اكتشاف ذوي الاستعدادات والمواهب لاحتضانهم في سن مبكرة والعناية بهم.

Portable :(00 216)23038163

خطاب إلى الهاربين من ديارهم!

الأستاذ رئيس التحرير

تحية طيبة وبعد،

هذا خطاب أردت أن أوجهه إلى إخواني المغتربين من النخبة المثقفة، والتي تملأ كتاباتها الصحف والمجلات التي تصدر هناك وعلى رأسها صحيفة "القدس العربي" الغراء.

ما يمكن ملاحظته بادئ ذي بدء أن هذه النخبة المحترمة تعالج في جلها قضايا نظرية لا تمت بكبير صلة إلى واقع المواطن العربي، ذاك المواطن المسحوق في بلده والذي يعاني من الذل ألوانا، ومن الاضطهاد أصنافا بل يقتل في اليوم الواحد ألف مرّة، فهل يعتقد هؤلاء المغتربون المساكين أنهم بتلك المقالات والكتابات المنددة بالسلطان في ديارهم التي هربوا منها سيحلون مشكلات وطنهم ويخلصونه من الذل والمهانة والتخلف الحضاري والاستبداد الاجتماعي؟! وهل يعتقدون حقا أنهم سيحررون أوطانهم بمقالات نارية متشنجة تتوهم الثورة والتغيير؟! إن هؤلاء يعتبرون نكرة بالنسبة إلى أوطانهم فهل يحسبون الناس يتأثرون بنكرة تفتقد إلى رؤى واضحة في مجمل مشكلات أوطانهم! وهل يعقل أن يقدر على التغيير من عجز عن تغيير نفسه؟! إن البداهة تقول "فاقد الشيء لا يعطيه".

لقد فكر هؤلاء "المغتربون" في مصالحهم الخاصة لما هربوا من أوطانهم وتركوها لقمة سائغة في أياد غير أمينة تتعيش على بيع الأوطان وإذلال الإنسان وسحقه إذ لو صدق هؤلاء المغتربون الهاربون لبقوا في أوطانهم يجاهدون بأموالهم وأنفسهم وفكرهم في سبيل تحرير الإنسان العربي من الذل والعبودية وتقديم القدوة في النضال والصمود ولتعاونوا مع أشراف هذه الأمة من مثقفين وحكام ومسؤولين لرفعة وطنهم وتقدمه وازدهاره. ان هروب هؤلاء يجعلهم عرضة للنقمة والكراهية من قبل أحرار هذه الأمة وكل الفئات المسحوقة والمحرومة في هذا الوطن العزيز، لأنهم فكروا في الخلاص الفردي ولم يفكروا حقيقة في خلاص وطنهم وشعبهم.

ولعل المبكي المضحك في حالة هؤلاء الفارين التجاءهم إلى بلدان غربية كبريطانيا وأمريكا ساهمت ولا تزال تساهم –وهم يعلمون ذلك جيدا- في الإبقاء على الأنظمة التي يزعمون أنهم يحاربونها ويلقون عليها اللوم لتكريسها التخلف والاضطهاد! بل أن بريطانيا هي التي مكنت للصهيونية العالمية من إحتلال فلسطين وتشريد أهلها... وأمريكا نفسها أصبحت متصهينة أكثر من الصهاينة أنفسهم بما تقدمه لهم من دعم لإذلال العرب فاق كل التصورات.. فهل يعقل بعد ذلك أن نصدق هؤلاء الفارين إلى بلاد الغرب أنهم يناضلون ضد الصهيونية وضد التخلف والاستبداد؟!

وختاما أنصح هؤلاء بالرجوع إلى أوطانهم فالموت في الوطن أكرم لهم من التسكع في شوارع الغرب وحاناته!

القدس العربي العدد 2553


24 تموز (يوليو)

1997

مصطلحات مضللة

الأستاذ رئيس التحرير

تحية طيبة وبعد،

درجت جل صحفنا ومجلاتنا الوطنية والقومية على استعمال مصطلحات غريبة، منبتة عن قيمنا الحضارية، تؤذي الذوق العام وتساهم في تكريس مفاهيم يبتهج لسماعها العدو وتثلج صدره وتعينه على تعميق الهوة التي صارت سحيقة بين مفاهيمنا وقيمنا الحضارية وبين ما يظهر من استعمالات اصطلاحية في المراسلات والتحاليل السياسية خاصة. والخطورة تكمن في أن هذه المصطلحات وقع تبنيها من قبل صحف ومجلات جديرة بكل احترام، والتي أصبحت تعكس بحق ما يختلج في صدور أبناء هذه الأمة العظيمة، وسأضرب لذلك أمثلة وقع استعمالها مرات عدّة في صحفيتنا الغرّاء.

- "عملية انتحارية" تعبير تستعمله كل صحفنا تقريبا إثر كل عملية استشهادية يقوم بها أبناء الحركة الإسلامية في فلسطين، واستعمال هذا المفهوم يكشف عن غياب مفهوم الإسلام الذي يحرم الإنتحار وقتل النفس ويعتبره من الكبائر التي تحرم على مرتكبه دخول الجنة، أما الشهادة أو الاستشهاد –وهو ما يقوم به الإسلاميون في فلسطين ولبنان- وهو من أكبر القربات إلى الله لأنه ينفذ ويضحي بالنفس لإعلاء كلمة الله ونصرة الحق وكل القضايا العادلة، ومن استشهد في سبيل الله لإخراج العدو من أرض مغتصبة ونصرة المستضعفين في الأرض من الظلم المسلط عليهم فهو حي لا يموت بفعل حضوره الدّائم في الذاكرة الجماعية وتحفيزه لقوى الأمة على مزيد التضحية والنضال من أجل استرجاع حقوقها المغتصبة.

- "التطرف، الإرهاب، متشددين.." هذه تسميات تطلق على جميع الإسلاميين في العالم مهما اختلفت طرق عملهم وأساليبهم، ولا أعرف هاهو مرجعنا في هذه التسميات؟ هل هي مبادئ الإسلام وقيمه أو مبادئ الغرب وضلالاته! فالله قد خص هذه الأمة الإسلامية لتكون هي الشاهدة على الناس بحكم ما تملكه من قرآن كريم –ما فرط الله فيه من شيء- مما يكسبها القدرة على معرفة الحق من الباطل والغث من السمين والفصل في القضايا الخلافية، فالأمة الإسلامية هي امة وسط. إذا التزمت بتطبيق الإسلام –عادلة لا تبخس أبدا حقوق الآخرين-.

وها نحن ندرك اليوم الظلم والطغيان والقهر المسلط على جميع شعوب الأرض –بما فيها شعوب الغرب- في ظل هيمنة مقاييس الغرب وقيمه.. فهل يعقل بعد ذلك أن نعتمد مقاييس هذا الغرب في إطلاق تسميات غير محايدة بل متفجرة وتحمل طابع مفاهيم الغرب وتصنيفاته الظالمة!

بقي أن ألاحظ شيئا هاما جدا يخص تحليل الخبر وهو ما أسميه "بالمكيافيلية" في التحليل السياسي، كأن نعتبر مثلا إعلان دولة عربية عن عدم حضورها "قمة الدوحة الاقتصادية" أو غيرها عملا قوميا جليلا متناسين حقائق هذه الدولة التاريخية وعمالتها للصهيونية والامبريالية الأمريكية بشكل مؤكد دائم، فكيف نسمح لأنفسنا بإقناع القراء –الذين هم مسؤولية في رقابنا- أن مجرد الإعلان عن عدم الحضور للقمة يمثل حدثا بارزا يحسب لهذه الدولة أو تلك مما يوقعنا في التناقض والتحاليل القاصرة لنفاجأ بعد حين أن هذا الإعلان هو مجرد تكتيك سياسي وليس حقيقة قابلة للتطبيق! إن تاريخ الأفراد والدول له أهمية قصوى في تحديد صدق توجهاتهم المستقبلية. فقراءتنا لتاريخ الصهيونية والأسلوب الذي اتبعته لاغتصاب فلسطين من أهلها يجنبنا الوقوع في أحابيلها وإضاعة الوقت فيما لا فائدة فيه كأن نصدّق إمكانية إرجاعها الحقوق إلى أصحابها دون قتال كبير وجهاد متواصل!! فالمجرم يبقى مجرما حتى وإن لبس زي النساك والمتنسكين.


حياة أنعام!؟

الأستاذ رئيس التحرير

تحية طيبة وبعد،

يمكن بسهولة أن نلاحظ أن جل ما صار ينجز في وطننا العربي يصب في اتجاه واحد، ألا وهو تهيئة الناس في وطني وتشكيلهم ماديا وفكريا لخدمة الإنسان الغربي وضمان رفاهيته ومتعته، فلا الأرض بقيت أرضنا ولا الثروات عادت إلينا منافعها ولا الإنسان تحرر ليكون سيد نفسه دون وصاية، فهم السادة ونحن العبيد فوق أرضنا، ورضاهم عنّا غاية ما نطمح إليه ونطلبه، شواطئنا ننظفها ونتعهدها ليرضى عنا السائح الغربي، خيراتنا ننتقيها ونقطفها لترسل إلى بلاد الغرب، وأماكن اقامته، بناتنا، نساؤنا نعريهن، حتى صرن كاسيات عاريات، مشاغبات لمواكبة تقليعات السيدة الغربية، مشاريعنا ننجزها حتى نكون أهلا لمشاركة السيد الغربي فتات موائده، أينما وليت وجهك لمحت سعيا لإرضاء الغرب أو مشاركته أو اللحاق بركبه الحضاري والعلمي، فقدنا كل شيء ولم نملك أي شيء!

ومنذ خروج المستعمر الغربي من ديارنا عملت بعض القوى الاجتماعية التي خلفته على إذلال المواطن العربي وإخضاعه وتهيئته لتقبل النهب والاستغلال... وقد استطاعت هذه القوى جمع ثروات طائلة بفضل ما نهبته وسرقته من عرق جبين العمال ظلما واعتسافا، ونتيجة لما يلقونه من حماية ظلموا الناس وأذلوهم واغتصبوا حقوقهم وأكلوا أرزاقهم حتى تنكسر شوكة هؤلاء العمال فيكثر أنينهم وتستفحل أسقامهم، فيعجزون عن مقاومة الاستغلال والظلم المسلط عليهم.

لقد توهمنا أن خروج المستعمر الغربي من ديارنا سيمكننا من التحرر وتحقيق سيادتنا، فإذا الواقع يلطمنا بشدة وعنف وينزع عنا هذا الوهم! إي مهزلة صرنا نعيشها في بلادنا العربية؟ الناس صاروا يكرعون من المذلة والهوان أصنافا، لا أحد راض عن حاله، الكل يشكو والكل يتألم في صمت، والكل صار يعيش ليأكل ويلبس، والسعيد السعيد من صار له مرتب شهري يفي له بحاجياته اليومية، وبدون أي حرج أقدم بعض ضعاف النفوس على بيع اعز ما يملكون من عزة وكرامة ليحصلوا على كفايتهم من المأكل والملبس، ولم يعد يهمهم ما ينجزونه في حياتهم في سبيل تقدم وطنهم وازدهاره لأنهم يحسون أن الوطن لم يعد وطنهم ولا الأرض أرضهم، ولا من يحكمونهم من بني جلدتهم بل هم ألدّ أعدائهم وسبب تعاستهم.

إن أول شروط الوعي المطلوب أن يضع الإنسان العربي في حسبانه أن هذه الأرض التي يرويها بعرق جبينه هي ملك له ولكافة أبناء وطنه ولا يحق لأي كان أن يحتكر ثروات هذا الوطن العزيز، فله الحق أن يحصل على نصيب وافر من ثروات بلاده الكثيرة المتنوعة، ولا أقل من أن يحصل على موازنة بين مجهوده في العمل وبين ما يقبضه من مقابل مادي بشرط أن يوفر له ولأسرته حياة كريمة حتى ينعم بخيرات هذا الوطن المعطاء، ويذود عنه ويحمي استقلاله إذا ما تكالب عليه الأعداء، أما أن يعيش عبدا طوال حياته، يتعب ويشقى ثم يعاني من ويلات الحرمان والخصاصة فهذا ما لا يرضاه أحد ولا حتى العبيد، فكيف بسيد على أرضه، وأرض أجداده ومستقبل أبنائه!؟

القدس العربي العدد 2535

3 تموز (يوليو) 1997