حديث البحر(قصة قصيرة)
كان لي صديق، استأثرت به النشوة أياما، ثم مضت حماسته تفتر و نشوته تخبو، بيد انه لم ينكص على عاقبيه و بقي به شئ مما كان ، أقصده كلما ألم بي كرب و اشتد علي حزن ، اطلب السلوى بحكايته التي يرويها و مغامراته التي يتقن صياغتها في كلام مشوق و حديث منمق، حالما رأني قادما إليه اهتز صدره فرحا و قال بصوت ينم عن السرور:
أين أنت يا رجل ! ؟ هل نسيت عشرتنا بهذه السرعة ؟
ثم استدرك قائلا: ‹‹اعلم أن مشاغل الحياة كثيرة ، لعن الله هذه الدنيا التي جعلتنا نجري وراء لقمة العيش ليل نهار دون أن ننال مبتغانا، الحياة صعبت وقل راكبها و فرقت الشمل بين الأصحاب و الخلان .›› وطافت بالرجل الذكريات اللذيذة فعاوده الحنين إلي صفو الحياة و جمالها.
ثم أمر بإحضار الشاي، و تهالك علي أريكة و وثيرة و جلست قربه ثم بدأ في ثرثرته المعهودة و قال بحماسة و فخار: ‹‹كنت أهوى البحر و اركب في سبيل بلوغه الأهوال و الأخطار.. لذ " لقريبع" ، صديق العمر الذهاب معي إلي البحر ، وقد اشتد الحر و ذهب الريح و القر، الصائفة اشتدت حرارتها و الأجساد قد تعرت، و السواعد قد نشطت و الغرف قد اقتضت و قبلت .. و النفوس لمرماها طمعت.
أراد " قريبع" في أيام صباه ـ و قد غرم غرما بساعده، حتى اشتد بلاؤه ـ أن يجد لنفسه مأوى يرفع به عن النفس و يذهب الحر و القلق فركب سيارة استأجرها و ركبت معه ، ووصلنا البحر فطالعنا كل جمال و كمال ... نسيمات عليلة اعترضتنا و تملقتنا... و طيور في الفضاء سابحة و لرب السماء شاكرة ..السماء زرقاء صافية و النجوم آفلة بعدما قضت الليل ساهرة و علي راحة الإنسان عاملة... البحر ليس له حدود والماء لا يعرف له ركود. و السماء تتسع منذ عهود ... فسبحنا من وضعها بغير عمد و أقامها بغير قد، فأعانت البحر على الجزر و المد.
نظرت أمامي فإذا السماء و الأرض مطبقتان كانهما منذ القديم متعاشرتان و لحماية نفسيهما متعاونتان .. و حملقت فإذا الماء هناك أزرق و هنا أبيض فعجبت لهذه الحال. و علمت فيما بعد... أن أبصارنا تخدعنا و لعقولنا المرجع و المنقلب.
حملنا أمتعتنا عل الشاطئ و بالقرب من أمواج البحر فرشنا و تمددنا ننعم النظر في النهود و نتأمل الخدود التي أقبلت من كل الجهات و الحدود... فبدأ الحمام لمرآنا يسرح و لنا يمرح . فعشقت ذات الوجنات الحمراء والأغصان البيضاء و القوام الممشوق و الشعر الطويل السود، فشكرت الشمس علي تركها اللحم تحت أشعتها ينعش و العيون بالجمال تنعم و تمنيتها أكلة شهية قرب أمواج البحر. و تمنى صاحبي أخرى على الفراش الوثير تمددت و علي ظهرها و بطنها تقلبت كتقلب السمك في الطاجين ...
و أقسم صاحبي أنه لم ير مثلها أكلة في عز الصيف فغمز صاحبي و غمزت و في بيت مهجور تم ما تم و أفرغنا الجيوب من النقود .. و تمنيت و تمني صاحبي لوهدمت السدود التي سطرت بالحدود و القلم الممدود حطي ننعم بدون عقود .. وقلت لقريبع: ‹‹هذا يومنا فلا نفرط فيه و قصدنا مجلس العم طاهر و قد جعله صاحبه لسراة القوم مقصدا ليشربوا النبيذ و يرقصوا حتى الثمالة . و قبل أن ندخل المجلس لمحنا العم الشاذلي بوصيد دكانه جالسا و علي سحنته هم و غم فخلنا أن ماله ذهب و بقي في نكد... فصارحته بذلك . رفع رأسه حيرة و تنهد من الأعماق و قال و هو يتمالك أنفاسه المضطربة:‹‹لقد ذهبت الحرة بعد أن تركت في نفسي غمة ››. فقلت مواسيا:‹‹لا عليك فالنساء في الوجود كثرة و صيدهن أيسرمن شرب الخمرة ، فالنفس له اشتاقت و لنبيذه تشوفت و ارتاحت فانفرجت اسارير وجهه و تنهد مسرورا و قام و أغلق الدكان و انصرفنا ...
و لما اقتربنا من المجلس رأينا الليل قد ذهب ظلامه، و تلألأت نجومه و أنواره و تصاعد في الجو البخور من القدور ، و تعالت الأصوات و عم الضجيج و الصياح و انتابني شك في المجلس المقصود ..، فهرول العم الشاذلي و هرو لنا خلفه و تسابقنا للجنان : خدر الأكواب الموضوعة ، و النمارق المصفوفة ، و الزرابي المبثوثة و الحور العين .. و اللحم المشوي.. رائحة زكية بعطر وزنود ونهود بيض نقية... و...
و دخلنا و دخل العم الشاذلي ... و رفع علي الأعناق .. فالجميع صحبه و بشذى أقاصيص غرامه و مغامراته تغنوا و ترنحوا .. قال العم الشاذلي مسلما :‹‹حياكم الله معشر الشباب ››
و رد الجميع بحماس فياض: ‹‹حييت يا عم ››.
ثم أخذ العم الشاذلي مجلسه و جلسنا . و عاد العم يقول هاتفا بصوته الأجش : ‹‹إلي أيتها المليحة ، هات الكؤوس التي تحيي النفوس و أسقي أهل الفؤوس ››∙
هرولت أحداهن و قدمت الشراب في الكؤوس فاشرأبت إليها الأعناق و النفوس،
فتسلمها العم و أجلس المرأة أمامه و أشربها النبيذ لتسقيه من خمرها اللذيذ ثم ارتمي عليها لتبادل الحلو و المر، ثم مد الكأس و صب الخمر على الرأس، فاشتد الغيظ بالفتاة و نهرته، و قربت إليها ‹‹قريبع›› و قد كان يتفحش مع إحداهن فغضب العم الشاذلي و أمتلأ حنقا و قال بحدة و هو يتميز من الغيظ: ‹‹لا عبثن بالمجلس يا قحاب ›› فقالت المرأة تستفزه :‹‹دع لي هذا الشاب يا عم ، فساعده بقوة الشباب معمر ، و أنت افقدتك النساء صلابته، فتهرأ ..
فأزداد غضبه ، و أمتلأ صدره حنقا و قال بصوت رفيع : ‹‹هاكم المال يا معشر القحاب .. و أخذت الدنانير تتناثر عن يمين و شمال .. و كثر الصخب و اللغط .. و تسابقت النسوة الحاضرات لجمع المال و العم الشاذلي واقف يضحك و يقهقه... رن الجرس ليعلن انتصاف الليل ، فترنحت الرؤوس ، و ذابت القلوب ..
ثم خرج العم الشاذلي و خرجنا ...
كان لي صديق، استأثرت به النشوة أياما، ثم مضت حماسته تفتر و نشوته تخبو، بيد انه لم ينكص على عاقبيه و بقي به شئ مما كان ، أقصده كلما ألم بي كرب و اشتد علي حزن ، اطلب السلوى بحكايته التي يرويها و مغامراته التي يتقن صياغتها في كلام مشوق و حديث منمق، حالما رأني قادما إليه اهتز صدره فرحا و قال بصوت ينم عن السرور:
أين أنت يا رجل ! ؟ هل نسيت عشرتنا بهذه السرعة ؟
ثم استدرك قائلا: ‹‹اعلم أن مشاغل الحياة كثيرة ، لعن الله هذه الدنيا التي جعلتنا نجري وراء لقمة العيش ليل نهار دون أن ننال مبتغانا، الحياة صعبت وقل راكبها و فرقت الشمل بين الأصحاب و الخلان .›› وطافت بالرجل الذكريات اللذيذة فعاوده الحنين إلي صفو الحياة و جمالها.
ثم أمر بإحضار الشاي، و تهالك علي أريكة و وثيرة و جلست قربه ثم بدأ في ثرثرته المعهودة و قال بحماسة و فخار: ‹‹كنت أهوى البحر و اركب في سبيل بلوغه الأهوال و الأخطار.. لذ " لقريبع" ، صديق العمر الذهاب معي إلي البحر ، وقد اشتد الحر و ذهب الريح و القر، الصائفة اشتدت حرارتها و الأجساد قد تعرت، و السواعد قد نشطت و الغرف قد اقتضت و قبلت .. و النفوس لمرماها طمعت.
أراد " قريبع" في أيام صباه ـ و قد غرم غرما بساعده، حتى اشتد بلاؤه ـ أن يجد لنفسه مأوى يرفع به عن النفس و يذهب الحر و القلق فركب سيارة استأجرها و ركبت معه ، ووصلنا البحر فطالعنا كل جمال و كمال ... نسيمات عليلة اعترضتنا و تملقتنا... و طيور في الفضاء سابحة و لرب السماء شاكرة ..السماء زرقاء صافية و النجوم آفلة بعدما قضت الليل ساهرة و علي راحة الإنسان عاملة... البحر ليس له حدود والماء لا يعرف له ركود. و السماء تتسع منذ عهود ... فسبحنا من وضعها بغير عمد و أقامها بغير قد، فأعانت البحر على الجزر و المد.
نظرت أمامي فإذا السماء و الأرض مطبقتان كانهما منذ القديم متعاشرتان و لحماية نفسيهما متعاونتان .. و حملقت فإذا الماء هناك أزرق و هنا أبيض فعجبت لهذه الحال. و علمت فيما بعد... أن أبصارنا تخدعنا و لعقولنا المرجع و المنقلب.
حملنا أمتعتنا عل الشاطئ و بالقرب من أمواج البحر فرشنا و تمددنا ننعم النظر في النهود و نتأمل الخدود التي أقبلت من كل الجهات و الحدود... فبدأ الحمام لمرآنا يسرح و لنا يمرح . فعشقت ذات الوجنات الحمراء والأغصان البيضاء و القوام الممشوق و الشعر الطويل السود، فشكرت الشمس علي تركها اللحم تحت أشعتها ينعش و العيون بالجمال تنعم و تمنيتها أكلة شهية قرب أمواج البحر. و تمنى صاحبي أخرى على الفراش الوثير تمددت و علي ظهرها و بطنها تقلبت كتقلب السمك في الطاجين ...
و أقسم صاحبي أنه لم ير مثلها أكلة في عز الصيف فغمز صاحبي و غمزت و في بيت مهجور تم ما تم و أفرغنا الجيوب من النقود .. و تمنيت و تمني صاحبي لوهدمت السدود التي سطرت بالحدود و القلم الممدود حطي ننعم بدون عقود .. وقلت لقريبع: ‹‹هذا يومنا فلا نفرط فيه و قصدنا مجلس العم طاهر و قد جعله صاحبه لسراة القوم مقصدا ليشربوا النبيذ و يرقصوا حتى الثمالة . و قبل أن ندخل المجلس لمحنا العم الشاذلي بوصيد دكانه جالسا و علي سحنته هم و غم فخلنا أن ماله ذهب و بقي في نكد... فصارحته بذلك . رفع رأسه حيرة و تنهد من الأعماق و قال و هو يتمالك أنفاسه المضطربة:‹‹لقد ذهبت الحرة بعد أن تركت في نفسي غمة ››. فقلت مواسيا:‹‹لا عليك فالنساء في الوجود كثرة و صيدهن أيسرمن شرب الخمرة ، فالنفس له اشتاقت و لنبيذه تشوفت و ارتاحت فانفرجت اسارير وجهه و تنهد مسرورا و قام و أغلق الدكان و انصرفنا ...
و لما اقتربنا من المجلس رأينا الليل قد ذهب ظلامه، و تلألأت نجومه و أنواره و تصاعد في الجو البخور من القدور ، و تعالت الأصوات و عم الضجيج و الصياح و انتابني شك في المجلس المقصود ..، فهرول العم الشاذلي و هرو لنا خلفه و تسابقنا للجنان : خدر الأكواب الموضوعة ، و النمارق المصفوفة ، و الزرابي المبثوثة و الحور العين .. و اللحم المشوي.. رائحة زكية بعطر وزنود ونهود بيض نقية... و...
و دخلنا و دخل العم الشاذلي ... و رفع علي الأعناق .. فالجميع صحبه و بشذى أقاصيص غرامه و مغامراته تغنوا و ترنحوا .. قال العم الشاذلي مسلما :‹‹حياكم الله معشر الشباب ››
و رد الجميع بحماس فياض: ‹‹حييت يا عم ››.
ثم أخذ العم الشاذلي مجلسه و جلسنا . و عاد العم يقول هاتفا بصوته الأجش : ‹‹إلي أيتها المليحة ، هات الكؤوس التي تحيي النفوس و أسقي أهل الفؤوس ››∙
هرولت أحداهن و قدمت الشراب في الكؤوس فاشرأبت إليها الأعناق و النفوس،
فتسلمها العم و أجلس المرأة أمامه و أشربها النبيذ لتسقيه من خمرها اللذيذ ثم ارتمي عليها لتبادل الحلو و المر، ثم مد الكأس و صب الخمر على الرأس، فاشتد الغيظ بالفتاة و نهرته، و قربت إليها ‹‹قريبع›› و قد كان يتفحش مع إحداهن فغضب العم الشاذلي و أمتلأ حنقا و قال بحدة و هو يتميز من الغيظ: ‹‹لا عبثن بالمجلس يا قحاب ›› فقالت المرأة تستفزه :‹‹دع لي هذا الشاب يا عم ، فساعده بقوة الشباب معمر ، و أنت افقدتك النساء صلابته، فتهرأ ..
فأزداد غضبه ، و أمتلأ صدره حنقا و قال بصوت رفيع : ‹‹هاكم المال يا معشر القحاب .. و أخذت الدنانير تتناثر عن يمين و شمال .. و كثر الصخب و اللغط .. و تسابقت النسوة الحاضرات لجمع المال و العم الشاذلي واقف يضحك و يقهقه... رن الجرس ليعلن انتصاف الليل ، فترنحت الرؤوس ، و ذابت القلوب ..
ثم خرج العم الشاذلي و خرجنا ...
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire