samedi 10 janvier 2009

مقالات متنوعة

Portable :(00 216)23038163

المؤمل والمنشود في أدب الطفل

تعتبر تنشئة الأطفال وتربيتهم من أعوص المشاكل التي تواجه عالمنا المعاصر، فالطفل يولد نقيا طاهرا وأبواه والمجتمع هم الذين يوجهونه الوجهة التي يرونها صالحة لهذا الطفل لخدمة مستقبل بلادهم وعزّتها وقوّتها، وهم المسؤولون عن توثيق الروابط، وتعميق الصلات بين الأجيال المختلفة، في سبيل وحدة الجسد الاجتماعي وقوّته حتى يكون كالبنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضا.

ولتحقيق كل هذه الأغراض والأهداف النبيلة لابدّ أن يتخصص فريق من الأدباء لأعداد الطفل وتعهده بالتربية السليمة والتنشئة القويمة الصالحة.

ونظرا لخطورة المرحلة التي يمرّ بها الطفل في سنواته الأولى، لابد أن يكون واضع أدب الأطفال واعيا بجمال الكون والإنسان والحياة، ملما بمشاكل عصره، مواكبا لطموحات أبناء وطنه، يعرف ميول الأطفال وقدراتهم وأعمارهم العقلية، فيكتب لهم ما يجعلهم ينجذبون نحوه، وان يكون صديقا حميما للأطفال، يتحدث على لسانهم ويتحدث إليهم، كما يتحدثون إليه، ويشاركهم في عواطفهم وفي ألعابهم... وفي تخيلاتهم، كما يتحدث إليهم هاديا ومرشدا، فيرسم لهم بكلماته القيم السامية الرّشيدة، ويعكس خفايا الأنفس المتعطشة إلى حب الخير والمعاني المشرقة... ويوقظ فيهم حسّ المسؤولية كلبنات تنتظر دورها في مجالات الحياة المختلفة، وهو في الوقت نفسه، لا يستعصي على أفهامهم، ولا يعلو على قدراتهم وخبراتهم حتى لا يتحرك في فراغ، ويفقد قيمته وتوهجه... بلغة فصيحة سليمة، وأسلوب رشيق وألفاظ قريبة إلى معجم الأطفال في نعومتها وسلاستها، مفعما بمعاني سامية وناصعة تواكب عمر الطفل، وتشوّقه، وتجذبه نحو القراءة.

ويحسن أن تتنوع الموضوعات التي يعالجها أديب الأطفال، وتساير المحيطات التي يغشاها الطفل أو يتصل بها، وأن تكون قصيرة كي ييسر تعامل الأطفال معها... باعتبارها تنزل إلى مستواهم. ويعتبر ذلك من أصعب المهام لكتابة الأطفال.

وعلى أديب الأطفال أن يضع نصب عينيه أن الهدف من كل كتاباته الموجهة للأطفال هي تنشئة طفل يحمل المبادئ السامية الرفيعة، يعيش لعصره، متفهما للمشاكل التي يعيش فيها، عالما متطلعا لما يجري حوله، يقظا لكل ما يحاك لامته، عاملا على اتقائه ودرئه عنها، وأن يكون في الوقت نفسه مطلعا على تراثه وما قام به أجداده أيام مجدهم وعزّهم ليختار منهم البطل الذي ينير له الطريق وتنمي فيه روح المبادرة والنشاط، ويكون قادرا على الخلق والابتكار والابداع...

محمد بن سالم بن عمر

12، شارع الجمهورية، سيدي بوعلي 4040

الحمد لله

MMohamedsalembenamor21@yahoo.fr

Portable :(00 216)23038163

الأنظمة الحاكمة لبلاد العرب والمسلمين

برهنت أنها وريثة للاستعمار الغربي

لعل ابرز انجازات انتفاضة الشعب الفلسطيني الثانية ضد الاحتلال الصهيوني هي انها كشفت –بما لا يدع مجالا للشك- سبب تخلف وانحطاط أمتنا الاسلامية "خير أمة أخرجت للناس" في العصر الحديث، فهذه الأمة العظيمة قد ابتلاها الله بأنظمة حكم فاسدة جعلت همها الرئيس تكبيل أفراد الأمة ومنعهم من انجاز أي عمل حضاري من شانه أن يعيد للأمة القوة والازدهار، حتى تتمكن من أداء المهمة المناطة بعهدتها... وهي: "الشهادة على الناس وقيادة مسيرة الشعوب نحو التآخي والتعارف والرحمة و الحياة الحقة.. تبعا لقوله تعالى: "و كذلك جعلناكم أمّة وسطا لتكونوا شهداء على الناس.."، وقوله تعالى لنبيه الكريم صلى الله عليه و سلم "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"...

لقد برهنت الأنظمة الحاكمة لبلاد العرب والمسلمين أنها وريثة للاستعمار الغربي.. وإن الغرب الاستعماري قد بوأها مكانته إبان استعماره المباشر لديارنا، حتى تنجز المهمة التي من اجلها استعمر ديارنا.. والمتمثلة أساسا في نهب ثرواتنا والخيرات التي رزقنا الله.. وتكبيل القوى الحية للمجتمع لإدامة تخلفنا وتبعيتنا المهينة للمستعمر الغربي... وبذلك تتحقق مقولة "السيادة والعبودية"..فهم"السادة" ونحن "العبيد" كأننا ما خلقنا إلا لتحقيق سيادة الرجل الغربي والسهر على رفاهيته.. وهكذا تصبح رفاهية الغرب الاستعماري لا تتحقق إلا بفقرنا نحن وفقرنا هو وليد رفاهية الغرب الناهب لثرواتنا و المهيمن على قادتنا أعانهم الله...؟!

لقد مثلت الحركة الإسلامية الفلسطينية طلائع هذه الأمة المجاهدة.. فكان لابد من "تأديبها" بل تصفيتها.. فأوكلت هذه المهمة القذرة لقاعدة الاستعمار الأولى المتمثلة في الكيان الصهيوني اللقيط...

وقد سانده في هذه المهمة القذرة نُظُمٌ أغلقت الحدود أمام شرفاء الأمة والتنكيل بكل من سوّلت له نفسه دعم طلائع هذه الأمة المجاهدة و المتمثلة في الحركة الإسلامية الفلسطينية المجاهدة.

فالغرب الاستعماري تفتقت ذهنيته الإجرامية إبان استعماره لديارنا على زرع غدّة سرطانية في قلب الأمة وأمدها بالمال والسلاح وكافة أنواع الدّعم... وساند مجموعة اشربت ثقافته وفلسفته للكون و الإنسان والحياة، تولت الحكم وتسيير بقية أعضاء هذه الأمة.. مما حكم على جسد الأمة بالمرض والهزال والتخلف..

لذلك لا يمكن الحديث عن زوال هذه الغدة السرطانية وهي الكيان الصهيوني اللقيط المنغرس في قلب أمتنا إلا بزوال أنظمة فاسدة لا ترى مانعا من التوحد مع هذه الغدة السرطانية.. وهي أولى الخطوات لتحرير أمتنا من براثن التخلف والاستعمار والنهب وعودة أمتنا للفعل الحضاري وقيادة الشعوب لما فيه خيري الدنيا والآخرة ورحمة الله.

جريدة العرب

الثلاثاء 21/05/2002

Portable :(00 216)23038163

الماء في رحاب القرآن

تمهيد

تتميز نظرة الإسلام بالواقعية والعمق والشمولية، أمّا النظرة الواقعية فتتمثل في احتلال الماء أهمية كبرى في نصوص القرآن الكريم باعتباره أصل الحياة ونعمة النعم التي منّ الله بها على بني آدم. وأمّا عمق هذه النظرة فتبرز خاصة في البرهنة بحجج دامغة وملموسة على أنّ الماء آية من آيات الله الدّالة على وحدانيته سبحانه وتعالى وعظيم قدرته على البعث والنشور وإحياء الموتى...

وأما الشمولية فتتجسد أساسا في إحاطة الإسلام بكل منافع الماء وأدواره في هذه الدنيا وكذلك في الآخرة.

الماء واصل الحياة

أ‌- الماء أصل الحياة

إنّ كون الماء يمثّل سرّ الحياة النضيرة الزاهية المخضرّة حقيقة كونية ووجوديّة لم يغفل عنها الإنسان في أيّ زمان وفي أي مكان، لذلك نجد القرآن الكريم يثبت هذه الحقيقة بكل وضوح ودقّة: يقول عزّ وجلّ في سورة الأنبياء " أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرٍض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون" (أنبياء/30).

والمعنى: أو لم يعلم الكفار بالله والمشركون الذين أشركوا مع الله إلها آخر أنّ السماوات والأرض كانتا ملتصقتين شيئا واحدا، ففصلناهما وميزناهما عن بعضهما بكتلة الهواء، وخلقنا من الماء كلّ شيء: من حيوان ونبات وغيرهما أفلا يصدقون بقدرتي وتوحيدي؟

ب‌- الماء أصل خلق الإنسان

إذا تأمّل الإنسان ونظر نظرة مستنيرة من أي شيء خلقه ربّه، فسيجد أنّه خلق من ماء (مني) مصبوب في الرّحم، ويخرج هذا الماء من بين ظهر الرجل وعظام صدر المرأة يقول عزّ وجلّ: " فلينظر الإنسان ممّ خلق، خلق من ماء دافق يخرج من بين الصّلب والترائب". (الطارق/5-7)

ويقول عزّ وجلّ: " ألم نخلقكم من ماء مهين فجعلناه في قرار مكين إلى قدر معلوم فقدرنا فنعم القادرون". (المرسلات/20-23)

"وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربّك قديرا". (الفرقان/54)

أ‌- الماء أصل خلق الدّواب

إن كون كل من هبّ ودبّ على وجه الأرض قد خلق من ماء قانون إلهي ينطبق على كل المخلوقات بدون استثناء. يقول عزّ وجلّ: "والله خلق كلّ دابّة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء إنّ الله على كلّ شيء قدير" (النور/45)

نتيجة أولى: الماء دليل على وحدانية الخالق

إنّ وحدة العنصر الذي يرجع إليه أصل الحياة (وهو الماء) يبرهن بقوّة وبحجج دامغة على وحدانية الخالق وتفرّده بالخلق دون سواه، لأن إتباع نسق واحد في خلق السماوات والأرض وهندستها ورجوع أصل الحياة على اختلافها إلى شيء واحد ونظام واحد برهان قويّ وحجة ما بعدها حجّة على وحدانية الخالق وهو ليس كمثله شيء. فالله واحد في ذاته، لا شريك له، لم يلد ولم يولد من أحد، لأنّه قديم أزلي غير محدث فالله تبارك وتعالى هو خالق الكون وما فيه، وأنّه تعالى وحده المتصرّف فيه، وأن الجميع يخضع لإرادته ومشيئته، إن وحدة الموجد لهذا الكون، ووحدة الموجودات في السماوات أأأاوالأرضين ووحدة البشرية جميعا ووحدة القوانين التي تسير بمقتضاها الكائنات تنفي عبثية الكون وتدلّ على قدرة الله وترشد العباد إلى عظيم حكمة الله وتجنبهم الشّرك والكفر والضلال. إذ لو كان في السماوات والأرض آلهة أخرى غير الله لخربتا واختل نظام الكون وتضاربت نواميسه لاستبداد كل إله بتصرّف معيّن، فيقع التنازع والاختلاف. وبهذا يكون الماء آية تدلّ على أن الله واحد أحد لكونه أصل فريد لكلّ الكائنات الحيّة يقول سبحانه وتعالى في سورة الواقعة: " أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون" (الواقعة/68-70)، أي أخبروني أيّها الناس عن الماء الذي تشربون منه لإرواء العطش، أأنتم أنزلتموه من السحب أم نحن المنزلون له بإرادتنا وقدرتنا دون غيرنا؟

وبعد ما يثبت لنا القرآن العظيم وحدانية الخالق عزّ وجلّ وتنزهه عن الشريك في خلق السماوات والأرض والنّاس والدّواب والنبات، وتفرّده في تدبير الكون... يقدّم لنا الإسلام براهين ملموسة ومشاهدة على إمكانية البعث وإحياء الموتى يوم يقوم الناس لربّ العالمين.

الماء وقضية البعث

أ‌- بداية خلق الإنسان من تراب

تجمع عديد الآيات القرآنية على أن الله تجلت قدرته خلق الناس في الأصل من تراب بخلق أبيهم آدم عليه السّلام، ثم خلقهم من نطفة... يقول عزّ وجلّ: "ومن آياته أن خلقكم من تراب ثمّ إذا انتم بشر تنتشرون" (الرّوم/20). ويقول أيضا: "الذي أحسن كلّ شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين، ثمّ جعل نسله من سلالة من ماء مهين، ثمّ سوّاه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السّمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون" (السجدة/ 7-9).

ونجد أيضا هذه الآية: "هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفـّى من قبل ولتبلغوا أجلا غير مسمّى ولعلكم تعقلون" (غافر/67).

ب‌- إحياء الأرض الميتة بالماء

تلفت عديد الآيات القرآنية انتباه الإنسان إلى التحوّل الذي يطرأ على الأرض الميّتة بعد نزول المطر عليها. فهي تكون هامدة بين الحياة والموت فإذا نزل عليها الماء اهتزت وربت، وهي حركة عجيبة سجلها القرآن قبل أن تسجّلها الملاحظة العلمية بمئات السنين، فالتربة الجافة ينزل عليها الماء فتتحرّك حركة اهتزاز وهي تشرب وتنتفخ فتربو وتنبت من كلّ صنف نباتي نضير، يقول عزّ وجلّ: "ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها إنّ في ذلك لآيات لقوم يعقلون" (الروم/24). "أولم يروا أنّا نسوق الماء إلى الأرض الجُرُز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون" (السجدة/27) ويقول أيضا: " وهو الذي أرسل الريح بُشرا بين يدي رحمته، وأنزلنا من السماء ماء طهورا، لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسيّ كثيرا" (الفرقان/48-49).

نتيجة ثانية: الماء برهان على يوم البعث لأن إحياء الأرض الميّتة في الدنيا يضاهي إحياء الموتى يوم القيامة.

إذا كان الإنسان يشترك مع الأرض في الأصل الواحد وهو التراب فإنّ إحياء الأرض بعد موتها برهان على استطاعة الله إحياء الموتى يوم القيامة فإذا كان الله بقدرته يحيي الأرض الميتة بقطرات من الماء فهل يعقل أن يعجز عن إحياء الإنسان بعد موته وهو الذي بدأ الله خلقه من تراب..؟؟! فالذي أحيا الأرض قادر ولا شكّ على إحياء الموتى بعد فنائهم وهو قادر على كلّ شيء فالماء كما برهن يقينيا على وحدانية الله فهو يبرهن بالملموس ويقرّب إلى الأذهان كيفيّة البعث والنشور. فكون أصل الإنسان من تراب فإحياء الأرض بعد موتها يتفق مع إمكانية إحياء الإنسان بعد الموت، وفيما يلي بعض الآيات التي تشرح هذه المعاني وتربط بين كيفية إحياء الأرض بالماء وكيفية إحيائه الموتى يوم القيامة، يقول عزّ وجلّ: "يا أيّها النّاس إن كنتم في ريب من البعث فإنّا خلقناكم من تراب ثمّ من نطفة ثمّ من علقة ثمّ من مضغة مخلّقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقرّ في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمّى ثم نخرجكم طفلا ثمّ لتبلغوا أشدّكم ومنكم من يتوفـّى ومنكم من يردّ إلى أرذل العمر لكيلا يعلم بعد علم شيئا وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، ذلك بانّ الله هو الحق وأنّه يحيي الموتى وإنّه على كل شيء قدير" (الحج/5-6)

"والذي نزّل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون" (الزخرف/11)

"ومن آياته أنّك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنّه على كلّ شيء قدير" (فصلت/39)

"والله الذي أرسل الرّياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميّت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النّشوز" (فاطر/9)

فهذه الآيات تجمع على أن الله الذي أرسل الرّياح مبشرات بهطول الأمطار، فتحرّك سحابا وتدفعه إلى جهة ما فيسوق الله هذا السحاب المحمّل بالغيث إلى بلد مجدب قاحل غير منبت فيحيي بالمطر الأرض بإنبات النبات بعد يبسها وجدبها. وبمثل ذلك الإحياء يحيي الله العباد بعد الموت ، فهو "يخرج الحيّ من الميّت ويخرج الميّت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون" (الرّوم/19).

ولعلّ ما يبعث به نزول الغيث من أمل وبشرى في نفوس الناس بعد اليأس والقنوط عمليّة تقرّب من الأذهان كيفية الحياة بعد الموت أيضا لأنّ اليأس نوع من الموت، يقول عزّ وجلّ: "وهو الذي ينزّل الغيث من بعدما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد" (الشورى/28). فالله هو الذي ينزل المطر لإغاثة الناس بعد يأسهم من نزوله وتعمّ رحمته كلّ شيء، وتنشر منافع الغيث في كل مكان، وهو الذي يتولى الصّالحين من عباده بالإحسان المحمود على كلّ حال، المستحق للحمد والشّكر على نعمه الكثيرة فالمطر دائما يحمل البشرى بالخير والخصب، يقول الحق تبارك وتعالى: "الله الذي يرسل الرّياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من حلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون، وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين. فانظر إلى أثر رحمة ربّك كيف يحيي الأرض بعد موتها إنّ ذلك لمحيي الموتى وهو على كلّ شيء قدير" (الروم/48-50)

الماء أصل كلّ الخيرات في الدّنيا والآخرة

· في الدنيا

أ‌- طعام الإنسان أصله ماء

إذا ما نظر الإنسان نظرة تأمّل وتفكّر كيف أوجد الله له مطعومه الذي هو سبب حياته فسيجد أنّ الله أنزل المطر إنزالا سخيا كثيرا، ثمّ شقّ الأرض حبّا كالحنطة والشعير، وأعناب وكلّ ما يقطع أخضر طريّا وأشجار زيتون ونخيل وبساتين كثيرة الأشجار. وفاكهة مختلفة الألوان والأنواع وعشبا للدواب، خلقها الله منفعة للبشر ولجميع حيواناتهم يقول عزّ وجلّ: "فلينظر الإنسان إلى طعامه إنّا صببنا الماء صبّا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبّا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبًّا متاع لكم ولأنعامكم" (عبس/24-32). كما جاء قوله تعالى: "وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا لنخرج به حبّا ونباتا وجنات ألفافا" (النبأ/14-16).

فكل ما يمثل قوتا للعباد من بساتين مشجرة كثيرة، وزروع مختلفة ذات حبوب كالبر والشعير والنّخيل المتميّز بأشجار طوال عالية لها ثم منضد: كل هذه الخيرات أصلها المطر رمز الخير والبركة والمنفعة يقول عزّ وجلّ: "ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحَبَّ الحصيد، والنخل باسقات لها طلح نضيد رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج" (ق/9-11).

إنّ الرّبيع يبعث مع جريان الجداول، فتعمر المنتزهات الزاهية وتزدهي الطبيعة بكساء مزركش أخاذ، ويعبق الفضاء بنسيم نقي عاطر وترفرف البلابل والفرشات فتلقاها تجيء وتروح وتحوم وترقص... ويهنأ الناس باشهى الثمار وأجمل الورود والياسمين. وكل هذه الخيرات التي ينعم بها البشر تسقى بماء واحد كما الرّب واحد. لكن لا يجب أن يغترّ المرء بهذه الخضرة والتنوّع لأنّ كلّ ذلك سييبس ويجف فتراه مصفرّا بعد خضرته، ثمّ يتفتّت ويتكسّر يقول الله في ذلك: "ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثمّ يهيج فتراه مصفرّا ثمّ يجعله حطاما إنّ في ذلك لذكرى لأولي الألباب" (الزمر/21).

وهذه القوانين تنسحب على كل المخلوقات الكونية حتى يعلم الإنسان أن عبادة الله هي الغاية القصوى من خلقه فيسعى تبعا لذلك في هذه الحياة الدنيا مستفيدا مما سخره الله من الكائنات والخيرات كوسيلة لحفظ البدن الذاكر الشاكر المتفكّر...

ب‌- استخراج الزينة والحلي من البحر

يعتمد الإنسان في معاشه على ما يستخرجه من البحر أيضا كالسمك واللؤلؤ والمرجان، كما يستعمل السفن عابرات شاقات الماء يجربها فيه طلبا لرزق الله وفضله بالتجارة يقول عزّ وجلّ: "وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريّا وتستخرجون حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون".(فاطر/12)

ج‌- الماء فيه شفاء من بعض الأسقام

فقد ذكر الله سبحانه وتعالى أنّ النبي الصّابر أيّوب بن أموص بن أروم حين دعا ربّه متضرّعا بأنه أصيب بضرّ ومشقّة وألم أي مرض قال له الله: اضرب برجلك الأرض يخرج ينبوع من الماء البارد، كما أمر موسى بضرب الحجر، فضرب، فنبعت عين جارية، قيل له هذا ماء بارد مغتسل تغتسل به، وشراب تشرب منه، ففعل فبرئ مما أصابه، يقول الله تعالى في ذلك: "واذكر عبدنا أيّوب إذ نادى ربّه إنّي مسّني الشيطان بنصب وعذاب، اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب" (ص/41-42).

د- الماء إحدى المعجزات وحجة على الكفار

فقد أوحى الله إلى موسى عليه السلام حين طلب قومه السقيا، لما أصابهم من العطش في صحراء التيه، أن اضرب بعصاك الحجر، فانفجرت منه أثنتا عشرة عينا بعدد الأسباط، فقد علم كل سبط منهم مكان شربهم، قال تعالى: "وأوحينا إلى موسى إذا استسقاه قومه أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه أثنتا عشر عينا قد علم كل أناس مشربهم" (الأعراف/160). وكان الماء من أبلغ الحجج التي قدّمها النبي نوح عليه السلام لقومه لكي يؤمنوا بالله ويوحدوه، قال عزّ وجلّ على لسان نوح: " فقلت استغفروا ربّكم أنّه كان غفّارا يرسل السّماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم أنهارا" (نوح/10-12). وكذلك ذكّر كل من هود وصالح عليهما السلام قومهم بنعمة الماء يقول عزّ وجلّ: "كذبت عاد المرسلين إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون... فاتقوا الله وأطيعون واتقوا الذي أمدّكم بما تعلمون أمدّكم بأنعام وبنين وجنات وعيون" (الشعراء/123-134).

وقال صالح عليه السلام لقومه ثمود: "إنّي لكم رسول أمين فاتّقوا الله وأطيعون... أتتركون في ما هاهنا آمنين في جنات وعيون" (الشعراء/143-147). كما كان الماء سببا في إنقاذ المؤمنين بنوح عليه السلام من الطّوفان في السّفينة التي تجري فوق الماء، وهي سفينة نوح يقول عزّ وجلّ: "..إنّا لما طغا الماء حملناكم في الجارية" (الحاقة/11). وجعل الله اليم منقذ لموسى من الموت المحتم على يد فرعون عليه لعنة الله. يقصّ القرآن ذلك فيقول: " وأوحينا إلى أمّ موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليمّ ولا تخافي ولا تحزني إنّا رادّوه إليك وجاعلوه من المرسلين" (القصص/7).

ولمّا عرض زعماء قريش كأبي سفيان والنضر بن الحارث على النبي صلى الله عليه وسلم الملك والجاه والشرف ليكفّ عن دعوته فأبى ذلك... فسانده الله على موقفه مبينا له أنّه لو شاء لجعل له خيرا ممّا اقترحوه، وهو بساتين تجري من تحت غرفها الأنهار ممّا يبرهن على أن الماء يحتل عند الله أعلى الدرجات من بين جميع الخيرات، يقول عزّ وجلا في ذلك: " تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنّات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا" (الفرقان/10)

· في الآخرة

أ‌- الماء مكوّن من مكوّنات الجنّة

هذه بعض العينات للأهمية البالغة التي يحتلها الماء في حياة البشر من وجهة نظر إسلامية حاولنا أن تكون مدعّمة بآيات من القرآن الكريم، وهذه الأهمية التي يحتلها الماء في هذه الدّنيا ستزداد أهميتها يوم القيامة بالنسبة للمؤمنين الذين فازوا برضوان الله عزّ وجلّ وفيما يلي بعض الآيات القرآنية التي تصوّر لنا النعيم الذي سيمتع به الأبرار في الجنّة والذي سيكون الماء ركيزة من ركائزه يقول عزّ وجلّ: " إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير" (البروج/11).

"إن الأبرار لفي نعيم، على الأرائك ينظرون، تعرف في وجوههم نضرة النعيم يسقون من رحيق مختوم ختامه من مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ومزاجه من تسنيم، عينا يشرب بها المقرّبون" (المطففين/22-28). "إنّ المتقين في ظلال وعيون وفواكه ممّا يشتهون، كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون، إنّا كذلك نجزي المحسنين" (المرسلات/41-44). "إنّ الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا" (الإنسان/ 5-6).

"إنّ المتقين في مقام أمين في جنّات وعيون" (الدّخان/51-52). " لكن الذين اتّقوا ربّهم لهم غرف من فوقها غرف مبنيّة تجري من تحتها الأنهار وعد الله لا يخلف الله الميعاد" (الزمر/20).

"هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب، جنّات عدن مفتّحة لهم الأبواب متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب" (ص/49-51).

"إلا عباد الله المخلصين أولئك لهم رزق معلوم فواكه وهم مكرّمون، في جنّات النعيم على سرر متقابلين يطاف عليهم بكأس من معين بيضاء لذّة للشاربين لا فيها غَوْل ولا هم عنها ينزفون" (الصافات/40-48).

فالمؤمن كما هو في الدّنيا خيّر نافع مثمر، فإنّ جزاءه يوم القيامة يكون الإقامة الدّائمة في بساتين مختلفة، وأنهار متنوّعة، وفي مكان لا لغو فيه ولا تأثيم، عند ملك قادر لا يعجزه شيء، يقول عزّ وجلّ: "إنّ المتّقين في جنّات ونَهَر في مقعد صدق عند مليك مقتدر" (القمر/54-55).

الماء وسيلة يعاقب الله بها الكفار

· في الآخرة

إنّ آية الماء التي تبرهن على وحدانية الله وعظمته وتقرّب إلى الأذهان كيفية البعث والنشوز وكانت أصلا لخيري الدّنيا والآخرة بما تبعثه من خيرات في كافة مرافق الحياة، شاءت حكمة الله أن يكون الماء أيضا أداة فعّالة في عقاب الكفار في الدّنيا ومجازاتهم يوم البعث، فعلى عكس الجنّة التي وعد الله بها المتّقين، فيها أنهار جارية من ماء غير متغيّر الرّائحة والطّعم، وأنهار من حليب لم يتغيّر طعمه أيضا وأنهار من خمر لذة للشاربين، غير مؤذية ولا كريهة الطعم كخمر الدّنيا، وأنهار من عسل مصفـّى من الشّوائب على عكس مصير هؤلاء المتّقين سيكون مصير الكفار الخلود في النّار وسيسقون ماء حارّا شديد الغليان، فيقطع أمعاءهم، لشدّة حرارته، يقول عزّ وجلّ: "لم يتغيّر طعمه وانهار من خمر لذّة للشاربين وأنهار من عسل مصفّى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربّهم كمن هو خالد في النّار وسقوا ماء حميما فقطّع أمعائهم" (محمد/15).

· في الدنيا

إنّ هذه الحال التي سيكون عليها الكفّار يوم القيامة هناك صورة مصغّرة لها في هذه الدّنيا وفيما يلي بعض الأمثلة:

- غرق قوم نوح: كذبوا نبي الله نوحا عليه السلام وقالوا عنه مجنون وزجروه بشدّة فازدجر وكفّ عن دعوى الرّسالة فدعا ربّه بأنّه مغلوب على أمره ففتح الله أبواب السّماء بمطر غزير منصب بشدّة وتتابع وشقّ عيون الأرض بالمياه، فالتقى ماء السماء وماء الأرض على أمر قضى به في الأزل وقدره الله وهو الطوفان على "أمر" وهو إغراقهم... يقول عزّ وجلّ: "كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر فدعا ربّه إنّي مغلوب فانتصر ففتحنا أبواب السّماء بماء منهمر وفجّرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر" (القمر/9-12)، "قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكوننّ من المرجومين، قال ربّي إنّ قومي كذبون، فافتح بيني وبينهم فتحا ونجّني ومن معي من المؤمنين، فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون، ثم أغرقنا بعدُ الباقين، إنّ في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين" (الشعراء/116-121).

ويقول تعالى: " وقوم نوح لمّا كذبوا الرّسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية واعتدنا للظالمين عذابا أليما" (الفرقان/37).

فالله لما استنجد به نوح عليه السلام أوحى إليه أن اصنع السفينة بحفظه وعنايته وإرشاده وتعليمه إيّاه وأمره بأن يحمل في السّفينة من كلّ أنواع الحيوان صنفين: ذكر وأنثى، ليستمرّ توالد الحيوان وتبقى الحياة في الأرض ثمّ كتب على الذين ظلموا الغرق والموت.

- غرق فرعون وجنده وترك العيون والجنان: يقول عزّ وجلّ: "فدعا ربّه أنّ هؤلاء قوم مجرمون فأسر بعبادي ليلا إنكم متبعون واترك البحر رهوا إنّهم جند مغرقون، كم تركوا من جنّات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك وأورثناها قوما آخرين" (الدخان/22-28)

وقال الله تعالى في سورة الذاريات: "وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين فتولى بركنه وقال ساحر أو مجنون، فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليمّ وهو مُليم" (الذاريات/38-40)

ويقول عز جلّ مبينا أن الإغراق كان سبب الإفراط في العصيان والفساد وإغضاب الله: "فاستخفّ قومه فأطاعوه أنّهم كانوا قوما فاسقين فلمّا آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين" (الزخرف/54-55).

فعاقبة الظلم والكفر تكون دائما وخيمة بمقتضى النواميس الإلهية : "فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليمّ فانظر كيف كان عاقبة الظالمين". (القصص/40).

الفهرس

تمهيد

الماء وأصل الحياة

أ‌- الماء أصل الحياة

ب‌- الماء أصل خلق الإنسان

ت‌- الماء أصل خلق الدواب

نتيجة أولى: الماء دليل على وحدانية الخالق (لأن وحدة أصل الأشياء يبرهن على وحدة خالقها).

الماء وقضية البعث

أ‌- بداية خلق الإنسان من تراب

ب‌- إحياء الأرض الميتة بالماء

نتيجة ثانية: الماء برهان على يوم البعث (لأن إحياء الأرض الميتة يضاهي إحياء الموتى يوم القيامة)

الماء اصل كل الخيرات في الدنيا والاخرة

· في الدنيا

أ- طعام الإنسان أصله من ماء

ب‌- استخرا الزينة والحلي من البحر

ج- الماء إحدى المعجزات وحجة على الكفار

د- الماء فيه شفاء من بعض الأسقام

· في الآخرة

أ‌- الماء مكوّن من مكونات الجنة

الماء وسيلة يعاقب الله بها الكفار

· في الآخرة

· في الدنيا

Portable :(00 216)23038163

الأحزاب الدينية والمشهد السياسي في تونس

ردّا على ندوة: الأحزاب الدينية والمشهد السياسي الرّاهن / علمانيون وسلطة: تحالف ام تضاد؟!

ندوة فكرية عقدتها جامعة تونس للحزب الديمقراطي التقدمي يوم 7/12/2007.

مبلغ المنى في التوحد بين القول والفعل

يبدو لي أن كل ما ورد من أجوبة على الأسئلة المطروحة قد جانبت الحقائق التاريخية والواقع، فتونس قد صارت منارة إسلامية علمية وجهادية في كيان الأمة الإسلامية منذ الفتح الإسلامي لأفريقية سنة 27هـ/467م وما جامع عقبة والزيتونة وفتح إسبانيا على يد طارق بن زياد عنا ببعيد... أما ما يسمّى "بالاتجاه الإسلامي" فهو "نبت دخيل" على بلادنا ولا تربطه بمبادئ الإسلام كبير صلة إلا صلة الزي بصاحبه، لذلك كان هذا "الاتجاه" يغير من اتجاهاته وتوجهاته في كل آن وحين منذ أكثر من عقدين .. بينما مبادئ الإسلام ثابتة مكينة ثبات مسميات الأشياء وحقائقها في الكون والإنسان والحياة...

أما عن انقسام النخبة حول "منح حزب ديني رخصة العمل السياسي" فهو حق لمن لا يملكه ولا يمكن له أن يملكه، فصاحب الأمر والنهي قد أمر وأمره نافذ لا محالة طوعا أو كرها، وإنك يا قارئي لن تجد وسيلة إعلام واحدة في تونس أو في العالم لا تذكر بمبادئ الإسلام وشريعته المركونة في نفوس البشر جميعا... وما إذاعة القرآن عنا ببعيد.

أما القول بأن "الواقع لا يحتمل تطبيق الشريعة الإسلامية التي سنت قوانينها منذ 14 قرنا فهو قول مرفوض ومردود على صاحبه شكلا ومضمونا، أما الشكل فالشريعة قد سنت منذ خلق آدم وتعليمه "الأسماء كلها" وما بعثه محمد صلى الله عليه وسلم والمرسلين من قبله عليهم السلام إلا تذكيرا بها لا غير: "شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه..." (سورة الشورى الآية 13).

ولا أعتقد أن أي مبصر يجهل هذه الحقائق المكتوبة بين دفتي كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه منذ 14 قرنا. كما أن حدود الله وشريعته مطبقة تطبيقا في تونس وفي العالم كله منذ خلق الإنسان: "عصيان آدم لله في الجنة أنزله إلى دنيا التعب والكدح والشقاء، عصيان الله في الدنيا ينتج عنه حتما: المعيشة الضنك والتعب النفسي والبدني لكلٍّ حسب جريمته وظلمه وجهله... قاتل نفس بغير حق "يُقْتَلُ" ولو بعد حين...: "فرعون وجنده لما همّوا بقتل موسى ومن معه أهلكوا جميعا... الشيخ ياسين لما شجع على قتل الأبرياء قتِل... الزرقاوي.../ يوسف لما "همَّ" بإمرأة العزيز سجن بضع سنين.. "اللصوص قطعت أيديهم في الدولة الإسلامية... أو شلت أبدانهم في كل زمان ومكان أو ماتوا بأمراض مزمنة في قلوبهم وأدمغتهم... "شارون"... "ياسر عرفات"...إلخ.

لقد عبرت المعارضة عن تخوفها "من فكرة وجود حزب ديني سياسي" في تونس ودعت إلى "ضرورة التمييز بين حزب ديني سياسي وحزب سياسي ديني ورفض الخلط بين الوظيفة الدينية والوظيفة السياسية" فحققت السلطة المشرفة على أمن "المواطنين" المتخوفين من مجرد فكرة وجود حزب ديني رغبتهم "بالحضور المكثف للأمن السياسي"، ومنعت "المناضل الإسلامي" من حضور الندوة لأنه ببساطة ليس "قيادي حركة النهضة" كما صوب هو نفسه في جريدة (مواطنون بتاريخ 12/12/2007 ص5)، على عكس ما وهمت الجهة التي دعته لحضور حلقة النقاش.!

أما "النهضة" موضوع الحوار فقد حقق الله مسعى الخلّص من أبنائها في المساهمة في إنهاض المجتمع على يد قائد "التغيير" في نفس اليوم الذي فكر فيه الطامعون للانقضاض على السلطة تحت "غطاء الإسلام" الذي تزينت به ظاهرا وكفرت بشريعته حقا وواقعا حين غيرت إسمها وتلاعبت بثوابت الرحمان وأمضت على الميثاق الوطني. !!! ؟

محمد بن سالم بن عمر

كاتب وناقد تونسي

محمد بن سالم بن عمر

12، شارع الجمهورية، سيدي بوعلي 4040

الحمد لله

MMohamedsalembenamor21@yahoo.fr

Portable :(00 216)23038163

وعــي زائــف

الأستاذ رئيس التحرير

تحية طيبة وبعد،

من المخجل حقا أن يتصدّى لقيادة هذه الأمة العظيمة أشخاص لا يعرفون حقيقتها ولا يدركون عناصر القوة في هويتها الحضارية ولا أسباب الضعف فيها فيساهمون من غير قصد في تأييد تخلفنا وتبعيتنا المطلقة لعدو همه الوحيد إذلالنا والنكاية بنا واستغلال ثرواتنا والاستحواذ عليها.

إن من جملة ما ابتليت به هذه الأمة، تذبذب أبنائها المخلصين بين مناهج مختلفة ومتضاربة في تحليلهم لمجمل قضايانا الحيوية، أو غياب المفهوم الصحيح في أحايين كثيرة مما يوقعهم في غموض الفكرة وقصورها وهذا قد يوصلنا إلى التهلكة مكرهين. فهذا الكاتب يغيب عن ذهنه فكرة أن الشعب الفلسطيني هو جزء لا يتجزأ من الأمة الإسلامية ووحدة أهدافها وكل مل يمس الشعب الفلسطيني من قريب أو بعيد يهز كيان الأمة الإسلامية جميعا ويضربها في العمق بل ويفترض ان يهب كل أحزاب هذه الأمة –جيوشا وأفرادا- لنجدته إذا ما تعرض لسوء عملا بقوله عز وجل "ان هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون". إن الوعي الزائف الذي غرسه الاستعمار ولا يزال يقوم بغرسه عملاؤه وبقايا قوى الردة في بلادنا القائل بأن لكل شعب من شعوبنا شانه الخاص الذي يغنيه عن الالتفات لكل آلام الأمة الإسلامية لهو السبب المباشر في كل هزائمنا تقريبا، فهذا الشعور الزائف هو الذي أضعفنا ومكن قوى الاستكبار العالمي من الاستفراد بنا كل على حدة، "فالولايات المتحدة تحارب العراق لأنها ضامنة استفرادهم وإسرائيل تفتك بالفلسطينيين لأنها ضامنة استفرادهم... لم يحدث أن حارب أحد العرب كلهم" (المرجع: أ. طارق مصاورة في مقالة له بعنوان "بعد روس ستحل أولبرايت" "القدس العربي" عدد 2576).

أما من نصبوا أنفسهم الممثلين الشرعيين والوحيدين للشعب الفلسطيني فيتجاهلون أن كل الشعب الفلسطيني "بمتطرفيه ومعتدليه، بحمائمه وصقوره" تجب حمايتهم من العدو الصهيوني وحفظ أرواحهم وممتلكاتهم ولا يتذكرون هذه الحقيقة الا تحت ظروف قاهرة ولأسباب تكتيكية بحتة!!؟

ولقد أصبح هم بعض قادتنا –حفظهم الله- محاربة شعوبهم ورعاياهم تحت لافتات التطرف والإرهاب أو باسم الديمقراطية التي أشربوها فعرفوا أن بعض مواطنيهم لا ينتمون إلى عالم البشر بل وصاروا يرددون مصطلحات اختلقها اعداؤنا لمحاصرة أي شعلة نور يمكن أن تبزغ في سماء هذه الأمة العظيمة التي ابتعثها الله لتكون رحمة للعالمين. القدس العربي العدد 2597

13 سبتمبر 1997

محمد بن سالم بن عمر

12، شارع الجمهورية، سيدي بوعلي 4040

الحمد لله

MMohamedsalembenamor21@yahoo.fr

Portable :(00 216)23038163

بقايا الإستعمار

الأستاذ رئيس التحرير

تحية طيبة وبعد،

منذ انجلاء الاستعمار العسكري الغربي عن أرض العروبة والإسلام نشطت قوى الردة من بقايا هذا الإستعمار بكثافة لضرب مقومات أمتنا وتقزيمها وطمس هويتها الحضارية وتكريس واقع التخلف و"حياة الأنعام" لدى المواطن العربي وكل ما من شأنه أن يؤبد تبعيتنا الحضارية واستكانتنا للعبودية والانحطاط ومن ثمة يسهل إلحاق هذه الأمة العظيمة ذليلة محطمة بمصاصي دماء الشعوب.

وقد تنوعت أنشطة هذه القوى حتى شملت كافة الميادين المؤثرة تقريبا، وسأكتفي بذكر بعض النماذج من التخريب الذي أحدثته قوى الردة في تونس.

ففي ميدان الشاشة الصغيرة نجد عديد المسلسلات التي تكرس العقلية الخرافية لدى المواطن وتقترح عليه حلولا وهمية للمشكلات الكثيرة التي يعاني منها كمشكلة الفقر والبطالة فتحلها له هذه المسلسلات بالعثور المفاجئ على كنز مدفون، أو أن يمن عليه الملك بثروة تقلب حياته، أو يزوجه إبنته الوحيدة فيصبح ذلك الفقير المعدم وزيرا يتكلم فيطاع... وجماع هذه المسلسلات نجدها في حكايات "عبد العزيز العروي" الذي لا تزال حكاياته تبث ويعاد بثها المرات العديدة منذ حصول تونس على استقلالها وإلى اليوم.

ولمحاربة فكرة "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" نجد مسلسلات يعاد بثها باستمرار حتى ترسخ في وعي المواطن، من قبيل "مسلسل الحاج كلوف" تنفر الناس من التدخل في شؤون أفراد المجتمع وتصور الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر "بهلوانيا" لا يجلب سوى الاشمئزاز أو الضحكة، وقد صارت المقولة السائدة عندنا في تونس "الحاج كلوف يستاهل عشرة كفوف" (أي عشرة صفعات).

وفي السنوات الأخيرة لم يعد هم السينما التونسية سوى محاربة القيم العربية الأصيلة، ورسم ملامح حضارية لا تمت لقيمنا بصلة فيصبح المجتمع في شريط "عصفور السطح" لفريد بوغدير لا يعرف أفراده سوى الجري وراء تلبية غرائزهم الجنسية الملتهبة بكل السبل وتتحول المرأة إلى جسد عار لا يعرف الاحتشام إليها سبيلا، بل وتصبح الفتاة التونسية في شريط "صيف حلق الوادي" تلهث وراء من يَفُض لها بكارتها متحدية جميع القيم ولا يهمها من يكون خدينها يهوديا أو نصرانيا أو "مسلما"!

ويتحرر المجتمع من كل ثوابته وقيمه فيغلب على الأفراد شرب الخمرة والتسكع في الشوارع ومراودة الفتيات واختلاط الحابل بالنابل في مناسبات الفرح واتخاذ العشاق وبيع الذمم وتفضيل معاشرة الأسر اليهودية والمسيحية والتماهي كلية مع تقاليد المجتمع الغربي والولاء لكل ماهو غربي وكل ذلك رمز على تقدم الوطن وتحرره!!؟

وقد ارتفعت في مجال العمران – النزل السياحية والبنوك عاليا في سماء مدننا وقرانا لتأخذ بذلك مكان الصومعة والمسجد، وكل ذلك من شأنه أن يعطي انطباعا عاما بأن الرفعة والولاء قد تحول من الولاء لله ولدينه ولقرآنه ليصبح الولاء "للدينار وللغرب"، وقد صارت البيوت والمنازل عورة،وتبنى بطريقة لا يراعى فيها الحياء ولا أسرار الناس وبيوتهم ولا كون المرأة عرضا يجب أن يحفظ ويصان.

أما اللغة الفصحى فهناك من أصبح يتمعش بمحاربتها ويزعم أن اللهجة الدارجة المحلية أفضل وأنجع من لغة القرآن، اللغة التي كتب بها الجاحظ والمعري وابن سينا وابن خلدون...وغيرهم من جهابذة الحضارة الإسلامية، ولسان حاله يقول بفجاجة: "من أراد التقدم والرقي واللحاق بركب الحضارة الغربية فلايتكلم العربية الفصحى!" وقد صدرت حتى الآن – على حد علمي- صحيفتان أسبوعيتان ناطقتان كليا أو جزئيا باللهجة الدارجة وهما "الصريح" و"الأخبار" وقد صرح رئيس تحرير "الأخبار" في المدة الأخيرة على الهوائية (قناة تونس7) بأن اللغة الفصحى قد صارت في العصر الحديث عاجزة عن التعبير عن كل مشاغل الإنسان! وهنا يتبادر إلى الذهن، أي علم سنكتبه بلهجات تفتقد إلى المصطلحات العلمية والأدبية التي تشتمل عليها اللغة الفصحى بالإضافة إلى اختلاف هذه اللهجات من بلد إلى آخر، كما تختلف في البلد الواحد باختلاف مناطقه وأجيال أبنائه!! لقد استنبطت الشعوب هذه اللهجات الدارجة لتيسير التعامل اليومي فيما بين أفرادها وقضاء الحاجات اليومية البسيطة فكيف نسمح باتخاذها بديلا عن اللغة الفصحى للتعبير عن حضارتنا وإبداعاتنا وابتكاراتنا؟! وإني أتحدى كل من تحدثه نفسه باتخاذ اللهجات الدارجة أن يكتب مقالا بلهجة دارجة عن نظرية ابن خلدون مثلا في علم العمران البشري أو ابن سينا والرازي في الطب أو غيرهما من النظريات العلمية أو الأدبية!!

هذا بعض ما فعلته قوى الردة في تونس العزيزة ولا تزال تخطط وتجتهد وتتحرك في كل المجالات الثقافية والتعليمية والسياسية لتكريس واقع جديد يقضي على ما تبقى من هوية هذه الأمة لتقضي بذلك على أي أمل يمكن أن يراود هذه الأمة للنهوض مرة أخرى والتحرر من براثن الاستعمار والتخلف.

القدس العربي

العدد 2654 19 نوفمبر 1997

محمد بن سالم بن عمر

12، شارع الجمهورية، سيدي بوعلي 4040

الحمد لله

MMohamedsalembenamor21@yahoo.fr

Portable :(00 216)23038163

بسم الله الرحمان الرحيم

õإِنَهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارَ وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبَõ

طالعت في مجلة المنهل الغراء العدد (608) شهر سبتمبر /أكتوبر 2007 حوارا مع الدكتور محمد عمارة تحت عنوان :"الهيمنة الغربية تصنع أمراضنا..ويسعدني أن أبدي الملاحظات التالية بخصوص بعض المعاني والمفاهيم التي أبداها الدكتور فيما يخص أسئلة المجلة.

المنهل: يتحدث البعض عن موت الأمة الإسلامية، ترى ما مفهوم الأمة.. وما مقومات وجودها؟

يحدد الدكتور محمد عمارة مفهوم "الأمة" فيقول:"المسلمون أمة بمعنى جماعة.. تربطها وتجمع بينها وتوحدها عقيدة واحدة، وشريعة واحدة، حضارة واحدة..وهناك عنصر آخر هو دار الإسلام أو الوطن، هذه ثلاثة جوامع..على أساسها تكونت أمة إسلامية..وهي لا تزال موجودة إلى الآن بكل مكوناتها ومظاهرها منذ أن كونها الإسلام...

يلاحظ بادئ ذي بدء أن هناك خلطا في ذهن الدكتور محمد عمارة بين مفهوم الأمة ومقوماتها وبين حضارة الأمة وإبداعاتها، فالإسلام بما هو "دين الله وشريعته" قد دعا على لسان كل الأنبياء والمرسلين عليهم السلام إلى عبادة الله وحده دون شريك وإفراده بالطاعة والخضوع :"اعُبُدُوا الله مَا لَكُم مِنْ إِلاَهً غَيْرَهُ" وقد لبث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم (13) سنة كاملة يدعو قومه إلى وحدانية الله وإفراده بالربوبية والطاعة وكانت المحصلة (86) سورة مكية لغرس عقيدة التوحيد في نفوس المؤمنين بالله حتى إذا ما تم له ذلك كوّن عليه السلام "امة إسلامية" بالمدينة يتبع أفرادها الشريعة الإسلامية في علاقات بعضهم ببعض في جميع ميادين الحياة حتى كانت المحصلة (28) سورة مدنية محدّدة وضابطة لشريعة "الأمة الإسلامية" وبذلك يكون مفهوم الأمة في الإسلام يعني:"مؤمنون بالله ربا وخالقا وهاديا ومشرعا واحدا لا شريك له، تصطبغ كل مفاهيمهم عن الكون والإنسان والحياة بصبغة مفاهيم القرآن المنزل على النبي محمد صلى الله عليه وسلم".

فالأمة الإسلامية كائن حيّ فاعل ومنتج يشبه إلى حدّ بعيد الشجرة المباركة الطيبة أصلها ثابت لا يتغير (وحدانية الله وربوبيته ) وفرعها في السماء (الشريعة المنبثقة عن الله وكلماته) تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها (إنتاج الحضارة والمدنية).

إن حضارة الأمة الإسلامية هي نتاج مقوماتها الربانية الثابتة وليس جزءا من الشريعة أو العقيدة، فالعقيدة والشريعة الإسلامية قد اكتملت معالمها منذ اكتمال نزول الوحي"اليَومَ أَكْمَلتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيْتُ لَكُمْ الإسْلاَمَ دِينًا " (المائدة الآية 3) وتتلخص في "آمَنَ الرَسُولُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيهِ مِنْ رَبِهِ والمُؤْمِنُونَ كُلٌَ أمَنَ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبَهُ وَرُسُلَهَ لاَ نُفَرِقُ بَينَ أحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ" (البقرة الآية 285). وهي ثابتة لا تتغير بتغير الزمان والمكان لدى كل من أسلم وجهه للحي القيوم ومعلومة علما يقينيا كي "يخضع المؤمن لضوابطها ومعانيها بملء إرادته.." أما الحضارة فهي متغيرة ومتطورة لأنّها نتاج الأمة الإسلامية عبر مختلف العصور وما أبدعه بنوها في مختلف ميادين العمران البشري كالطب والجراحة والهندسة والفلاحة وعلم التاريخ والجغرافيا وتكنولوجيا الإتصال والتعليم والحرب..كما أن الحضارة تأتي نتيجة تراكمات معرفية وتجريبية وإنسانية في مختلف ميادين الحياة والعيش وتفاعل الإنسان مع مختلف العوالم المخلوقة لله ربّ العالمين. كما أنها قاسم مشترك بين كل البشر مهما كانت أديانهم وشرائعهم.

إن من بديهيات معنى توحيد الله أن يحيا الإنسان المؤمن والأمة المسلمة في أرض الله وتنتظم حياتهم في الأسرة والمجتمع طبقا لما يرضى الله. وما يرضي الله مفصّل في كتاب الله تفصيلا بينا، والتعامي على هذه الحقيقة تحول الإنسان مهما علا شأنه إلى أعمى لا يبصر وأصم لا يسمع وجاهل لا يعلم من حقائق الحياة شيئا.. فيعيش الإنسان في ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها وإن رآها يراها على غير حقيقتها، فتدلهم السبل أمامه وتقلب كل مفاهيم الحياة في ذهنه رأسا على عقب، ولا عجب بعد ذلك أن يرى مؤلف أكثر من 200 كتاب في فكر التجديد أن الأمة الإسلامية التي كونها الرسول محمد صلى الله عليه وسلم لا تزال "إلى الآن موجودة بكل مكوناتها ومظاهرها"! ! ؟؟

لقد أقام الرسول محمد صلى الله عليه وسلم سلطته على أرض المدينة المنورة/ أرض أنصار الله التي آمن جل سكانها بوحدانية الله خالق الكون والإنسان والحياة.. كما آمنوا بربوبية الله للمجتمع المسلم فهو المشرع الوحيد وهو مدبر الأمر كله وهو الحاكم لا معقب لحكمه وقد خلع المسلمون عنهم آنذاك رداء الجاهلية عقيدة وأخلاقا وعادات ومعاملات.. وقالوا لخالقهم ومدبر أمرهم بإيمان ويقين "سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرَ" وكانوا "يوفون بالنذر" و"يُؤْثِرُونَ عَلىَ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٍ" مما شكل منهم "خَيْرُ أُمَةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ" "تَأمُرُ بِالمَعْرُوفِ المُفَصَلِ فِي الذِكْرِ الحَكِيمِ وتنْهَى عَنْ المُنْكَرِ المذكور في القرآن وتؤمن بالله ربّ كل شيء الذي أمرها بالجهاد في سبيل إيصال كلماته وبصائره للناس كافة ومن ثم وراثة الأرض/كل الأرض التي وعدها الله عباده المتقين /الصالحين.

فالوطن لم يشكل في أي يوم جامع من جوامع الإسلام كما يزعم الدكتور محمد عمارة وإلا لما وصلت تعاليم الإسلام مصر أو شمال إفريقيا ..أو غيرها فالأرض في المفهوم الإسلامي كلها لله عزّ وجلّ وهي وقف على عباده الصالحين الذين يحتكمون إلى شرع الله عزّ وجلّ في كل صغيرة وكبيرة.. والأمة الإسلامية مطالبة _ إذا ما وجدت _ بالجهاد والقتال في سبيل الله حتى يكون الدين كله لله وتعم شريعته ورحمته أرض الله كلها.

إن العمى الفكري وغياب البصيرة القرآنية جعل الدكتور محمد عمارة يرى "أن الاختلاف سنة من سنن الله سبحانه وتعالى" وأن الأمة الإسلامية فيها "تنوع ديني.. شرائع وملل.." وكما ألمحتُ من قبل فإن شريعة الله واحدة لا تتغير ولا تتبدل لأنها مبنية على حقائق الكون والإنسان والحياة والحقائق لا تتغير ولا تتبدل "أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَطِيفُ الخَبِيرُ"

لقد علّم الله آدم الأسماء كلها وحقائق الأشياء ومعانيها وشرّع لأمة الإسلام ما وصى به كلّ الأنبياء عليهم السلام "شَرّعَ لَكُمْ مِنْ الدِينِ مَا وَصَى به نُوحًا وَالذِينَ أَوْحَينا إليكَ وَمَا وَصَيْنَا به إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أقٍيمُوا الدِيْنَ وَلاَ تتََفَرَقُوا فِيهِ"(سورة الشورى الآية 13).

إن أوامر الله ونواهيه ثابتة لا تتبدل ولا تتغير وبالتالي ليس هناك إمكانية للإجتهاد في الدين لأن الاجتهاد معناه استنباط أحكام جديدة تختلف باختلاف المجتهد كما أن الاجتهاد معناه الطعن في قول الله عزّ وجلّ "وَنَزَلْنَا عَليك الكِتًابَ تِبْيَانًا لِكُلِ شَيءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةٍ وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ" (سورة النحل الآية 89) وقوله عز وجل "وَمَا اخْتِلَفُتُمْ فِيهِ مِنْ شَيءٍ فَحُكْمُهُ إلىَ الله" (سورة الشورى الآية10 ) فالحلال بين والحرام بين ولا يعد الله إلا بما شرّع. واجتهاد الإنسان المؤمن يجب أن يقتصر على ما من شأنه أن يرتقي بنوعية حياته الاجتماعية والاقتصادية والعلمية... كاستنباط طرق ووسائل حديثة ومتطورة في ميدان الفلاحة والصناعة وتيسير تنقل الإنسان والمعرفة... وإحداث وسائل جديدة لطلب العلم والمعرفة...

ما سئل رسول الله (ص) في أمر يهمّ عقيدة المسلمين وشريعتهم في الأسرة والمجتمع والحياة إلا وكانت الإجابة قاطعة من الله عزّ وجلّ: "يَسْتَفْتُونَكَ قُلْ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الكَلاَلَةِ" (النساء الآية 176) "وَيَسْتَفْْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلْ اللهُُ يُفْتِيكُمْ فِيهُنَّ" (النساء 127) "قُلْ لاَ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنَ اللهِ وَلاَ أَعْلَمُ الغَيْبَ ولاَ أقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إَنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى والبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ" (الأنعام 50) "اتّبِعْ ما أُوحِيَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لاَ إلاَهَ إلاَّ هُوَ وأعْرَضْ عَنِ المُشْرِكِينَ" (الأنعام 106)،

فإذا كان الأنبياء عليهم السّلام مأمورون بإتباع الوحي وعدم أعمال العقل في أي مسالة تخصّ حياة المؤمنين لأنّ كتاب الله قد فصل القول في كلّ صغيرة وكبيرة.. فإنّ ألأوْلى بالمؤمنين عدم الاجتهاد في

أي مسالة تخصّ حياة المؤمنين الاجتماعية والاقتصادية والسياسية مادام كتاب الله قد فصل فيها القول تفصيلا...

لقد كان لهذه الفكرة الخاطئة "الاجتهاد في الدين" دور أساسي في ظهور الفرق والطوائف الدينية عبر مختلف أحقاب التاريخ الإسلامي... وقد ساهمت هذه الفكرة في تمزيق وحدة الأمة الإسلامية وتشرذمها إلى ملل ونحل متقاتلة.. متعادية مما حول "أمة الإسلام" إلى لقمة سائغة بيد "المغول والمستكبرين في الأرض" قديما وحديثا.

إن الأمة التي يدعو إليها الدكتور محمد عمارة أمة قد تبرأ منها الرسول الكريم وكل الأنبياء من قبله :"إِنَ الذِينَ فَرّقوُا دِينَهُم وَكَانُوا شِيعًا لَسْتُ مِنْهُمْ فِي شَيءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إلَى اللهِ ثُّمَ يُنْبِؤُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ"(الأنبياء الآية 159)

أخرجت معصية واحدة أبانا أدام من الجنة، فما بالك بمن يقدمون للناس مفاهيم مغايرة تماما لما قد فصّله الله في كتابه العزيز في آيات بيّنات لا يخطئ إدراكها وفهم معانيها من خلص عمله لله رب العالمين : إن مخالفة المعاني الواردة في كتاب الله قد أنتج "أُمَةٌ ميتة مزقوها إربا إربا باجتهادات ضالة عن هداية الله وأمة مزقوا وحدتها حتى صارت تحارب بعضها بعضا.. أمة حُرُماتها قد انتهكت من قبل أبنائها..أمة انتهكت حرماتها من قبل مفكرين صمّ بكم عمي شرّعوا للعصبيات والقوميات.. خلعوا لباس الإسلام على حُكّام لا يحكمون بما أنزل الله.. شرّعوا للعنف والقتل بدعوى "الجهاد" شرعوا للاصطفاف وراء ظلمة لشعوبهم.. خاضعين تابعين للهيمنة الغربية.. فهل يطمع أي مسلم صادق بأن يكون مفكرا مسلما دون تقصّي مفاهيم القرآن وإتباع مفاهيمه في كل صغيرة وكبيرة خاصة وأن الله قد أخبر المؤمن أنه "مَا فَرَطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيءٍ" و"كُلَ شَيءٍ فََصَلْنَاهُ تَفْصِيلاً"

"وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَلْنَاهُ عَلَى عِلْمِ هُدًى وَرَحْمَةٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُوُنَ" (الأعراف الآية 52).

المؤلف:

محمد بن سالم بن عمر مولود في 15 أكتوبر 1969

أصيل سيدي بوعلي ولاية سوسة متزوج و له بنت

خريج المعهد العالي للتنشيط الثقافي

له مساهمات عديدة في النقد و الإبداع و المقال الفكري\ الحضاري

صدر له كتاب اللسان العربي و تحديات التخلف الحضاري في الوطن العربي الإسلامي عام 1995

...................................

إن مجابهة هذه التحديات و غيرها تبدأ بتجديد الثقافة الإسلامية الصحيحة المبنية على الثوابت الالاهية الحقة انطلاقا من ثوابتنا القيمية و الحضارية و مفاهيمنا الإسلامية المبثوثة في ثنايا الذكر الحكيم, إذ لا يعقل أن نجابه مفاهيم الزيف الحداثي والعولمة بمفاهيم عصور الانحطاط البالية في تاريخنا الإسلامي, و دون أن نطور مفاهيمنا و نصححها و نجعلها تاخذ بالألباب كما أخذت بالباب رجال الجاهلية الأولى لانبنائها على الحق و النور الإلهي.

....

إن أخذ كل هذه الشروط و الاعتبارات لمواجهة كل مشكلاتنا الحياتية و الحضارية من شأنه أن يعيد لنا القدرة علي الفعل و التحفز أكثر على الإنجاز واختراق الأفاق و بلوغ ما وراء العرش تطورا و ازدهارا و تقدما حتى نكون أهلا لقيادة مسيرة البشرية من جديد.

الإسلام وتحديات القرن 21

في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي كانت حركات الاستعمار الكبرى للعالم الإسلامي تركز قواعدها في الهند ومصر والجزائر وتونس و السودان.. كحلقة أخيرة من حلقات تطويق العالم الإسلامي و الانقضاض على ثرواته و نهبها. و كان قد مهد لهدا الاستعمار بغزو حضاري نشيط, ابتدأه و ألهب شرارته الأولى في ديار الإسلام ما يسمون عندنا« بزعماء الإصلاح العرب»! و هكذا تراجعت الرابطة الإسلامية كشكل من أشكال البناء السياسي القائم أمام ضربات الاستعمار الموجعة و قد توج ذ لك بسقوط الخلافة الإسلامية العثمانية عام 1924م على يد كمال أتاتورك.

لقد تمزقت الوحدة الإسلامية خلال القرن العشرين و تنازعت الدول الكبرى ميراث الإسلام و سيطرت على أضخم قواعده ومقدراته و اندفعت الحركة الصهيونية العالمية من خلال مخططات الاستعمار تسيطر على فلسطين و تجعل من احتلال بريطانيا للقدس مقدمة لسيطرتها عليها بعد خمسين عاما.

و لقد قاوم المسلمون في معارك حاسمة في أجزاء مختلفة من العالم الإسلامي في أفغانستان و القرم ومصر و سورية و الجزائر و العراق و باكستان و حققوا بعض الانتصارات و تحررت البلاد الإسلامية من نفوذ الاستعمار العسكري المباشر و انبعثت من قلبه « حركة تنويرية تحررية» بعد طول سبات.

غير أن حركة التنوير و التحرر لم تلبث أن واجهت عقبات كأداء في العقود الأخيرة من القرن الماضي و بداية هدا القرن الجديد, فقد تحالف الاستعمار الغربي و الصهيونية من اجل ضرب حركة التنوير و التحرر و دفعها للانحراف عن ثوابتها الإسلامية و مفاهيمها القرآ نية.. و من ثم فان اخطر التحديات في السنوات الأخيرة تتمثل في الحفاظ على الذاتية الإسلامية و حماية الهوية الثقافية لشعوبنا الإسلامية, و تطوير هياكلها و تحرير العقل المسلم من الجمود الفكري و من الأخطار الفكرية والمفاهيم الثقافية المنحرفة عن هداية الله التي تلقى إليه عن طريق وسائل الإعلام و الاتصال المختلفة و التبشير و الاستشراق و الشعوبية من اجل اذابة الهوية الحضارية لامتنا الإسلامية لدعوى "الحداثة" و" العولمة" و" العلمانية" و"اللائكية"... وهي دعاوى وان اختلفت مسمياتها إلا أنها تتفق على أن يترك المسلمون ثوابت دينهم الإسلامي و مفاهيم قرآنهم المتطابقة مع حقائق الكون والإنسان و الحياة و تغييرها بفلسفات مريضة و تيارات جانحة منحرفة من الفكر و الثقافة و الاعتقاد و نظرة خاطئة لحقيقة الألوهية و القدر حتى يسهل للغرب الاستعماري بعد ذلك السيطرة علينا و نهب ثرواتنا و استغلال شعوبنا و إخضاعها لاطروحاته المعادية لكل مصالحنا...

هذا هو التحدي الكبير الذي يواجهه المسلمون في بداية هذا القرن !؟ فالقضاء على أصالة هذه الأمة و كيانها الفكري و الروحي هو مقدمة لتحقيق مآرب الصهيونية اللقيطة في الاستيلاء على ارض المسلمين و خيراتهم بمساندة الغرب الاستعماري و على رأسه الولايات المتحدة الأمريكية المتصهينة!؟.

إن كل هؤلاء لا يخفون عداءهم لحملة الراية الإسلامية الذين اختاروا طريق الأنبياء و الصالحين في الانتصار للحق و إعلاء كلمة الله والتمكين لشريعته في الأرض... و هذا العداء تتفق عليه مختلف تشكلانهم الثقافية و السياسية و العسكرية...

و خلاصة ما يسعى إليه الغرب الاستعماري بمعية الصهيونية العالمية اللقيطة هو التدجين و الاحتواء. و لعل ابرز التحديات التي واجهت المسلمين لتدجينهم و احتوائهم تتمثل في تحريف مفهوم الإسلام و تشويهه و إخراجه من طابعه المتكامل الجامع بين الدنيا والآخرة – إذ أن حياة المسلم وكل أعماله في الحياة الدنيا هي عبادة و تقرب لله رب العالمين في المنظور الإسلامي - اذا ما اهتدت أعماله و كل سلوكياته بهدي القرآن العظيم - متهمين شريعته بالتخلف والرجعية ! و نادوا بعزله عن الحياة كما فعل اليهود و المسيحيون من قبل و الذين اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا من دون الله يشرعون لهم و يحددون لهم مفاهيم الحياة البعيدة كل البعد عن حقائق الوجود..! و دعوا إلى "اللائكية" و" العلمانية" بديلا عنه!؟ كما استغلوا جهل العامة و الخاصة – من النخب المتغربة - بأهمية الشريعة الإسلامية و المفاهيم الإسلامية في الحفاظ على مكتسبات الأمة المسلمة و حماية النفس البشرية و الكيان الاجتماعي من السقوط و الانهيار و نادوا بالتحلل منها و استبدالها بقوانين الغرب و شريعته - والتي حولت العالم إلى غابة وحوش ضارية يأكل القوي فيه الضعيف!؟- رغم عدم انسجامها مع خصوصيتنا الحضارية وقيمنا الثقافية و مفاهيمنا الإسلامية !؟ ثم امتدت دعوة التغريب فزيفت المفاهيم و حرفت الكلم عن مواضعه و شوهت المبادئ التي أقامت الحضارة الإسلامية و أوصلتها إلى أقاصي الأرض و استمد منها المسلمون القوة على الصمود و القدرة على الفعل و بناء القوة و العزة و الحضارة لردح طويل من الزمن.. و يمكن حوصلة الهجمة الغربية – الصهيونية على الإسلام في النقاط التالية:

* محاربة الإسلام بنظريات زائفة كالتي تزعم أن الدين ليس سوى الانعكاس الواهم في دماغ البشر للقوى الطبيعية التي تسيطر على وجودهم اليومي (نظرية كارل ماركس).. كما شكلت مصنفات ما يسمون بفلاسفة الأنوار في القرن الثامن عشر ميلادي أرضية خصبة لمحاربة الدين عامة و الفكر الإسلامي خاصة, من بعد ما تبنته نخبة هامة من" زعماء الإصلاح" في البلاد الإسلامية, و لم يدرك هؤلاء أنهم كانوا يحفرون مقابر حضارتهم الإسلامية بأيديهم!.

* محاربة القيم و المبادئ الإسلامية و كل القيم النبيلة التي تنسجم مع فطرة الإنسان السوي, بدعوى أنها قيما نسبية و متغيرة, و مرتبطة بالبيئات و العصور و تختلف باختلاف الحضارات!.

* الدعوة إلى هدم الأسرة باعتبارها من مخلفات المجتمعات الإقطاعية و عصور الانحطاط والتشجيع على العلاقات المنحرفة كاللواط و السحاق والإجهاض كحل لبعض المشكلات الأسرية.

* الدعوة إلى قيام العلاقات البشرية على أساس المصالح المادية و العرقية و الاثنية و إثارة العصبيات الطائفية و العرقية..

* محاربة اللغة العربية الفصحى, لغة الإسلام الأولى و لغة القرآن الكريم لإدراكهم الارتباط الوثيق بين اللغة العربية و الدين الإسلامي و مجد ووحدة المسلمين, و قد عملوا جاهدين على ترويج الدعاوى التي تتهم اللغة العربية الفصحى بالعقم و البداوة و القوا عليها مسؤولية التخلف الحضاري للمسلمين و رفعوا شعار « من أراد التقدم و الرقي فلا يتكلم اللغة العربية » زاعمين بعدم استجابة الفصحى للحضارة الحديثة و أنها لا تستوعبها و هي عسيرة على من يتعلمها ؟!

* اعتماد مناهج تربوية بعيدة كل البعد عن المنهج الإسلامي في تربية الإنسان المسلم المثبت من الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا و في الآخرة, المستضيء بنور الله الذي لا يخبو أبدا« قل إن صلاتي و نسكي و محياي و مماتي لله رب العالمين ».

* خلق مفهوم صراع الأجيال حتى يسهل بعد ذلك دفع الشباب إلى الانهيار و التمزق في ظل فراغ نفسي وفكري و ثقافي و عطش روحي.... و قد تخفوا وراء مذاهب و نظريات منحرفة مغرضة اثبت العلماء المحايدون تفاهتها و عدم ارتكازها على حقائق علمية ثابتة و انبناؤها على الظن و التخمين و ليس لها أية صلة بالواقع, بل و قدرتها الفائقة على تخريب عقول الناشئة و صنع الرجال الجوف !

إن مجابهة هذه التحديات و غيرها تبدأ بتجديد الثقافة الإسلامية الصحيحة المبنية على الثوابت الالاهية الحقة انطلاقا من ثوابتنا القيمية و الحضارية و مفاهيمنا الإسلامية المبثوثة في ثنايا الذكر الحكيم, إذ لا يعقل أن نجابه مفاهيم الزيف الحداثي و العولمة بمفاهيم عصور الانحطاط البالية في تاريخنا الإسلامي و دون أن نطور مفاهيمنا و نصححها و نجعلها تاخد بالألباب كما أخذت بالباب رجال الجاهلية الأولى لانبنائها على الحق و النور الإلهي.

سنن إقامة الحضارات

« زمن الانحطاط العربي » مقولة مختصرة لكنها معبرة, تعبر عن المرارة التي أضحى يشعر بها المفكر في البلاد الإسلامية وهو يرى أن الأوضاع الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية... تزداد سوءا وانتكاسا على مر الأيام.

يحدث كل هذا بعد أن شهد ت البلاد الإسلامية جمعا من المصلحين والمفكرين الذين تخصصوا في شتى المجالات (1)

إن هذا الوضع الذي آلت إليه حالنا يحتم علينا أن نطرح السؤال التالي: ماهي الأسباب الكامنة وراء فشل البرامج الإصلاحية التي أخذت تظهر منذ مطلع القرن التاسع عشر الميلادي! ؟

أسباب الفشل:

إن المتتبع لمؤلفات رواد النهضة في بلادنا الإسلامية يلاحظ أن الانبهار بما حققته الحضارة الغربية كان عظيما في نفوسهم و الانشداد إلى النمط الغربي في الحياة واضحا و جليا ( 2 ) و هذا الانبهار بمنجزات الغرب جعلهم يتخذونه قدوة ومثالا, فكان النمط الغربي النهضوي حاضرا لدى جل هؤلاء الرواد( 3 ) لذلك جاءت برامجهم الإصلاحية و تنظيراتهم تنقصها الدراسة العلمية المتأنية التي تراعى فيها الملابسات و الظروف التي أدت بأمتهم الإسلامية إلى حالة من التخلف و الانحطاط الحضاري.

و لا عجب بعد دلك أن نجد منهم من يدعو إلى « أن نسير سيرة الاروبيين و نسلك طريقهم لنكون لهم أندادا و لنكون لهم شركاء في الحضارة خيرها و شرها وحلوها و مرها وما يحب منها وما يكره و ما يحمد منها و ما يعاب » (4)

إن الصفة المشتركة التي جمعت زعماء الإصلاح هي« افتقار الشعور بالعزة بهويتهم الحضارية الإسلامية, و الانبهار الكلي بالغرب » وهذالانبهار قد أعشى أبصارهم أن ترى الدرب القويم و النهج السليم لنهضة أمتهم الإسلامية و بناء حضارة إسلامية جديدة تليق بخير امة أخرجت للناس وقد كلفها ربها بان تكون شاهدة على الناس إن هي استمسكت بالنور الذي انزله الله عليها – القرآن - و التاريخ« يعلمنا انه ما من مدنية تستطيع أن تزدهرأو تظل على قيد الحياة اذا هي خسرت إعجابها بنفسها و صلتها بماضيها » (5 ).

نظرة تاريخية

الإسلام و مرحلة الفكرة والمفاهيم الجديدة:

جاء الإسلام معلنا منذ بداية نزول الوحي على الرسول محمد صلى الله عليه و سلم عن بداية ظهور نظرة مغايرة لما هو سائد بين البشر و مفاهيم جديدة للكون و الإنسان و الحياة, تختلف جذريا عما تعلمه الإنسان من مصادر بشرية و معلنا بوضوح مخالفته لسائر التصورات( البشرية المساوية للجاهلية في المنظور القرآني ): ثقافتها و معتقداتها أخلاقها و معاملاتها, نظمها و تشريعاتها اقرأ و ربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم » (سورة العلق الآيات 3 و 4 و5).. ليبرز بعد عملية الهدم مباشرة شخصيته المستقلة بكل أبعادها العقائدية و ا لتشريعية و مختلف تصوراتها و طموحاتها على أنقاض الجاهلية ={ كل مفاهيم الإنسان عن الكون و الإنسان و الحياة التي تخالف المفاهيم الالاهية ) والتي أعلن الحرب عليها منذ الوهلة الأولى:« كلا لا تطعه و اسجد واقترب » ( سورة العلق وهي أول ما نزل من القرآن الآية 19).

إن مراجعة بسيطة للنهج الذي اتبعه الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون في إحداث التغييرات الجذرية التي هزت جزيرة العرب يلاحظ ما يلي:

- بداية نزول الوحي على الرسول صلى الله عليه و سلم في غار حراء و قد حمله ربه مسؤولية التبليغ و إيصال ما سيوحى إليه من قيم و مبادئ ومفاهيم جديدة عن الكون و الإنسان و الحياة إلى الناس كافة بدءا بالعشيرة الاقربين.

- الجهر بالدعوة الإسلامية و تحمل الاذى و الصبر على تعنت الكفار و إجرامهم في حق أتباعه من المؤمنين برسالته.

- نزول ما سمي ( بالقرآن المكي ويعد 86 سورة ) وهو في جملته آيات قصيرة تعالج قضايا توحيد الله و تحارب الشرك بالله بمختلف تشكلانه و تشير إلى مواطن الفساد في الحياة الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية و ترد على بعض شبهات أهل الكتاب و مزاعم أهل مكة و تندد بتصرفاتهم المنحرفة و تصحح مفاهيم البشر عن الألوهية الحقة و الربوبية الصحيحة و التي لا تجوز الا لخالق الكون و الإنسان و الحياة العليم الخبير الذي يعلم غيب السماوات و الأرض... فالقرآن المكي كان يدعو إلى – فكرة جديدة و مفاهيم مغايرة لمفاهيم البشر– لتحل محل الفكر و المفاهيم و المعتقدات الجاهلية في ذهن المتقبل حتى تؤثر في فكره و وجدانه تمهيدا للانتقال به إلى مرحلة أخرى قادمة.

- كان الرسول صلى الله عليه و سلم يدعو أصحابه الذين امنوا بدعوته بالصبر على الاذى و التنكيل الذي كانوا يتعرضون له على يد كفار قريش و عدم الرد بالعنف على الاضطهاد الذي كان يسلط عليهم – رغم استعداد بعض الصحابة للقيام بذلك... و لما اشتد الاضطهاد على بعض الصحابة نصحهم عليه الصلاة و السلام بالهجرة إلى الحبشة لان بها ملكا لا يظلم الناس عنده أبدا.. وقد استمر الرسول و أصحابه في الاستمساك بالمفاهيم الالاهية الجديدة و الالتزام بالدعوة إلى الله بالحكمة و الموعظة الحسنة و مجادلة الكفار و المشركين و كل المناوئين بالتي هي أحسن. ولم يسجل لنا القرآن أو المؤرخون أن أحدا من الصحابة قد كون عصابة للرد على اضطهاد قريش أو تحرير البيت الحرام من أيدي كفار مكة و مشركيها.. بل كان سلاح المؤمنين الوحيد: الدعوة إلى الإسلام الحق و الجهاد بآيات القرآن الكريم والتي تحمل المفاهيم الجديدة و إبلاغها إلى مسامع المشركين و الصبر على ا ذاهم امتثالا لأوامر الله في القرآن المكي- سور القرآن التي أوحى الله بها إلى الرسول صلى الله عليه و سلم بمكة -.

- ثم جاءت حادثة الإسراء بالرسول محمد صلى الله عليه و سلم لتتوج المرحلة المكية *مرحلة الفكرة و المفاهيم الجديدة*, و أهم ما يمكن استخلاصه من حادثة الإسراء هو بداية تلقي المسلمين لبعض التشريعات و العبادات كالصلاة

و هي تشريعات عملية تستوجب توفر الأمن للقيام بها وهو ما يعني حدوث نقلة نوعية كبيرة, لان المرحلة المكية التي سبقت حادثة الإسراء تميزت بتركيز القرآن على المعتقدات الإسلامية و المبادئ الذهنية و المفاهيم الجديدة عن الكون

و الإنسان و الحياة الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية و القيم الأخلاقية و محاربة التمظهرات المتنوعة للكفر و الشرك و التشهير بانحرافات زعامات قريش العقائدية والاقتصادية و الاجتماعية و غيرها.. وهذايعني أن حادثة الإسراء كانت بمثابة التمهيد للإعلان عن انتقال المسلمين من مرحلة «الفكرة» إلى مرحلة « الدولة».

الإسلام و مرحلة الدولة:

بعد حادثة الإسراء أمر الرسول صلى الله عليه و سلم بالهجرة إلى المدينة, و قد مهد عليه الصلاة و السلام لهجرته و هجرة أصحابه عندما التقى بالأنصار – الاوس و الخزرج- و اخذ منهم عهدا بحمايته و حماية أصحابه و نصرة الدين الذي بعثه الله به إلى الناس كافة و كان قد سبقه بعض صحابته إلى المدينة لتوضيح الغامض من دعوته..

- في المدينة أصبح للمسلمين ارض آمنة وقد امن جل أهلها بالرسالة الإسلامية و ثروات متعددة و قوة مادية استطاع الرسول صلى الله عليه و سلم بما اوتيه من حكمة الاهية و بصيرة قرآنية من أن ينشئ منهم مجتمعا مسلما يعتنق العقيدة الإسلامية و يحتكم إلى الشريعة الإسلامية في علاقات إفراده بعضهم ببعض و تنتظم علاقاته وفق التصور الإسلامي والمفاهيم الإسلامية في الأسرة و المجتمع و علاقاته الداخلية و الخارجية... ثم كون الرسول\القائد جيشا قوامه مؤمنون باعوا أنفسهم و أموالهم لله رب العالمين مقابل الفوز بجنة عرضها السماوات و الأرض..« إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم و أموالهم بان لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون و يقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل و القرآن و من أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم »(-سورة التوبة الآية 111)... إن تكوين الجيش الإسلامي جاء بعد تكوين الدولة الإسلامية لحمايتها من الأعداء المتربصين.

- و لم يمر زمن طويل حتى اذن للذين أوذوا في سبيل الله بالقتال و استعمال السلاح لاسترجاع حقوقهم المنتهبة من الكفار و المشركين و صد عدوانهم و مكرهم بالمسلمين..

- في مرحلة تالية بدا المسلمون- بقيادة رسولهم عليه الصلاة و السلام - يفكرون في نشر الدعوة الإسلامية خارج حدود دولتهم الفتية, و بدا الرسول\القائد السياسي و العسكري في بعث السرايا و الجيوش إلى مختلف الأصقاع لفتحها و نشر الإسلام فيها حتى تعم رحمة الإسلام الناس كافة.. استجابة لنداء "القرآن المدني".

إن هذا التسلسل الذي اتبعه الرسول\القدوة صلى الله عليه و سلم و أصحابه في نشر الدعوة الإسلامية و من ثم بناء الحضارة رغم وضوحه في السيرة النبوية ( 6 ) قد تغاضى عنه المسلمون في العصر الحديث فغابت عنهم الأولويات مما أوقعهم في المحظورات و أبعدهم عن هداية الله.

الرأسمالية الغربية

لقد مثلت الحداثة الغربية – قطيعة تامة بين عهود الظلام السابقة و بين ما سمي بفلسفة الأنوار التي نادت بتحرير الإنسان من سلطة الكنيسة و جبروتها و حرضته على امتلاك زمام أموره و كسر القيود الذي فرضته عليه عهود من الجهل و الانحطاط, فلقد استفاق الاروبيون فوجدوا ركاما ضخما من التجارب و المعارف التي خلفتها حضارات عديدة بما فيها الحضارة الإسلامية, فأغراهم ذلك بالتمعن فيها بحثا عن السبيل الموصل إلى البناء الحضاري و التقدم و التحرر من جهالات رجال الدين عندهم. وما انفك هذا الشعور يتنامى في اروبا منذ القرنين الحادي عشر الميلادي و الثاني عشر خصوصا في فرنسا وايطاليا...

وانتبه الغربيون بعد هيمنة طويلة فرضتها الكنيسة الكاثوليكية و اثر تزايد قهر الأباطرة, و صار بعض المفكرين يتحسسون طريق الخلاص من تبعات عصور الانحطاط. و كان لتظخم ممارسات الكنيسة الكاثوليكية ولاستفحال السياسة القهرية التي ينتهجها الأباطرة دور كبير في تصعيد الاستياء و تنمية رصيد الشعور الرافض بعد يقين عمقته الملاحظة بان ممارسات الاكليروس و مقررات البابا فاقدة

للمصداقية لأنها تتضارب مع حقائق الوجود و تطلعات الإنسان نحو الانعتاق... فهي تفرض وصايتها عليه!؟ و كان للجامعات أللاهوتية التي وقع بعثها في بعض أقطار اروبا كالسربون مساهمات في المجال المعرفي و تأثيرات حتى في الكنيسة ذاتها( 10 ).

إن فقدان الشرعيات الدينية مصداقيتها ليس فقط بالنسبة إلى بعض المثقفين... و لكن في الشرائح العريضة للمجتمعات الغربية بأسرها هو الذي ولد مفهوم العلمانية الداعي إلى تخليص قطاعات المجتمع والثقافة من سيطرة المؤسسات الدينية و نواميسها.. و قد سعى مفكرو عصر الأنوار( 11 ) إلى تنوير الشعب و تحريره من ظلم الكنيسة و جبروتها, فرفعوا في وجه الكنيسة التي كانت تبيع صكوك الغفران – "اللائكية", و في وجه رجال الدين و استغلالهم للشعب باسم الرب, رفعوا" الحرية و الإخوة و المساواة"..

إن إزاحة الغربيين لتأثيرات الكنيسة عن مجرى حياتهم نظرا لما أصبحت تمثله من عقبات كأداء أوجد لديهم الحافز القوي على البحث و التنقيب و استنباط النظم السياسية و الاقتصادية و النظريات العلمية والمعرفية و غيرها بمعزل عن تأثيرات قرون من التخلف و الجهل.. و الذي ساهمت فيه بقسط وافر قناعات رجال الدين المسيحي الضالة عن وحي الله و كلماته في التوراة و الإنجيل و القرآن..

الماركسية

عاش ماركس( 1818- 1883) ضمن المجتمع البرجوازي, و عاين عن قرب أوضاع العمال المتردية, ذ لك أن العامل رغم قيامه بالعمل و الإنتاج إلا انه لا يتمتع بثمار سواعده, حيث أصبحت الطبقة البرجوازية الرأسمالية هي المالكة" بل المغتصبة لما ينبغي أن يكون ملكا للعمال من وسائل الإنتاج "... يقول ماركس في معرض تحليله للأوضاع المتردية التي أفرزتها الطبقة البرجوازية:« إن البرجوازية لم تكتف بصناعة الأسلحة التي سوف تؤدي إلى فنائها بل أنجبت الرجال الذين سوف يستعملون هذه الأسلحة – اعني بهم عمال العصر الحديث - الذين يؤلفون البروليتاريا و كلما ازدادت قوة البرجوازية أي راس المال ازداد نمو البروليتاريا, تلك الطبقة التي تضم العمال الذين لا تتوفر لهم أسباب العيش إلا اذا وجدوا عملا, و لا يحصلون عليه إلا اذا كان هذا العمل منميا لراس المال. فهؤلاء العمال الذين يضطرون إلى عرض أنفسهم للبيع يوميا هم معرضون نتيجة لذلك إلى كل تقلبات المنافسة التي تعتري السوق... لقد صار العامل فقيرا و تفاقم الفقر بسرعة تفوق سرعة نمو السكان و تراكم الثروات... فمن البين إذن أن البرجوازية لم يعد في امكانها القيام لمدة طويلة بدور الطبقة المسيرة (7 ) تكشف لنا هذه الوثيقة عن وعي ماركس بالظلم والحيف الاجتماعي الذي يعاني منه العمال في مجتمع تسوده الأنانية و الاستغلال و سلوك كل السبل للإثراء و لو على حساب فقر الملايين من العمال.لا تهمنا هنا تحليلات ماركس و تنبؤاته الخاطئة فذاك أمر آخر! ما يهمنا هوالموقف الفكري و السلوك الحضاري الذي انتهجه تجاه واقع معين... تبنى ماركس اذن هموم العمال و مشاكلهم, وسعى إلى إنشاء منظومة فكرية تمثلت في نظريته – المادية التاريخية – ذلك أنها تقوم على مبدأين أساسيين: هما المادية المنطقية و المادية التاريخية. ذلك أنها تنظر إلى المادة على أنها أساس كل أمر في الحياة, و أن البشرية مسيرة في مختلف أطوارها بتأثير المادة فقط (8) يقول ماركس موضحا ذلك: « إن الأفكار لا يبتدعها دماغ الإنسان... و هذا الدماغ ليس إلا مادة دقيقة التركيب وهو جزء من الجسم يعكس مؤثرات العالم الخارجي »(9).

شن ماركس و أتباعه حملة منظمة ضد النظام الرأسمالي و كل مبادئه و قيمه طارحين بدائل أخرى و قيما جديدة, و مبشرين بإيجاد جنة أرضية يحكمها الكادحون و العمال والفقراء – ففي جريدة البرافدا ركز لينين حملاته تحت شعار: « كل السلطة للسفيات * الأرض للفلاحين... الخبز للجائعين...

و في أكتوبر سنة 1917 قامت الثورة البلشفية, الثورة التي أنبنى على أساسها ما كان يسمى بالاتحاد السوفيتي..

بعد هذا الاستعراض السريع لثلاث حضارات مختلفات.. نعود لنطرح على أنفسنا السؤال التالي: ماهي السنن و القوانين التي تتحكم في إقامة الحضارات الإنسانية ؟

بناء الحضارة:

إن استقراءنا للحضارة الإسلامية و الحضارة الغربية بشقيها الرأسمالي و الماركسي يمكننا من بلورة السنن و القوانين التي تتحكم في إقامة الحضارات في النقاط التالية:

1- فكرة إنسانية سامية:

وهذه الفكرة يمكن أن تكون دينا سماويا أو بشريا أو منظومة اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية... تحمل في طياتها صفة العالمية و استطاع مفكرو الشعب أن يقنعوه بان فكرته التي يتبناها هي أسمى فكرة على الإطلاق وأن هذه الفكرة لا تحمل سعادته هو فقط بل مرشحة لإنقاذ البشرية كافة, و تستحق هذه الفكرة أن يضحي الشعب من اجلها و يغامر حتى تتجسد على ارض الواقع, ثم نقلها إلى بقية شعوب العالم لتستفيد منها و تخرجها – من الظلمات إلى النور- و من الاستغلال إلى التمتع بخيرات الحياة و طيباتها... و من الجور و الظلم إلى العدل و المساواة... و من ظلمات القرون الخالية إلى نور الحياة و رفاهيتها.إن أي برنامج إصلاحي أو منظومة فكرية عاجزة عن تحقيق النهضة المنشودة في الشعوب إن لم تكن تحمل في طياتها هذه السمة, و عجزت عن إقناع الشعب الذي يتبناها بسموها و تفوقها على كل الأفكارو المنظومات الأخرى.

2 - تقزيم الخصم و الحط من فكره و قيمه( 12)

و هذا القانون هو مواصلة للقانون الأول في شروط إقامة الحضارات: إن تقزيم الخصم و الحط من قيمة منظومته الفكرية عملية تأتي مواصلة للعملية الأولى

و هدفها الوصول بالشعب المراد إنهاضه إلى مرحلة الشعور بالعزة و هذا الشعور يأتي كنتيجة حتمية لاعتقاد هذا الشعب بسمو فكرته و معتقداته و منظومة القيم التي تحكمه و التي تفوق في سموها جميع القيم و المعتقدات و المفاهيم الأخرى, بل قد لا يعطي هذه المفاهيم أهمية البتة ما دام يملك ما هو أسمى.. و هذا يرتبط ارتباطا وثيقا بمدى تماسك أفكاره و صدقها و تطابقها مع الواقع و قدرتها على الإقناع ومدى اعتقاده فيها و حنكة مفكريه و قدرتهم على تشويه الخصم و أفكاره و معتقداته..

نخلص إلى القول بأنه متى توفرت لدى أي شعب من شعوب الدنيا منظومة فكرية تحتوي على فكرة سامية و اقتنع هذا الشعب بأنها أعظم فكرة على الإطلاق في تلك الفترة من الزمن و اقتنع بوجوب نشرها و التضحية في سبيل إيصالها إلى الشعوب الأخرى... عندها يبدأ ذلك الشعب بصفة تلقائية يسير رويدا رويدا نحو النهضة و من ثم تكوين حضارة متفوقة على ما عداها من الحضارات القائمة... و السبب في ذلك يعود إلى أن إدراك هدا الشعب لسمو فكرته و عالميتها يدفعه إلى البحث و التنقيب في كل المجالات الحياتية و العلمية لإثبات سمو فكرته عمليا للآخرين كي يعتنقوا مثله القيم التي يؤمن بها من جهة, و إقناع خصومه بتفاهتهم و محاولة " تقزيمهم" أمام عظمة فكرته و تكاملها و قدرتها على إسعاد الناس جميعا. كما تدفعه إمكانية مواجهة الخصم ماديا إلى الاعتناء بالمجال الاقتصادي و الصناعي و تكوين جيش قوي لمجابهة كل التحديات الممكنة و التي يمكن إن تهدد فكرته..

و هكذا تبدأ حضارة هذا الشعب صاحب الفكرة و المفاهيم السامية الجديدة في صعود, أما أصحاب الحضارات الأخرى, إن كانت هناك حضارة قائمة فإما أن ينظموا إلى أصحاب الحضارة الصاعدة و يعتنقوا فكرتها السامية و يساندوها و يدعموها بمعارفهم و بالتالي تصبح إنجازاتهم تنتمي إلى الحضارة الجديدة. و إما أن يتزعزع اعتقادهم في فكرتهم التي بنوا عليها حضارتهم, فيفتقدون بذلك الحماس القادر على تمكينهم من مواصلة الإبداع و بناء الحضارة, عند ذلك تبدأ حضارتهم في أفول مستمر... و تضعف قوتهم المادية و المعنوية شيئا فشيئا أمام القوة الصاعدة و الحضارة الجديدة. . كما يصبح الشعب صاحب الحضارة الآفلة مقلدا لظواهر و سلوكيات صاحب الحضارة الصاعدة, اعتقادا منه أن هذا التقليد قد يعيد فيه الحيوية من جديد – لكنه يبقى كالذي يريد أن ينجو من الغرق و ما هو بناج, لأنه كلما اغرق في التقليد ابتعد أكثر عن إمكانية الشعور بالعزة, فتتبعثر أموره و تتذبذب حاله و يصبح كالكلب إن تحمل عليه يلهث و إن لم تحمل عليه يلهث..

الخاتمة

ظل " المفكرون و زعماء الإصلاح " في البلاد الإسلامية يعتقدون طويلا بان الأنظمة و التشريعات السياسية والاجتماعية هي التي ستنهض أمتهم من كبوتهم, فاقتبسوا أنظمة الغرب و تشريعاته, لكن دون جدوى... و ما دروا انه على الرغم من تنوع الأنظمة و التشريعات قامت الحضارات العديدة في التاريخ الإنساني .

إن القوانين و التشريعات ما هي إلا شكل من أشكال التنظيم في المجتمعات البشرية و تنبع عادة من حاجيات هذه المجتمعات و طموحاتها و تنبثق عن منظوماتها القيمية و الفكرية ومفاهيمها عن الكون و الإنسان و الحياة .. و ليس هناك أي سند تاريخي أو واقعي يدل على أن الحضارة تبنى نتيجة لهذه القوانين و النظم و التشريعات و إنما هو التباس الأوضاع و ضبابية الرؤيا.

-----------------------------

المراجع

1* ( أمين) احمد: زعماء الإصلاح في العصر الحديث بيروت – دار الكتاب العربي 1979.

- ( شرابي) هشام: المثقفون العرب و الغرب بيروت – دار النهار 1973.

2* انظر كتاب الرحالون العرب و حضارة الغرب في النهضة العربية الحديثة د نازك سابايارد الطبعة الأولى 1979.

3 *نفس المرجع

4 *مستقبل الثقافة بمصر د طه حسين .

5 *الإسلام في مفترق الطرق تعريب عمر فروج .

6*راجع مثلا: دراسة في السيرة للدكتور عماد الدين خليل, مؤسسة الرسالة, الطبعة الخامسة 1981.

7* كارل ماركس" بيان الحزب الشيوعي"

8*(يكن) فتحي:كيف ندعو إلى الإسلام ص55

9*خفاجي المحامي (عبد الحليم ) حوار مع الشيوعيين في أقبية السجون ص55

10*المرجع. العلمانية و انتشارها غربا و شرقا ,فتحي ألقاسمي – سلسلة موافقات –الدار التونسية للنشر – فيفري 1994)

11*فولغين( ف) فلسفة الأنوار- بيروت – دار الطليعة ط1981

12*يقول الله عز وجل : « الله ولي الذين امنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور و الذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون » - ( سورة البقرة الاية257 )

* و يقول فولتير احد زعماء التنوير الاروبي: إن محمدا ولد أميرا و استدعي لتسلم مقاليد الأمور عن طريق الناس له ... ولو انه وضع قوانين سليمة و دافع عن بلاده, لكان من الممكن احترامه و تبجيله و لكن عندما يقوم راعي ابل بثورة ويزعم انه كلم جبريل و انه تلقى هذا الكتاب غير المفهوم الذي تطالع في كل صفحة منه خرقا للتفكير المتزن حيث يقتل الرجال و يخطف النساء لحملهم على الإيمان بهذا الكتاب, مثل هذا السلوك لا يمكن أن يدافع عنه إنسان لم تكن الخرافات قد خنقت فيه نور الطبيعة. *و يقول ماركس:« إن كل دين ليس سوى الانعكاس الواهم في دماغ البشر للقوى الطبيعية التي تسيطر على وجودهم اليومي»

Portable :(00 216)23038163

الإعلام العربي

وتكريس واقع التخلف

أرجو أن تتفضلوا بنشر هذا التعقيب على ما ورد في كلمة الأخ علي عبد الأمير في ركن بريد "القدس العربي" يوم الجمعة 15 أيلول (سبتمبر) 1997 العدد 2590 تحت عنوان "لا يشك بولائه للقائد" طمعا في مزيد إثراء الحوار حول الإعلام نظرا لما يحتله هذا القطاع العام في حياتنا المعاصرة.

لشدّ ما تقلقني تلك التحاليل التي ترجع كل مآسينا الحضارية كالقهر والتسلط وهيمنة الخطاب الواحد على وسائل إعلامنا العربية إلى عنصر واحد أو فرد واحد ألا وهو القائد أو الزعيم.

وسبب قلقي ان مثل هذه التحاليل من شأنها أن تغطي على مواطن الخلل في مجتمعنا ولا تعالجها بكيفية ناجعة، لآن شرط العلاج الصحيح هو التشخيص السليم والشامل لأسباب الخلل، إذ لا يعقل مثلا الزعم بأن التخلف الذي يهيمن على وسائل الاتصال عندنا مرده الولاء لقائد سياسي أو لنظام حُكم معين، فالقائد السياسي لا يزيد عن كونه يمثل رمزا لقوى اقتصادية واجتماعية وسياسية تختفي وراءه هذه القوى حتى لا يطالها النقد والتجريح. لذلك فهي في سعي دائب لتكريس واقع التخلف باحتكارها لوسائل الاتصال الجماهيرية، حتى لا توظف هذه الوسائل في توعية أفراد الأمة بحقوقهم في الانتفاع بثروات الوطن، ومشاركة هذه الشرذمة في الثروات والخيرات التي اغتصبوها ظلما وعدوانا من عرق جبين الأمة. وخير وسيلة تتبعها هذه الشرذمة تتمثل في صناعة "صنم بشري" تضعه في الواجهة لتحقيق مآربها. وتحيك حوله الأساطير وتنشط في تزييف الحقائق لإقناع الناس بضرورة الصبر لأن القائد الأوحد/ الصنم بصدد حل جميع مشكلاتهم، وهكذا يخلقون الأمل الزائف تلو الأمل ليبقى الناس يتضورون جوعا وفقرا وبطالة وقهرا ومرضا صابرين وهم في شوق ليوم قادم لن يأتي أبدا.

إن هذه القوى المحتكرة لثروات الأمة لا يمكنها أن تعيش إلا في ظل واقع مريض يوفر لها أسباب الاستمرار في احتكار الثروة والمسؤولية. والشرط الأساسي لاستمرار هذا المرض يتمثل في احتكار وسائل الاتصال الجماهيرية لأن انفلات هذه الوسائل من أيدي هؤلاء المحتكرين يعني بروز رجال صادقين ينصحون الأمة ويكشفون الزيف والنفاق ويحاربون الظلم والاحتكار وهذا من شأنه أن يفقد هؤلاء هيبتهم المصطنعة وثروتهم التي بنوها على جماجم الفقراء والمضطهدين.

محمد بن سالم بن عمر

12، شارع الجمهورية، سيدي بوعلي 4040

الحمد لله

MMohamedsalembenamor21@yahoo.fr

Portable :(00 216)23038163

اللغة أولئك أعزّوها...

وهؤلاء أذلّوها

تعتبر اللغة من أهمّ مقوّمات الشعوب. فهي ترجمان فكرها وعواطفها ومختلف مظاهر الحضارة والتمدّن فيها ولقد أدركت الأمم هذه الأهمية للغة، قديما وحديثا، فلم تتوان أيّ منها عن دراسة لغتها، والاهتمام بها، والحرص على نشرها وتعليمها للآخرين وتحبيبها إليهم.

ولقد بحث الإغريق في طبيعة اللغة ونشأتها، وتضافرت جهودهم في سبيل وضع قواعد للغتهم ابتداء من القرن الثاني قبل الميلاد. وشارك الفلاسفة اللغويين فكانت أبحاث أفلاطون في أصل الكلمة، ومشكلة المعنى كما درس العلاقة بين الأشياء والكلمات.

وتابعهم في ذلك الرومان، فدرسوا اللاتينية ولما كان الإغريق قد اقتصروا على دراسة لغتهم فقط، فقد فعل الرّومان مثلهم فلم يدرسوا قواعد أيّة لغة غير لاتينية، كأنّهم أرادوا أن تصبح هذه القواعد قوانين عامة تصلح لجميع اللغات، وهي نظرة سادت في أوروبا. وظلت آثارها إلى سنوات قليلة مضت قائمة إذ حاول اللغويّون هناك تطبيق قواعد اللغتين اليونانية واللاتينية على اللغات التي انحدرت منها غاضين النظر عن مسافة الخلف بين هذه اللغات الحديثة وتينك اللغتين الميتتين.

ولقد انصبّ اهتمام الإغريق والرومان على وضع قواعد لما يمكن أن يقابل اللغة الفصحى أو الأنموذجية، وهي لغة لم تكن متحدثة آنذاك وانشغلوا بوضع قواعد وضوابط ومعايير محدّدة لهذه اللغة سميت بالقواعد المعيارية وهي لا تتغير بمرور الزمن.

أما في الهند فقد كان للكتاب الذي ألفه "بانيني" في القرن الرّابع الميلادي، الأثر البارز في توضيح قواعد اللغة السنسكريتية مبيّنا فيه وواصفا النظام الصوتي والصرفي والنحوي لتلك اللغة وصفا دقيقا.

ولا تزال الأمم والشعوب في العصر الحديث تولي أهمية بالغة للحفاظ على لغاتها وتطويرها ونشرها، من ذلك إقدام الدولة الفرنسية على التدخّل في الواقع اللغوي عبر قوانين أصدرتها في سنوات 1490، 1510، 1539م وهذا الأخير هو الأشهر والمعروف بقانون "فيلي كوتري"، وقد سعت هذه القوانين إلى أبعاد اللاتينية والإسبانية والإيطالية من الساحة الفرنسية.

كما أبعدت لغات فرنسا ولهجاتها الأصلية التي تعدّ بالعشرات ومن بينها "اللغة الباسكية" و"اللغة الكاتالانية" و"اللغة البروطانية" إلى جانب ما يعتبره "كلود هاجيج" في كتابه "الفرنسيّة والقرون" بلهجات فرنسا: كاللهجة الفلامانيكية المنتمية إلى اللغة الهولندية واللهجة الألزاسية المنتمية إلى اللغة الألمانية واللهجة الكورسيكية المنتمية إلى اللغة الإيطالية.

وقد قامت فرنسا بواسطة قانون (توبون) سنة 1994 بمنع استعمال اللغات الأجنبية خصوصا الأنجليزية في كل شيء بما في ذلك الإشهار. ووصل هذا القانون قمته عندما أراد (توبون) وزير الفرنكفونية إزالة كلمات انجليزية مترسخة في القاموس اللغوي منذ قرون.

وفي العصر الحديث أدركت المجتمعات الراقية أهمية اللغة في حياتها وحياة الشعوب التي تريد غزوها وبسط الهيمنة عليها فأخذت تنفق ملايين الدولارات من اجل تصنيع الثقافة بلغتها وتصنيعها وتصديرها إلى جميع أصقاع العالم تصرف بها وجوه الناس إليها وتغزوهم في عقر دارهم عن طريق القنوات المرئية والإذاعات المسموعة والمجلات والكتب والصحف وغيرها من وسائل الاتصال... تفرض عليهم -من حيث يشعرون او لا يشعرون- نمط حياتهم وطريقة عيشهم، وأسلوب تفكيرهم، وتقدم لهم الحلول لمختلف المشكلات التي تهم حياتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

وفي خضم هذا الواقع الذي تتصارع فيه الأمم والشعوب من أجل الحفاظ على لغاتها ونشرها وتطويرها ننظر مستبدا بنا الألم إلى المستوى المنحدر الذي آلت إليه اللغة العربية، وقد ساهم كل منّا بقسطه في هذا الانحدار وجنينا جناية بالغة في حق أبناء هذا الجيل والأجيال المقبلة بل في حق اللغة العربية. يقول الأستاذ فاروق جويدة تحت عنوان "قبل أن تصبح اللغة العربية غريبة بيننا" اللغة العربية في محنة هذه حقيقة نكاد ندركها ونلمسها جميعا ولكننا للأسف الشديد نقف أمامها مكتوفي الأيدي كمن يشاهد إبنه يصارع أمواج البحر ولا يحاول إنقاذه، ومحنة اللغة العربية ظاهرة يتصاعد دخانها أمام أعيننا منذ سنوات طويلة حتى وصلت الأحوال بها إلى درجة توشك فيها أن تصبح غريبة بيننا.

الأخبار

26/06/1997

Portable :(00 216)23038163

دور التربية الموسيقية

في تنشئة الطفل

تعتبر الموسيقى من الثمار اليانعة التي تنتجها الحضارات عبر العصور، وهي من الفنون الراقية التي تربّي في الطفل الذوق السّليم وتعلمه السلوك الاجتماعي الهادف وتغرس فيه روح التعاون والتكامل والطاعة وحسن الإنصات، والتجاوب مع توجيهات وإرشادات القائمين على تربيته، لذلك احتلت مكانة بارزة في كل الحضارات تقريبا وأولاها الإسلام مكانة هامة تجلت في تشبيهه للأصوات المنكرة بصوت الحمير وحثه الإنسان على خفض الصوت عند الحديث وتشجيعه علىقراءة القرآن بصوت جميل مؤثر.

وفي عصرنا الحاضر صارت الموسيقى أهداف تربوية لا يمكن تجاهلها، واستحوذ حب الموسيقى على جميع الناس، وبخاصة الأطفال عدا من فقدوا نعمة السمع أو تعرضوا لمؤثرات عصبية أو فزيولوجية أفقدتهم التأثر بجمال الألحان والتوقيع.

ولكي تحقق الموسيقى أهدافها لدى الطفل فلابد من تعليمه الكلام بطريقة سليمة أي توخي الوضوح في استخدام المقاطع اللفظية مع التعوّد على استخدام النبر القوي والنبر الضعيف، ولابد من اختيار الكلمات التي تتفق مع ميول الطفل ومستواه الفكري، ويجب توخي البساطة في اللحن والابتعاد قدر الإمكان عن التعقيد والتحولات الكثيرة الزخارف، وأغنية الطفل يستحسن أن تكون قصيرة خفيفة الإيقاع، سهلة اللحن، جذابة ذات صيغة بنائية محددة قوية الطابع، وتراعي المنطقة الصوتية للطفل.

إن الإيقاع واللحن والغناء كلها استعدادات فطرية مهيأة للتفتح والنضج بالتدريب والممارسة. وتعتبر الأناشيد والأغاني المدرسية الغذاء الروحي اليومي للطفل ويمكن استغلالها لأغراض تربوية وأخرى تعليمية... لذا وجب إعطاء قيمة هامة للاستماع الداخلي أي القدرة على تخيل اللحن المدوّن (مثل القراءة الصامتة في تعلم اللغة) وتكوين الذاكرة الموسيقية تلك العادة الفكرية التي تقوم بترابط الأفكار والتكرار وتركيز الانتباه، لأن الطفل يحفظ عادة اللحن إذا ما تكرر في صورته المتكاملة أسرع مما لو سمعه مجزءا. لذلك لابد من استغلال الموسيقى كوسيلة تجذب الطفل وتحببه في المدرسة واتخاذها هواية مثمرة في أوقات الفراغ، كما انها تمكن المشرفين على التربية من اكتشاف ذوي الاستعدادات والمواهب لاحتضانهم في سن مبكرة والعناية بهم.

Portable :(00 216)23038163

خطاب إلى الهاربين من ديارهم!

الأستاذ رئيس التحرير

تحية طيبة وبعد،

هذا خطاب أردت أن أوجهه إلى إخواني المغتربين من النخبة المثقفة، والتي تملأ كتاباتها الصحف والمجلات التي تصدر هناك وعلى رأسها صحيفة "القدس العربي" الغراء.

ما يمكن ملاحظته بادئ ذي بدء أن هذه النخبة المحترمة تعالج في جلها قضايا نظرية لا تمت بكبير صلة إلى واقع المواطن العربي، ذاك المواطن المسحوق في بلده والذي يعاني من الذل ألوانا، ومن الاضطهاد أصنافا بل يقتل في اليوم الواحد ألف مرّة، فهل يعتقد هؤلاء المغتربون المساكين أنهم بتلك المقالات والكتابات المنددة بالسلطان في ديارهم التي هربوا منها سيحلون مشكلات وطنهم ويخلصونه من الذل والمهانة والتخلف الحضاري والاستبداد الاجتماعي؟! وهل يعتقدون حقا أنهم سيحررون أوطانهم بمقالات نارية متشنجة تتوهم الثورة والتغيير؟! إن هؤلاء يعتبرون نكرة بالنسبة إلى أوطانهم فهل يحسبون الناس يتأثرون بنكرة تفتقد إلى رؤى واضحة في مجمل مشكلات أوطانهم! وهل يعقل أن يقدر على التغيير من عجز عن تغيير نفسه؟! إن البداهة تقول "فاقد الشيء لا يعطيه".

لقد فكر هؤلاء "المغتربون" في مصالحهم الخاصة لما هربوا من أوطانهم وتركوها لقمة سائغة في أياد غير أمينة تتعيش على بيع الأوطان وإذلال الإنسان وسحقه إذ لو صدق هؤلاء المغتربون الهاربون لبقوا في أوطانهم يجاهدون بأموالهم وأنفسهم وفكرهم في سبيل تحرير الإنسان العربي من الذل والعبودية وتقديم القدوة في النضال والصمود ولتعاونوا مع أشراف هذه الأمة من مثقفين وحكام ومسؤولين لرفعة وطنهم وتقدمه وازدهاره. ان هروب هؤلاء يجعلهم عرضة للنقمة والكراهية من قبل أحرار هذه الأمة وكل الفئات المسحوقة والمحرومة في هذا الوطن العزيز، لأنهم فكروا في الخلاص الفردي ولم يفكروا حقيقة في خلاص وطنهم وشعبهم.

ولعل المبكي المضحك في حالة هؤلاء الفارين التجاءهم إلى بلدان غربية كبريطانيا وأمريكا ساهمت ولا تزال تساهم –وهم يعلمون ذلك جيدا- في الإبقاء على الأنظمة التي يزعمون أنهم يحاربونها ويلقون عليها اللوم لتكريسها التخلف والاضطهاد! بل أن بريطانيا هي التي مكنت للصهيونية العالمية من إحتلال فلسطين وتشريد أهلها... وأمريكا نفسها أصبحت متصهينة أكثر من الصهاينة أنفسهم بما تقدمه لهم من دعم لإذلال العرب فاق كل التصورات.. فهل يعقل بعد ذلك أن نصدق هؤلاء الفارين إلى بلاد الغرب أنهم يناضلون ضد الصهيونية وضد التخلف والاستبداد؟!

وختاما أنصح هؤلاء بالرجوع إلى أوطانهم فالموت في الوطن أكرم لهم من التسكع في شوارع الغرب وحاناته!

القدس العربي العدد 2553


24 تموز (يوليو)

1997

مصطلحات مضللة

الأستاذ رئيس التحرير

تحية طيبة وبعد،

درجت جل صحفنا ومجلاتنا الوطنية والقومية على استعمال مصطلحات غريبة، منبتة عن قيمنا الحضارية، تؤذي الذوق العام وتساهم في تكريس مفاهيم يبتهج لسماعها العدو وتثلج صدره وتعينه على تعميق الهوة التي صارت سحيقة بين مفاهيمنا وقيمنا الحضارية وبين ما يظهر من استعمالات اصطلاحية في المراسلات والتحاليل السياسية خاصة. والخطورة تكمن في أن هذه المصطلحات وقع تبنيها من قبل صحف ومجلات جديرة بكل احترام، والتي أصبحت تعكس بحق ما يختلج في صدور أبناء هذه الأمة العظيمة، وسأضرب لذلك أمثلة وقع استعمالها مرات عدّة في صحفيتنا الغرّاء.

- "عملية انتحارية" تعبير تستعمله كل صحفنا تقريبا إثر كل عملية استشهادية يقوم بها أبناء الحركة الإسلامية في فلسطين، واستعمال هذا المفهوم يكشف عن غياب مفهوم الإسلام الذي يحرم الإنتحار وقتل النفس ويعتبره من الكبائر التي تحرم على مرتكبه دخول الجنة، أما الشهادة أو الاستشهاد –وهو ما يقوم به الإسلاميون في فلسطين ولبنان- وهو من أكبر القربات إلى الله لأنه ينفذ ويضحي بالنفس لإعلاء كلمة الله ونصرة الحق وكل القضايا العادلة، ومن استشهد في سبيل الله لإخراج العدو من أرض مغتصبة ونصرة المستضعفين في الأرض من الظلم المسلط عليهم فهو حي لا يموت بفعل حضوره الدّائم في الذاكرة الجماعية وتحفيزه لقوى الأمة على مزيد التضحية والنضال من أجل استرجاع حقوقها المغتصبة.

- "التطرف، الإرهاب، متشددين.." هذه تسميات تطلق على جميع الإسلاميين في العالم مهما اختلفت طرق عملهم وأساليبهم، ولا أعرف هاهو مرجعنا في هذه التسميات؟ هل هي مبادئ الإسلام وقيمه أو مبادئ الغرب وضلالاته! فالله قد خص هذه الأمة الإسلامية لتكون هي الشاهدة على الناس بحكم ما تملكه من قرآن كريم –ما فرط الله فيه من شيء- مما يكسبها القدرة على معرفة الحق من الباطل والغث من السمين والفصل في القضايا الخلافية، فالأمة الإسلامية هي امة وسط. إذا التزمت بتطبيق الإسلام –عادلة لا تبخس أبدا حقوق الآخرين-.

وها نحن ندرك اليوم الظلم والطغيان والقهر المسلط على جميع شعوب الأرض –بما فيها شعوب الغرب- في ظل هيمنة مقاييس الغرب وقيمه.. فهل يعقل بعد ذلك أن نعتمد مقاييس هذا الغرب في إطلاق تسميات غير محايدة بل متفجرة وتحمل طابع مفاهيم الغرب وتصنيفاته الظالمة!

بقي أن ألاحظ شيئا هاما جدا يخص تحليل الخبر وهو ما أسميه "بالمكيافيلية" في التحليل السياسي، كأن نعتبر مثلا إعلان دولة عربية عن عدم حضورها "قمة الدوحة الاقتصادية" أو غيرها عملا قوميا جليلا متناسين حقائق هذه الدولة التاريخية وعمالتها للصهيونية والامبريالية الأمريكية بشكل مؤكد دائم، فكيف نسمح لأنفسنا بإقناع القراء –الذين هم مسؤولية في رقابنا- أن مجرد الإعلان عن عدم الحضور للقمة يمثل حدثا بارزا يحسب لهذه الدولة أو تلك مما يوقعنا في التناقض والتحاليل القاصرة لنفاجأ بعد حين أن هذا الإعلان هو مجرد تكتيك سياسي وليس حقيقة قابلة للتطبيق! إن تاريخ الأفراد والدول له أهمية قصوى في تحديد صدق توجهاتهم المستقبلية. فقراءتنا لتاريخ الصهيونية والأسلوب الذي اتبعته لاغتصاب فلسطين من أهلها يجنبنا الوقوع في أحابيلها وإضاعة الوقت فيما لا فائدة فيه كأن نصدّق إمكانية إرجاعها الحقوق إلى أصحابها دون قتال كبير وجهاد متواصل!! فالمجرم يبقى مجرما حتى وإن لبس زي النساك والمتنسكين.


حياة أنعام!؟

الأستاذ رئيس التحرير

تحية طيبة وبعد،

يمكن بسهولة أن نلاحظ أن جل ما صار ينجز في وطننا العربي يصب في اتجاه واحد، ألا وهو تهيئة الناس في وطني وتشكيلهم ماديا وفكريا لخدمة الإنسان الغربي وضمان رفاهيته ومتعته، فلا الأرض بقيت أرضنا ولا الثروات عادت إلينا منافعها ولا الإنسان تحرر ليكون سيد نفسه دون وصاية، فهم السادة ونحن العبيد فوق أرضنا، ورضاهم عنّا غاية ما نطمح إليه ونطلبه، شواطئنا ننظفها ونتعهدها ليرضى عنا السائح الغربي، خيراتنا ننتقيها ونقطفها لترسل إلى بلاد الغرب، وأماكن اقامته، بناتنا، نساؤنا نعريهن، حتى صرن كاسيات عاريات، مشاغبات لمواكبة تقليعات السيدة الغربية، مشاريعنا ننجزها حتى نكون أهلا لمشاركة السيد الغربي فتات موائده، أينما وليت وجهك لمحت سعيا لإرضاء الغرب أو مشاركته أو اللحاق بركبه الحضاري والعلمي، فقدنا كل شيء ولم نملك أي شيء!

ومنذ خروج المستعمر الغربي من ديارنا عملت بعض القوى الاجتماعية التي خلفته على إذلال المواطن العربي وإخضاعه وتهيئته لتقبل النهب والاستغلال... وقد استطاعت هذه القوى جمع ثروات طائلة بفضل ما نهبته وسرقته من عرق جبين العمال ظلما واعتسافا، ونتيجة لما يلقونه من حماية ظلموا الناس وأذلوهم واغتصبوا حقوقهم وأكلوا أرزاقهم حتى تنكسر شوكة هؤلاء العمال فيكثر أنينهم وتستفحل أسقامهم، فيعجزون عن مقاومة الاستغلال والظلم المسلط عليهم.

لقد توهمنا أن خروج المستعمر الغربي من ديارنا سيمكننا من التحرر وتحقيق سيادتنا، فإذا الواقع يلطمنا بشدة وعنف وينزع عنا هذا الوهم! إي مهزلة صرنا نعيشها في بلادنا العربية؟ الناس صاروا يكرعون من المذلة والهوان أصنافا، لا أحد راض عن حاله، الكل يشكو والكل يتألم في صمت، والكل صار يعيش ليأكل ويلبس، والسعيد السعيد من صار له مرتب شهري يفي له بحاجياته اليومية، وبدون أي حرج أقدم بعض ضعاف النفوس على بيع اعز ما يملكون من عزة وكرامة ليحصلوا على كفايتهم من المأكل والملبس، ولم يعد يهمهم ما ينجزونه في حياتهم في سبيل تقدم وطنهم وازدهاره لأنهم يحسون أن الوطن لم يعد وطنهم ولا الأرض أرضهم، ولا من يحكمونهم من بني جلدتهم بل هم ألدّ أعدائهم وسبب تعاستهم.

إن أول شروط الوعي المطلوب أن يضع الإنسان العربي في حسبانه أن هذه الأرض التي يرويها بعرق جبينه هي ملك له ولكافة أبناء وطنه ولا يحق لأي كان أن يحتكر ثروات هذا الوطن العزيز، فله الحق أن يحصل على نصيب وافر من ثروات بلاده الكثيرة المتنوعة، ولا أقل من أن يحصل على موازنة بين مجهوده في العمل وبين ما يقبضه من مقابل مادي بشرط أن يوفر له ولأسرته حياة كريمة حتى ينعم بخيرات هذا الوطن المعطاء، ويذود عنه ويحمي استقلاله إذا ما تكالب عليه الأعداء، أما أن يعيش عبدا طوال حياته، يتعب ويشقى ثم يعاني من ويلات الحرمان والخصاصة فهذا ما لا يرضاه أحد ولا حتى العبيد، فكيف بسيد على أرضه، وأرض أجداده ومستقبل أبنائه!؟

القدس العربي العدد 2535

3 تموز (يوليو) 1997





Aucun commentaire: