هذا الكتاب حبرته عام 2006 بعد خروجي من السجن في قضية كيدية لا صلة لي بها مطلقا - اصدار شيكات بدون رصيد -
راجع البرقية الموجهة الى رئيس الجمهورية التونسية بتاريخ 17/جويلية 2008 المنشورة في جريد الموقف التونسية بتاريخ 12/سبتمبر2008 و موقعي الذي وقع حجبه في تونس http:islam3000.blogspot.com
------------------------
هذا الكتاب هو مجموعة مقالات نشر معظما في صحف و مجلات وطنية و عربية
واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا
واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا.
صدق الله العظيم
الإهداء
إلى التي أحيا من أجلها
إلى أمتّي
التصدير
"ما ينبغي أن يكون الفيلسوف مخترعا للمذاهب بل رسولا للحقيقة، وما دامت الشرور التي ابتليت بها البشرية قائمة بغير شفاء. وما دام مسموحا للخطأ والتحيز بأن يخلدا هذه الشرور. وما دامت الحقيقة مقصورة على القلة وعلى المميزين، محجوبة عن معظم النوع الإنساني فسيظل واجب الفيلسوف أن يبشر، بالحقيقة، وأن يحافظ عليها ويشجعها، وينيرها. وحتى إذا كانت الأضواء التي ينشرها لا تفيد في جيله وقومه، فإنها لا شك ستفيد في بلد وجيل آخرين. فالفيلسوف ذلك المواطن في كل مكان وزمان أمامه الدنيا كلها وطنا، والأرض مدرسة،والأجيال القادمة تلاميذ".
الإسلام وتحدّيات القرن 21
في أواخر القرن التّاسع عشر الميلادي كانت حركات الاستعمار الكبرى للعالم الإسلامي تركز قواعدها في الهند ومصر والجزائر وتونس والسودان.. كحلقة أخيرة من حلقات تطويق العالم الإسلامي والانقضاض على ثرواته ونهبها. وكان قد مهد لهذا الاستعمار بغزو حضاري نشيط، ابتدأه وألهب شرارته الأولى في ديار الإسلام ما يسمون عندنا «بزعماء الإصلاح العرب»! وهكذا تراجعت الرّابطة الإسلامية كشكل من أشكال البناء السّياسي القائم أمام ضربات الاستعمار الموجعة وقد توّج ذلك بسقوط الخلافة الإسلامية العثمانية عام 1924م على يد كمال أتاتورك.
لقد تمزقت الوحدة الإسلامية خلال القرن العشرين وتنازعت الدّول الكبرى ميراث الإسلام وسيطرت على أضخم قواعده وقدراته واندفعت الحركة الصّهيونية العالميّة من خلال مخطـّطات الاستعمار تسيطر على فلسطين وتجعل من احتلال بريطانيا للقدس مقدمة لسيطرتها عليها بعد خمسين عاما.
ولقد قاوم المسلمون في معارك حاسمة في أجزاء مختلفة من العالم الإسلامي في أفغانستان والقرم ومصر وسورية والجزائر والعراق وباكستان وحققوا بعض الانتصارات وتحرّرت البلاد الإسلاميّة من نفوذ الاستعمار العسكري المباشر وانبعثت من قبله «حركة تنويرية تحرّرية» بعد طول سبات.
غير أن حركة التـّنوير والتـّحرر لم تلبث أن واجهت عقبات كأداء في العقود الأخيرة من القرن الماضي وبداية هذا القرن الجديد، فقد تحالف الاستعمار الغربي والصّهيونية من أجل ضرب حركة التـّنوير والتـّحرّر ودفعها للانحراف عن ثوابتها الإسلامية ومفاهيمها القرآنيّة.. ومن ثم فانّ أخطر التحدّيات في السّنوات الأخيرة تتمثل في الحفاظ على الذّاتية الإسلاميّة وحماية الهوية الثقافية لشعوبنا الإسلامية، وتطوير هياكلها وتحرير العقل المسلم من الجمود الفكري ومن الأخطار الفكرية والمفاهيم الثقافية المنحرفة عن هداية الله التي تلقى إليه عن طريق وسائل الإعلام والاتصال المختلفة والتبشير والاستشراق والشعوبية من أجل إذابة الهوية الحضارية لأمتنا الإسلامية لدعوى "الحداثة" و"العولمة" و"العلمانية" و"اللائكية"... وهي دعاوى وإن اختلفت مسمياتها إلا أنّها تتّـفق على أن يترك المسلمون ثوابت دينهم الإسلامي ومفاهيم قرآنهم المتطابقة مع حقائق الكون والإنسان والحياة وتغييرها بفلسفات مريضة وتيّارات جانحة منحرفة من الفكر والثقافة والاعتقاد ونظرة خاطئة لحقيقة الألوهية والقدر حتى يسهل للغرب الاستعماري بعد ذلك السّيطرة علينا ونهب ثرواتنا واستغلال شعوبنا وإخضاعها لأطروحاته المعادية لكل مصالحنا...
هذا هو التحدي الكبير الذي يواجهه المسلمون في بداية هذا القرن!؟ فالقضاء على أصالة هذه الأمة وكيانها الفكري والروحي هو مقدمة لتحقيق مآرب الصهيونية اللقيطة في الاستيلاء على أرض المسلمين وخيراتهم بمساندة الغرب الاستعماري وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية!؟.
إنّ كلّ هؤلاء لا يخفون عداءهم لحملة الرّاية الإسلامية الذين اختاروا طريق الأنبياء والصّالحين في الانتصار للحق وإعلاء كلمة الله والتّمكين لشريعته في الأرض...وهذا العداء تتفق عليه مختلف تشكلانهم الثقافية والسّياسيّة والعسكريّة...
وخلاصة ما يسعى إليه الغرب الاستعماري بمعية الصّهيونية العالميّــة اللقيطة هو التدجين والاحتواء. ولعل أبرز التّحديات التي واجهت المسلمين لتدجينهم واحتوائهم تتمثل في تحريف مفهوم الإسلام وتشويهه وإخراجه من طابعه المتكامل الجامع بين الدنيا والآخرة – إذ أن حياة المسلم وكل أعماله في الحياة الدّنيا هي عبادة وتقرّب لله رب العالمين في المنظور الإسلامي -إذا ما اهتدت أعماله وكل سلوكياته بهدي القرآن العظيم- متّهمين شريعته بالتّخلف والرّجعية! ونادوا بعزله عن الحياة كما فعل اليهود والمسيحيون من قبل والذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله يشرعون لهم ويحددون لهم مفاهيم الحياة البعيدة كل البعد عن حقائق الوجود..! ودعوا إلى "اللائكية" و"العلمانية" بديلا عنه!؟ كما استغلوا جهل العامة والخاصة –من النخب المتغربة- بأهمية الشريعة الإسلامية والمفاهيم الإسلامية في الحفاظ على مكتسبات الأمة المسلمة وحماية النفس البشرية والكيان الاجتماعي من السقوط والانهيار ونادوا بالتحلل منها واستبدالها بقوانين الغرب وشريعته - والتي حولت العالم إلى غابة وحوش ضارية يأكل القوي فيه الضعيف!؟- رغم عدم انسجامها مع خصوصيتنا الحضارية وقيمنا الثقافية ومفاهيمنا الإسلامية !؟ ثم امتدت دعوة التغريب فزيفت المفاهيم حرفت الكلم عن مواضعه وشوهت المبادئ التي أقامت الحضارة الإسلامية وأوصلتها إلى أقاصي الأرض واستمد منها المسلمون القوة على الصمود والقدرة على الفعل وبناء القوة والعزة والحضارة لردح طويل من الزمن.. ويمكن حوصلة الهجمة الغربية – الصهيونية على الإسلام في النقاط التالية:
* محاربة الإسلام بنظريات زائفة كالتي تزعم أن الدين ليس سوى الانعكاس الواهم في دماغ البشر للقوى الطبيعية التي تسيطر على وجودهم اليومي (نظرية كارل ماركس).. كما شكلت مصنفات ما يسمون بفلاسفة الأنوار في القرن الثامن عشر ميلادي أرضية خصبة لمحاربة الدين عامة والفكر الإسلامي خاصة، من بعد ما تبنته نخبة هامة من" زعماء الإصلاح" في البلاد الإسلامية، ولم يدرك هؤلاء أنهم كانوا يحفرون مقابر حضارتهم الإسلامية بأيديهم!.
* محاربة القيم والمبادئ الإسلامية وكل القيم النبيلة التي تنسجم مع فطرة الإنسان السوي، بدعوى أنها قيما نسبية ومتغيرة، ومرتبطة بالبيئات والعصور وتختلف باختلاف الحضارات!.
* الدعوة إلى هدم الأسرة باعتبارها من مخلفات المجتمعات الإقطاعية وعصور الانحطاط والتشجيع على العلاقات المنحرفة كاللواط والسحاق والإجهاض كحل لبعض المشكلات الأسرية.
* الدعوة إلى قيام العلاقات البشرية على أساس المصالح المادية والعرقية والاثنية وإثارة العصبيات الطائفية والعرقية..
* محاربة اللغة العربية الفصحى، لغة الإسلام الأولى ولغة القرآن الكريم لإدراكهم الارتباط الوثيق بين اللغة العربية والدين الإسلامي ومجد ووحدة المسلمين، وقد عملوا جاهدين على ترويج الدعاوى التي تتهم اللغة العربية الفصحى بالعقم والبداوة والقوا عليها مسؤولية التخلف الحضاري للمسلمين ورفعوا شعار «من أراد التقدم والرقي فلا يتكلم اللغة العربية» زاعمين بعدم استجابة الفصحى للحضارة الحديثة وأنها لا تستوعبها وهي عسيرة على من يتعلمها ؟!
* اعتماد مناهج تربوية بعيدة كل البعد عن المنهج الإسلامي في تربية الإنسان المسلم المثبت من الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، المستضيء بنور الله الذي لا يخبو أبدا«قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين».
* خلق مفهوم صراع الأجيال حتى يسهل بعد ذلك دفع الشباب إلى الانهيار والتمزق في ظل فراغ نفسي وفكري وثقافي وعطش روحي.... وقد تخفوا وراء مذاهب ونظريات منحرفة مغرضة اثبت العلماء المحايدون تفاهتها وعدم ارتكازها على حقائق علمية ثابتة وانبناؤها على الظن والتخمين وليس لها أية صلة بالواقع، بل وقدرتها الفائقة على تخريب عقول الناشئة وصنع الرجال الجوف !
إن مجابهة هذه التحديات وغيرها تبدأ بتجديد الثقافة الإسلامية الصحيحة المبنية على الثوابت الإلهية الحقة انطلاقا من ثوابتنا القيمية والحضارية ومفاهيمنا الإسلامية المبثوثة في ثنايا الذكر الحكيم، إذ لا يعقل أن نجابه مفاهيم الزيف الحداثي والعولمة بمفاهيم عصور الانحطاط البالية في تاريخنا الإسلامي ودون أن نطور مفاهيمنا ونصححها ونجعلها تأخذ بالألباب كما أخذت بألباب رجال الجاهلية الأولى لإنبنائها على الحق والنور الإلهي.
سنن إقامة الحضارات
«زمن الانحطاط العربي» مقولة مختصرة لكنها معبرة، تعبر عن المرارة التي أضحى يشعر بها المفكر في البلاد الإسلامية وهو يرى أن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية... تزداد سوءا وانتكاسا على مر الأيام.
يحدث كل هذا بعد أن شهد ت البلاد الإسلامية جمعا من المصلحين والمفكرين الذين تخصصوا في شتى المجالات (1).
إن هذا الوضع الذي آلت إليه حالنا يحتم علينا أن نطرح السؤال التالي: ما هي الأسباب الكامنة وراء فشل البرامج الإصلاحية التي أخذت تظهر منذ مطلع القرن التاسع عشر الميلادي! ؟
أسباب الفشل:
إن المتتبع لمؤلفات رواد النهضة في بلادنا الإسلامية يلاحظ أن الانبهار بما حققته الحضارة الغربية كان عظيما في نفوسهم والانشداد إلى النمط الغربي في الحياة واضحـا وجلـيا(2) وهذا الانبهار بمنجزات الغرب جعلهم يتخذونه قدوة ومثالا، فكان النمط الغربي النهضوي حاضرا لدى جل هؤلاء الرواد(3) لذلك جاءت برامجهم الإصلاحية وتنظيراتهم تنقصها الدراسة العلمية المتأنية التي تراعى فيها الملابسات والظروف التي أدت بأمتهم الإسلامية إلى حالة من التخلف والانحطاط الحضاري.
ولا عجب بعد ذلك أن نجد منهم من يدعو إلى «أن نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم لنكون لهم أندادا ولنكون لهم شركاء في الحضارة خيرها وشرها وحلوها ومرها وما يحب منها وما يكره وما يحمد منها وما يعاب» (4).
إن الصفة المشتركة التي جمعت زعماء الإصلاح هي«افتقار الشعور بالعزة بهويتهم الحضارية الإسلامية، والانبهار الكلي بالغرب» وهذا الانبهار قد أعشى أبصارهم أن ترى الدّرب القويم والنهج السليم لنهضة أمتهم الإسلامية وبناء حضارة إسلامية جديدة تليق بخير امة أخرجت للناس وقد كلفها ربها بأن تكون شاهدة على الناس إن هي استمسكت بالنور الذي انزله الله عليها –القرآن- والتاريخ:«يعلمنا انه ما من مدنية تستطيع أن تزدهر أو تظل على قيد الحياة إذا هي خسرت إعجابها بنفسها وصلتها بماضيها»(5).
نظرة تاريخية
الإسلام ومرحلة الفكرة والمفاهيم الجديدة:
جاء الإسلام معلنا منذ بداية نزول الوحي على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم عن بداية ظهور نظرة مغايرة لما هو سائد بين البشر ومفاهيم جديدة للكون والإنسان والحياة، تختلف جذريا عما تعلمه الإنسان من مصادر بشرية ومعلنا بوضوح مخالفته لسائر التصورات(البشرية المساوية للجاهلية في المنظور القرآني): ثقافتها ومعتقداتها أخلاقها ومعاملاتها، نظمها وتشريعاتها:« اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم » (سورة العلق الآيات 3 و4 و5).. ليبرز بعد عملية الهدم مباشرة شخصيته المستقلة بكل أبعادها العقائدية والتشريعية ومختلف تصوراتها وطموحاتها على أنقاض الجاهلية (كلّ مفاهيم الإنسان عن الكون والإنسان والحياة التي تخالف المفاهيم الإلهية) والتي أعلن الحرب عليها منذ الوهلة الأولى:«كلاّ لا تطعه واسجد واقترب» (سورة العلق وهي أول ما نزل من القرآن الآية 19).
إن مراجعة بسيطة للنهج الذي اتبعه الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون في إحداث التغييرات الجذرية التي هزت جزيرة العرب يلاحظ ما يلي:
- بداية نزول الوحي على الرّسول صلى الله عليه وسلم في غار حراء وقد حمله ربه مسؤولية التبليغ وإيصال ما سيوحى إليه من قيم ومبادئ ومفاهيم جديدة عن الكون والإنسان والحياة إلى الناس كافة بدءا بالعشيرة الأقربين.
- الجهر بالدعوة الإسلامية وتحمل الأذى والصبر على تعنت الكفار وإجرامهم في حق أتباعه من المؤمنين برسالته.
- نزول ما سمي (بالقرآن المكي ويعد 86 سورة ) وهو في جملته آيات قصيرة تعالج قضايا توحيد الله وتحارب الشرك بالله بمختلف تشكلانه وتشير إلى مواطن الفساد في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وترد على بعض شبهات أهل الكتاب ومزاعم أهل مكة وتندد بتصرفاتهم المنحرفة وتصحح مفاهيم البشر عن الألوهية الحقة والربوبية الصحيحة والتي لا تجوز إلاّ لخالق الكون والإنسان والحياة العليم الخبير الذي يعلم غيب السّماوات والأرض... فالقرآن المكّي كان يدعو إلـى – فكرة جديدة ومفاهيم مغايرة لمفاهيم البشر– لتحل محل الفكر والمفاهيم والمعتقدات الجاهلية في ذهن المتقبل حتى تؤثر في فكره ووجدانه تمهيدا للانتقال به إلى مرحلة أخرى قادمة.
- كان الرّسول صلى الله عليه وسلم يدعو أصحابه الذين آمنوا بدعوته بالصّبر على الأذى والتنكيل الذي كانوا يتعرضون له على يد كفار قريش وعدم الرد بالعنف على الاضطهاد الذي كان يسلط عليهم – رغم استعداد بعض الصحابة للقيام بذلك... ولما اشتد الاضطهاد على بعض الصحابة نصحهم عليه الصلاة والسلام بالهجرة إلى الحبشة لان بها ملكا لا يظلم الناس عنده أبدا.. وقد استمر الرسول وأصحابه في الاستمساك بالمفاهيم الالاهية الجديدة والالتزام بالدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ومجادلة الكفار والمشركين وكل المناوئين بالتي هي أحسن. ولم يسجل لنا القرآن أو المؤرخون أن أحدا من الصحابة قد كون عصابة للرد على اضطهاد قريش أو تحرير البيت الحرام من أيدي كفار مكة ومشركيها.. بل كان سلاح المؤمنين الوحيد: الدعوة إلى الإسلام الحق والجهاد بآيات القرآن الكريم والتي تحمل المفاهيم الجديدة وإبلاغها إلى مسامع المشركين والصبر على إذا هم امتثالا لأوامر الله في القرآن المكي-سور القرآن التي أوحى الله بها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بمكة-.
- ثم جاءت حادثة الإسراء بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم لتتوج المرحلة المكية *مرحلة الفكرة والمفاهيم الجديدة*، وأهم ما يمكن استخلاصه من حادثة الإسراء هو بداية تلقي المسلمين لبعض التشريعات والعبادات كالصلاة وهي تشريعات عملية تستوجب توفر الأمن للقيام بها وهو ما يعني حدوث نقلة نوعية كبيرة، لان المرحلة المكية التي سبقت حادثة الإسراء تميزت بتركيز القرآن على المعتقدات الإسلامية والمبادئ الذهنية والمفاهيم الجديدة عن الكون والإنسان والحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والقيم الأخلاقية ومحاربة التمظهرات المتنوعة للكفر والشرك والتشهير بانحرافات زعامات قريش العقائدية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها.. وهذا يعني أن حادثة الإسراء كانت بمثابة التمهيد للإعلان عن انتقال المسلمين من مرحلة «الفكرة» إلى مرحلة « الدولة».
الإسلام ومرحلة الدولة:
بعد حادثة الإسراء أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة، وقد مهّد عليه الصلاة والسلام لهجرته وهجرة أصحابه عندما التقى بالأنصار – الاوس والخزرج- وأخذ منهم عهدا بحمايته وحماية أصحابه ونصرة الدين الذي بعثه الله به إلى الناس كافة وكان قد سبقه بعض صحابته إلى المدينة لتوضيح الغامض من دعوته..
- في المدينة أصبح للمسلمين أرض آمنة وقد امن جل أهلها بالرسالة الإسلامية وثروات متعدّدة وقوّة مادية استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم بما اوتيه من حكمة الاهية وبصيرة قرآنية من أن ينشئ منهم مجتمعا مسلما يعتنق العقيدة الإسلامية ويحتكم إلى الشريعة الإسلامية في علاقات إفراده بعضهم ببعض وتنتظم علاقاته وفق التصور الإسلامي والمفاهيم الإسلامية في الأسرة والمجتمع وعلاقاته الداخلية والخارجية... ثم كون الرسول \ القائد جيشا قوامه مؤمنون باعوا أنفسهم وأموالهم لله رب العالمين مقابل الفوز بجنة عرضها السماوات والأرض..« إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم » (سورة التوبة الآية 111)... إن تكوين الجيش الإسلامي جاء بعد تكوين الدولة الإسلامية لحمايتها من الأعداء المتربصين.
- ولم يمر زمن طويل حتى إذن للذين أوذوا في سبيل الله بالقتال واستعمال السلاح لاسترجاع حقوقهم المنتهبة من الكفار والمشركين وصد عدوانهم ومكرهم بالمسلمين..
- في مرحلة تالية بدا المسلمون- بقيادة رسولهم عليه الصلاة والسلام- يفكرون في نشر الدعوة الإسلامية خارج حدود دولتهم الفتية، وبدا الرسول \ القائد السياسي والعسكري في بعث السرايا والجيوش إلى مختلف الأصقاع لفتحها ونشر الإسلام فيها حتى تعم رحمة الإسلام الناس كافة.... استجابة لنداء "القرآن المدني".
إن هذا التسلسل الذي اتبعه الرسول \ القدوة صلى الله عليه وسلم وأصحابه في نشر الدعوة الإسلامية ومن ثم بناء الحضارة رغم وضوحه في السيرة النبوية (6)قد تغاضى عنه المسلمون في العصر الحديث فغابت عنهم الأولويات مما أوقعهم في المحظورات وأبعدهم عن هداية الله.
الرأسمالية الغربية
لقد مثلت الحداثة الغربية – قطيعة تامة بين عهود الظلام السابقة وبين ما سمي بفلسفة الأنوار التي نادت بتحرير الإنسان من سلطة الكنيسة وجبروتها وحرضته على امتلاك زمام أموره وكسر القيود الذي فرضته عليه عهود من الجهل والانحطاط، فلقد استفاق الأوروبيون فوجدوا ركاما ضخما من التجارب والمعارف التي خلفتها حضارات عديدة بما فيها الحضارة الإسلامية، فأغراهم ذلك بالتمعن فيها بحثا عن السبيل الموصل إلى البناء الحضاري والتقدم والتحرر من جهالات رجال الدين عندهم. وما انفك هذا الشعور يتنامى في أوروبا منذ القرنين الحادي عشر الميلادي والثاني عشر خصوصا في فرنسا وايطاليا...
وانتبه الغربيون بعد هيمنة طويلة فرضتها الكنيسة الكاثوليكية واثر تزايد قهر الأباطرة، وصار بعض المفكرين يتحسسون طريق الخلاص من تبعات عصور الانحطاط. وكان لتضخم ممارسات الكنيسة الكاثوليكية ولاستفحال السياسة القهرية التي ينتهجها الأباطرة دور كبير في تصعيد الاستياء وتنمية رصيد الشعور الرافض بعد يقين عمقته الملاحظة بان ممارسات الاكليروس ومقررات البابا فاقدة للمصداقية لأنّها تتضارب مع حقائق الوجود وتطلعات الإنسان نحو الإنعتاق... فهي تفرض وصايتها عليه!؟ وكان للجامعات أللاهوتية التي وقع بعثها في بعض أقطار أوروبا كالسربون مساهمات في المجال المعرفي وتأثيرات حتى في الكنيسة ذاتها(7).
إن فقدان الشّرعيات الدّينية مصداقيتها ليس فقط بالنّسبة إلى بعض المثقفين...
ولكن في الشرائح العريضة للمجتمعات الغربية بأسرها هو الذي ولد مفهوم العلمانية الداعي إلى تخليص قطاعات المجتمع والثقافة من سيطرة المؤسسات الدينية ونواميسها.. وقد سعى مفكرو عصر الأنوار(8) إلى تنوير الشّعب وتحريره من ظلم الكنيسة وجبروتها، فرفعوا في وجه الكنيسة التي كانت تبيع صكوك الغفران – "اللائكية"، وفي وجه رجال الدين واستغلالهم للشعب باسم الرب، رفعوا" الحرية والإخوة والمساواة"..
إن إزاحة الغربيين لتأثيرات الكنيسة عن مجرى حياتهم نظرا لما أصبحت تمثله من عقبات كأداء أوجد لديهم الحافز الـقوي علـى البـحث والتنـقيب واستنباط النـظم السياسية والاقتصادية والنظريات العلمية والمعرفية وغيرها بمعزل عن تأثيرات قرون من التخلف والجهل.. والذي ساهمت فيه بقسط وافر قناعات رجال الدين المسيحي الضالة عن وحي الله وكلماته في التوراة والإنجيل والقرآن..
الماركسية
عاش ماركس(1818-1883)ضمن المجتمع البرجوازي، وعاين عن قرب أوضاع العمال المتردية، ذلك أن العامل رغم قيامه بالعمل والإنتاج إلا انه لا يتمتع بثمار سواعده، حيث أصبحت الطبقة البرجوازية الرأسمالية هي المالكة" بل المغتصبة لما ينبغي أن يكون ملكا للعمال من وسائل الإنتاج "...يقول ماركس في معرض تحليله للأوضاع المتردية التي أفرزتها الطبقة البرجوازية:« إن البرجوازية لم تكتف بصناعة الأسلحة التي سوف تؤدي إلى فنائها بل أنجبت الرجال الذين سوف يستعملون هذه الأسلحة – اعني بهم عمال العصر الحديث - الذين يؤلفون البروليتاريا وكلما ازدادت قوة البرجوازية أي رأس المال ازداد نمو البروليتاريا، تلك الطبقة التي تضم العمال الذين لا تتوفر لهم أسباب العيش إلاّ إذا وجدوا عملا، ولا يحصلون عليه إلا إذا كان هذا العمل منميا لرأس المال. فهؤلاء العمال الذين يضطرون إلى عرض أنفسهم للبيع يوميا هم معرضون نتيجة لذلك إلى كل تقلبات المنافسة التي تعتري السوق... لقد صار العامل فقيرا وتفاقم الفقر بسرعة تفوق سرعة نمو السكان وتراكم الثـّروات... فمن البين إذن أن البرجوازية لم يعد في إمكانها القيام لمدة طويلة بدور الطبقة المسيرة (9)تكشف لنا هذه الوثيقة عن وعي ماركس بالظلم والحيف الاجتماعي الذي يعاني منه العمال في مجتمع تسوده الأنانية والاستغلال وسلوك كل السبل للإثراء ولو على حساب فقر الملايين من العمال.لا تهمنا هنا تحليلات ماركس وتنبؤاته الخاطئة فذاك أمر آخر! ما يهمنا هو الموقف الفكري والسلوك الحضاري الذي انتهجه تجاه واقع معين...تبنى ماركس إذن هموم العمال ومشاكلهم، وسعى إلى إنشاء منظومة فكرية تمثلت في نظريته – المادية التاريخية – ذلك أنها تقوم على مبدأين أساسيين: هما المادية المنطقية والمادية التاريخية. ذلك أنها تنظر إلى المادة على أنها أساس كل أمر في الحياة، وأن البشرية مسيرة في مختلف أطوارها بتأثير المادة فقط (10) يقول ماركس موضحا ذلك: « إن الأفكار لا يبتدعها دماغ الإنسان... وهذا الدماغ ليس إلا مادة دقيقة التركيب وهو جزء من الجسم يعكس مؤثرات العالم الخارجي »(11).
شنّ ماركس وأتباعه حملة منظمة ضد النظام الرأسمالي وكل مبادئه وقيمه طارحين بدائل أخرى وقيما جديدة، ومبشرين بإيجاد جنة أرضية يحكمها الكادحون والعمال والفقراء – ففي جريدة البرافدا ركز لينين حملاته تحت شعار: « كل السلطة للسفيات * الأرض للفلاحين... الخبز للجائعين...
وفي أكتوبر سنة 1917 قامت الثورة البلشفية، الثورة التي أنبنى على أساسها ما كان يسمى بالاتحاد السوفياتي..
بعد هذا الاستعراض السريع لثلاث حضارات مختلفات.. نعود لنطرح على أنفسنا السؤال التالي: ما هي السنن والقوانين التي تتحكم في إقامة الحضارات الإنسانية ؟
بناء الحضارة:
إن استقراءنا للحضارة الإسلامية والحضارة الغربية بشقيها الرأسمالي والماركسي يمكننا من بلورة السنن والقوانين التي تتحكم في إقامة الحضارات في النقاط التالية:
1- فكرة إنسانية سامية:
وهذه الفكرة يمكن أن تكون دينا سماويا أو بشريا أو منظومة اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية... تحمل في طياتها صفة العالمية واستطاع مفكرو الشعب أن يقنعوه بان فكرته التي يتبناها هي أسمى فكرة على الإطلاق وأن هذه الفكرة لا تحمل سعادته هو فقط بل مرشحة لإنقاذ البشرية كافة، وتستحق هذه الفكرة أن يضحي الشعب من اجلها ويغامر حتى تتجسد على ارض الواقع، ثم نقلها إلى بقية شعوب العالم لتستفيد منها وتخرجها – من الظلمات إلى النور- ومن الاستغلال إلى التمتع بخيرات الحياة وطيباتها... ومن الجور والظلم إلى العدل والمساواة... ومن ظلمات القرون الخالية إلى نور الحياة ورفاهيتها.إن أي برنامج إصلاحي أو منظومة فكرية عاجزة عن تحقيق النهضة المنشودة في الشعوب إن لم تكن تحمل في طياتها هذه السمة، وعجزت عن إقناع الشعب الذي يتبناها بسموها وتفوقها على كل الأفكار والمنظومات الأخرى.
2 - تقزيم الخصم والحط من فكره وقيمه(12)
وهذا القانون هو مواصلة للقانون الأول في شروط إقامة الحضارات إن تقزيم الخصم والحط من قيمة منظومته الفكرية عملية تأتي مواصلة للعملية الأولى وهدفها الوصول بالشعب المراد إنهاضه إلى مرحلة الشعور بالعزة وهذا الشعور يأتي كنتيجة حتمية لاعتقاد هذا الشعب بسمو فكرته ومعتقداته ومنظومة القيم التي تحكمه والتي تفوق في سموّها جميع القيم والمعتقدات والمفاهيم الأخرى، بل قد لا يعطي هذه المفاهيم أهمية البتة ما دام يملك ما هو أسمى.. وهذا يرتبط ارتباطا وثيقا بمدى تماسك أفكاره وصدقها وتطابقها مع الواقع وقدرتها على الإقناع ومدى اعتقاده فيها وحنكة مفكريه وقدرتهم على تشويه الخصم وأفكاره ومعتقداته..
نخلص إلى القول بأنّه متى توفرت لدى أي شعب من شعوب الدنيا منظومة فكرية تحتوي على فكرة سامية واقتنع هذا الشعب بأنها أعظم فكرة على الإطلاق في تلك الفترة من الزمن واقتنع بوجوب نشرها والتضحية في سبيل إيصالها إلى الشعوب الأخرى...عندها يبدأ ذلك الشعب بصفة تلقائية يسير رويدا رويدا نحو النهضة ومن ثم تكوين حضارة متفوقة على ما عداها من الحضارات القائمة... والسبب في ذلك يعود إلى أن إدراك هدا الشعب لسمو فكرته وعالميتها يدفعه إلى البحث والتنقيب في كل المجالات الحياتية والعلمية لإثبات سمو فكرته عمليا للآخرين كي يعتنقوا مثله القيم التي يؤمن بها من جهة، وإقناع خصومه بتفاهتهم ومحاولة " تقزيمهم" أمام عظمة فكرته وتكاملها وقدرتها على إسعاد الناس جميعا. كما تدفعه إمكانية مواجهة الخصم ماديا إلى الاعتناء بالمجال الاقتصادي والصناعي وتكوين جيش قوي لمجابهة كل التحديات الممكنة والتي يمكن إن تهدد فكرته..
وهكذا تبدأ حضارة هذا الشعب صاحب الفكرة والمفاهيم السامية الجديدة في صعود، أما أصحاب الحضارات الأخرى، إن كانت هناك حضارة قائمة فإما أن ينظموا إلى أصحاب الحضارة الصاعدة ويعتنقوا فكرتها السامية ويساندوها ويدعموها بمعارفهم وبالتالي تصبح إنجازاتهم تنتمي إلى الحضارة الجديدة. وإما أن يتزعزع اعتقادهم في فكرتهم التي بنوا عليها حضارتهم، فيفتقدون بذلك الحماس القادر على تمكينهم من مواصلة الإبداع وبناء الحضارة، عند ذلك تبدأ حضارتهم في أفول مستمر...وتضعف قوتهم المادية والمعنوية شيئا فشيئا أمام القوة الصاعدة والحضارة الجديدة.. كما يصبح الشعب صاحب الحضارة الآفلة مقلدا لظواهر وسلوكيات صاحب الحضارة الصاعدة، اعتقادا منه أن هذا التقليد قد يعيد فيه الحيوية من جديد– لكنه يبقى كالذي يريد أن ينجو من الغرق وما هو بناج، لأنه كلما اغرق في التقليد ابتعد أكثر عن إمكانية الشعور بالعزة، فتتبعثر أموره وتتذبذب حاله ويصبح كالكلب إن تحمل عليه يلهث وإن لم تحمل عليه يلهث..
الخاتمة
ظلّ " المفكرون وزعماء الإصلاح " في البلاد الإسلامية يعتقدون طويلا بان الأنظمة والتشريعات السياسية والاجتماعية هي التي ستنهض أمتهم من كبوتهم، فاقتبسوا أنظمة الغرب وتشريعاته، لكن دون جدوى... وما دروا انه على الرغم من تنوع الأنظمة والتشريعات قامت الحضارات العديدة في التاريخ الإنساني .
إن القوانين والتشريعات ما هي إلا شكل من أشكال التنظيم في المجتمعات البشرية وتنبع عادة من حاجيات هذه المجتمعات وطموحاتها وتنبثق عن منظوماتها القيمية والفكرية ومفاهيمها عن الكون والإنسان والحياة .. وليس هناك أي سند تاريخي أو واقعي يدل على أن الحضارة تبنى نتيجة لهذه القوانين والنظم والتشريعات وإنما هو التباس الأوضاع وضبابية الرؤيا.
-----------------------------
المراجع
1* (أمين)احمد: زعماء الإصلاح في العصر الحديث بيروت – دار الكتاب العربي 1979.
- ( شرابي)هشام: المثقفون العرب والغرب بيروت – دار النهار 1973.
2* انظر كتاب الرحالون العرب وحضارة الغرب في النهضة العربية الحديثة د نازك سابايارد الطبعة الأولى 1979.
3 *نفس المرجع
4 *مستقبل الثقافة بمصر د طه حسين .
5 *الإسلام في مفترق الطرق تعريب عمر فروج .
6*راجع مثلا: دراسة في السيرة للدكتور عماد الدين خليل، مؤسسة الرسالة، الطبعة الخامسة 1981.
7* كارل ماركس" بيان الحزب الشيوعي"
8*(يكن)فتحي:كيف ندعو إلى الإسلام ص55
9*خفاجي المحامي (عبد الحليم )حوار مع الشيوعيين في أقبية السجون ص55
10*المرجع. العلمانية وانتشارها غربا وشرقا ،فتحي ألقاسمي – سلسلة موافقات –الدار التونسية للنشر – فيفري 1994)
11*فولغين(ف)فلسفة الأنوار- بيروت – دار الطليعة ط1981
12*يقول الله عز وجل : « الله ولي الذين امنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون » - (سورة البقرة الاية257 )
* ويقول فولتير احد زعماء التنوير الأوروبي: إن محمدا ولد أميرا واستدعي لتسلم مقاليد الأمور عن طريق الناس له ... ولو انه وضع قوانين سليمة ودافع عن بلاده، لكان من الممكن احترامه وتبجيله ولكن عندما يقوم راعي ابل بثورة ويزعم انه كلم جبريل وانه تلقى هذا الكتاب غير المفهوم الذي تطالع في كل صفحة منه خرقا للتفكير المتزن حيث يقتل الرجال ويخطف النساء لحملهم على الإيمان بهذا الكتاب، مثل هذا السلوك لا يمكن أن يدافع عنه إنسان لم تكن الخرافات قد خنقت فيه نور الطبيعة.
*ويقول ماركس:« إن كل دين ليس سوى الانعكاس الواهم في دماغ البشر للقوى الطبيعية التي تسيطر على وجودهم اليومي»
أية ثقافــة نريد؟
اشتقت كلمة الثقافة من ثقف يثقف، وثقف العود بمعنى سواه وهذبه وبذلك يصبح مدلول كلمة ثقافة كل ما من شانه تهذيب سلوك البشر والرقي به من حالة الحيوانية إلى مدا رج الإنسانية الفاضلة.. إن الثقافة لها أهمية قصوى لدى الكائن البشري فهي لا تخرج عن كونها تهذيب لخصائص الإنسان الطبيعية، وتشذيب لخصاله المتوحشة، وتغيير لما جبلته عليه فطرته الحيوانية تغييرا يستوي بالتدريج هوية ثقافية.. وإذ تعلو الثقافة بالكائن البشري عن منازل التوحش، فإنها تكسبه خصائص جديدة يؤصلها فيه تراكمها وتصاعدها، فتغير لديه جوهره الطبيعي الغريزي المتوحش، ويكون التغيير تهذيبا وتشذيبا من جهة وتعديلا وتبديلا من جهة أخرى. فالثقافة تهذب، على سبيل الذكر، غريزة التناسل وحب البقاء، فتنقلها بالتشذيب والتثقيف من طور التوحش الغريزي إلى طور الثقافة المكتسبة التي تقيدها بمؤسسة الزواج مثلا، وتحسنها باختلاجات الوجدان وصنائع العقل...
كما تعكس الثقافة ـ بمفهومها الأنتروبولوجي ـ خصوصية المجتمع والقيم التي يتبناها والمفاهيم التي ينظر من خلالها إلى الحياة والكيفية التي يتعامل بها الفرد مع نفسه ومع بقية الأطراف الاجتماعية.. كما تعكس مواقف تلك المجموعة البشرية من الكون والحياة والعالم وما بلغوه من ارتفاع فكري ورقي حضاري ونماء ذوقي.. وازدهار الثقافة أو تطورها متوقف إلي حد كبير علي ما يسود بين أفراد المجتمع وجماعاته من حوار بناء وتنافس نزيه في مختلف ميادين الحياة ودروبها ومشكلاتها، بما يعنيه من تنوع في وجهات النظر وترك الفرصة أمام جميع الفرقاء ليدلي كل واحد بدلوه دون إقصاء. وهذا لن يحدث ما لم يلتزم كل صاحب رأي بأدب النقاش والاختلاف، جاعلا نصب عينيه أن غايته من بذل الجهد الفكري هو تقدم بلاد الإسلام وعزتها وتحصينها ضد كل الأدواء التي يمكن أن تعرضها للخطر، عندها، يصبح اختلافنا رحمة تنشر ظلالها الوارفة وثمارها اليانعة علي الجميع فنختار الرأي الأصوب والأقرب لمصلحتنا حاضرا ومستقبلا، مـتـعـاونين ومتحفزين دوما إلي ما هو خير وأحسن، ونرتقي في جو من التسامح والتعاون والتكامل...
لقد احتاجت الأمم الناهضة دائما إلى بلورة فكرية- ثقافية في شخصيتها وقيمها ومعاييرها.. فلكل شعب من شعوب الدنيا سماته وشخصيته المتفردة. ومهمة المفكر أو المصلح في أية امة من الأمم هي البحث عن هذه السمات والخصائص بغية اكتشاف ما فيها من عناصر أصيلة لتقريبها واخذ الصالح منها. وما يمكن أن يكون فيها من شوائب دخيلة ومن ثم يعمل عل حذفها واستبعادها. وهي مهمة صعبة وعسيرة وتحتاج إلى كثير من الإرادة والمسؤولية.. وإذا ما أردنا النهوض من كبوتنا الحضارية فلا بد لنا أن نجعل من الثقافة الإسلامية والثوابت الالاهية ركيزة أساسية من ركائز التغيير ودعامة صلبة للمجتمع المدني الذي ننشده وحافزا لكل نهضة وإبداع حضاري.. فلا تقدم ولا تطور لمجتمع بشري بدون ثقافة ناضجة ومتحفزة لاختراق الآفاق واعتلاء القمم.. تستنفر كافة قوى الإنسان وطاقاته وقدراته على البذل والعطاء والمشاركة الفعالة في تحريك هياكل المجتمع والمساهمة في بناء لبناته وتأسيس كيانه ونحت ملامحه..
إن كل مجتمع ينشد الرقي والازدهار لا بد له من ثقافة مميزة يتخذها ركيزة ودعامة صلبة للانطلاق والإقلاع الحضاري وإلا فانه سيضيع في متاهات الطريق. ويفقد توازنه على الفعل وتحبط أعماله ومجهودا ته وينتكس إلى الوراء...
فما هي أبرز الخصائص التي نريدها لثقافتنا...؟ وما هي حدودها...؟
إن الثقافة التي نريد، لها مواصفات وقرائن وهي تلك التي لها القدرة الكاملة علي تلبية حاجياتنا العضوية والغرائزية، وتتوفر علي قدر من الانسجام مع شخصيتنا الحضارية والعقائدية والمفاهيم القرآنية وتستجيب لطموحاتنا الفكرية والروحية بحيث تصل بالفرد والمجموعة إلى الانسجام والتوازن المادي والمعنوي، وتحفزهم لبلوغ ما وراء العرش تطورا وازدهارا ومواجهة تحديات:« الأخر/ العدو» على كافة الأصعدة: الثقافية والسياسية والاقتصادية والعسكرية.. ولا قيمة لثقافة تطلب من الإنسان أن يعيش مسكينا ومحروما من ملذات الدنيا وطيباتها التي أحلها الله لعباده:« قل من حرم زينة الله التي اخرج لعباده والطيبات من الرزق ».. ولا قيمة لثقافة تكبت غرائز الإنسان الطبيعية أو تطلب منه تأجيل تلبيتها إلى وقت يصل فيه إلى حافة القبر.. أو تعطل طاقاته ومواهبه أو تحد من طموحه ورنوه إلى أعلى.. كما نرفض ثقافة تطمس شخصيتنا وتميزنا، وتسعى إلي دمجنا وصهرنا إلي حد الذوبان في «الأخر/ العدو» لتحيلنا في النهاية إلي إذناب ليس لهم حول ولا قوة...
ويمكننا أن نجمل مرتكزات الثقافة التي نريد في النقاط التالية:
*الإيمان بالله خالق وحيد للكون والإنسان والحياة ورب أوحد الجدير بالطاعة والخضوع وإتباع أوامره..«اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق.» (سورة العلق الآية 1و2).
*القرآن الكريم الكتاب الوحيد الذي يحتوي على الحقائق المتطابقة مع الواقع في الكون والإنسان والحياة والمجتمع وهو الكتاب الوحيد الذي يستمد منه المسلم كافة مفاهيمه في مختلف ميادين الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، داخليا وخارجيا..لأنه من عند الله العزيز الحكيم« إلاّ يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ».
*لا بد من العودة إلى التأسي والاقتباس من المرحلة التاريخية التي تم فيها ميلاد المجتمع الإسلامي الأول، فلهذه الفترة قدسيتها وعصمتها لان رعاية الله كانت مستمرة، وتسديد الوحي كان مرافقا لكل خطوة وخلجة نفس، وهذا لن يتأتى لأية مرحلة تاريخية أخرى من حياة الأمة المسلمة. فالسيرة النبوية تشكل بالنسبة لنا أنموذج الإقتداء الوحيد الذي يجب أن يحتذى والمعالم ووسائل الإيضاح لآيات القران المجيد للاهتداء على ضوئها والسير طبقا لتعاليمها، إن تلك القدسية لا يمكن أن تكون لأية فترة ماضية أو حاضرة أو مستقبلة...
*بناء الإنسان المؤمن بالله الذي يستلهم في علاقاته بالكون والإنسان والحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الثوابت القرآنية ويستمد منها مفاهيمه وإن تلك الثوابت هي حقائق أزلية قد سارت على هداها كل المجتمعات\القدوة في الصلاح والتطور وقيادة الشعوب من لدن نوح عليه السلام.. إلى محمد الرسول القدوة. فالسيرة النبوية تشكل لنا أنموذج الإقتداء الوحيد الذي يجب أن يحتذي والمعالم ووسائل الإيضاح لآيات القران المجيد-المكي والمدني- للاهتداء على ضوئها والسير طبقا لتعاليمها.فهي المعين الذي يمد المسلمين في العصر الحديث بدروس العبر وضوابط النصر والظفر. يقول الله عز وجل: « شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه...» (سورة الشورى الآية 13).
*هناك صنفان من البشر لا ثالث لهما في الثقافة الإسلامية والمفهوم القرآني: مؤمن /أو كافر. مؤمن متبع لهدى الله قد اختار أن يتخذ من الله ربا ومن الإسلام دينا يخضع لشريعته بملء إرادته. وكافر معرض عن ذكر الله وآياته قد اتخذ أربابا أخرى من دون الله. فمنذ هبوط ادم إلى الأرض خاطبه الله قائلا: « فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن اعرض عن ذكري فان له معيشة ضنكا...» (سورة طه الآيات 123- 124).
هذه حدود ومرتكزات للثقافة التي ننشدها لا بد من استحضارها دائما ونحن نرنو إلي مستقبل أفضل، جاعلين نصب أعيننا انتمائنا الحضاري إلى خير امة أخرجت للناس وقد انزل الله عليها القران لتكون رحمة للعالمين. وشاهدة عليهم دنيا وآخرة.
أية حداثة نريد ؟
رغم مرور أكثر من قرنين منذ أن غزا بونابرت مصر سنة 1798م فان سؤال ‹‹كيف نتقدم؟››لا يزال يطرح بأشكال متعددة..
فمنذ تلك الغزوة بدا المسلمون يفركون عيونهم بعد نوم عميق كان سببا في إخراجهم من حلبة التنافس الحضاري لزمن طويل.. وقد اختلفت المقاربات وتنوعت في كيفية امتلاك منابع القوة والقدرة على الفعل وصنع أحداث التاريخ مرة أخرى كما كان أجدادنا يفعلون منذ انبلاج فجر الإسلام العظيم. فهم قد امتلكوا ناصية الأمم لردح طويل من الزمن وقادوها بالنور الذي انزله الله على امة الإسلام رحمة للبشرية كافة..
لقد أضحت قضية ما صار يعرف ب" الحداثة " قضية محورية مزمنة في تاريخ المجتمع العربي الإسلامي الحديث، ولم تتوضح الحلول المقنعة لجميع الأطراف إلى حد الآن..
وفيما يلي سأحاول تقديم مقاربة لقضية الحداثة الإسلامية عساي أساهم ولو بلبنة في المضي قدما للحسم في هذه القضية الشائكة....
فماذا نقصد بالحداثة تحديدا ؟
ما نعنيه بالحداثة هو: ‹‹ ذلك الصراع المحتد بين الأمم من اجل آن تكون امة هي الأقوى والأغنى والأوربي من بقية الأمم.. وامتلاك القدرة على التغيير الذاتي والتطوير المستمر نحو الأفضل لجميع هياكلها المسيرة، ويحصل أهلها على الأمن من الاعتداءات، مطمئنة مستقرة لا يخاف أهلها ولا يضايقهم شيء.. ".يأتيها رزقها رغدا من كل مكان"...››
وعلى النقيض من ذلك فان الأمة المتخلفة هي تلك التي يعيش أفرادها الجوع والحرمان والفزع والهلع ويشتد ألمهم علي مر الزمان، كما يكثر التطاحن والاجتماعي والصراع بين أفرادها!!...
فما هو السبيل لبناء حداثة إسلامية جديدة ؟
لقد احتاجت الشعوب التي استطاعت تشييد حضارة وقيادة الأمم في مرحلة زمنية معينة وتتوفر على معاني الحداثة التي حددناها آنفا إلى‹‹فكرة إنسانية سامية›› تأخذ بالألباب وتبهر العقول وتثير العواطف الإنسانية وتحرك الحواس الناعسة...فلقد حمل العرب المسلمون فكرة ‹‹إخراج الناس من الظلمات إلي النور››... ورفع الغرب شعار ‹‹تخليص الإنسان من القصور الذي كبلته به الكنيسة بوصايتها عليه والدعوة إلى الحرية والأخوة والمساواة››.. ووعد الاشتراكيون أتباعهم ب‹‹إيجاد جنة أرضية للعمال المسحوقين››...
وهكذا احتاجت هذه الحضارات الثلاث: (الإسلامية والغربية والاشتراكية)إلى:‹‹ فكرة إنسانية سامية›› لتجلب إليها الأنصار وتضمهم إلي صفوفها وتجعلهم مستعدين للنضال والتضحية في سبيل إنزال هذه ‹‹الفكرة السامية›› إلي الواقع المعيش ليحيا في ظلها الناس، بل وكان أنصار هذه الفكرة يغزون أو يفتحون أو يستعمرون الأصقاع باسم هذه ‹‹الفكرة الإنسانية السامية››... ولقد مثلت ‹‹ﺍﻠﺣﺪﺍﺜﺔ›› دائما قطيعة تامة بين عهدين، عهد الظلمات والمظالم والتخلف وعجز الإنسان عن الفعل الايجابي والغيبوبة التاريخية، وبين عهد جديد يتحرر فيه هذا الإنسان من سلطة التراث والتبعية والتقليد الأعمى لهذا الطرف أو ذاك وامتلاك زمام النفس والمبادرة وكسر القيود ـ بمختلف تشكلاتها التي تكبله.... وتمنعه من التحاور مباشرة مع واقعه، واختيار أنجع الطرق والوسائل والتقنيات لتجاوز الموروث سواء أكان هذا الموروث ينتمي إلي حضارة الأجداد أو حضارات الأمم الأخرى، قديما كان أو حديثا..
فالإنسان‹‹الحداثي›› هو ذاك الذي يمتلك القدرة الفائقة علي الاستفادة من الموروث الإنساني في جميع الميادين متحررا من كل ما يعيقه عن الإضافة والإبداع والتجاوز ومزيد بسط سلطته وهيمنته على الكون والحياة والارتقاء بأخيه الإنسان إلى السيادة المطلقة على كل شيء في هذا الكون الشاسع، حتى يتفرغ بعد ذلك لعبادة خالق الكون والحياة، فالإنسان سيد وحيد لهذا الكون والله رب وحيد للإنسان، فلا يخضعن هذا الإنسان لسلطة أخرى مهما كان مصدرها...سوى لسلطة الله خالق الكون والحياة والإنسان... وهو(الإنسان)في كدح متواصل حتى يلتقي بالملا الأعلى.. وقد أفرغ جميع شحناته وطاقاته وقدراته في هذه الأرض التي قبل أن يكون سيدا عليها وعبدا لخالقها وحاملا لأمانة الله في الأرض:« أنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان انه كان ظلوما جهولا ».
لقد ابتلي المسلمون قديما وحديثا بمن حول أحداث التاريخ وتجارب المسلمين السابقة إلي صنم / عائق يتعبدون في محرابه مرددا قول العرب القدامى في مواجهتهم للإسلام:‹‹ما سعنا بهذا في آبائنا الأولين›› و‹‹إنا وجدنا آبائنا علي امة وإنا علي أثارهم مقتدون ›› متناسين التزامهم بتوحيد الله والخضوع لربوبيته بما يعني عدم خضوعهم إلاّ لأوامر الله ونواهيه والسير على هدي القرآن العظيم. وقد حالت هذه المواقف المتخلفة بيننا وبين الحداثة الحق والتقدم السليم ورؤية ما يدور حولنا من أحداث متجددة ووقائع حياتية معاصرة تفرض علينا حلولا أخرى غير التي ارتآها أجدادنا لتغير الملابسات ! وكل هذا يتطلب اجتهادا وإعمالا للعقل لاستنباط الحلول الملائمة للمشكلات المعيشية والحياتية التي تواجهنا في حياتنا الدنيا وتعيق بلداننا عن النهوض والتقدم وتحقيق العزة والشهادة على بقية الأمم والشعوب بما نمتلكه من ثوابت الاهية/آيات / بصائر في الكون والإنسان والمجتمع تهبنا القدرة على معرفة السلوك القويم في مختلف دروب الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها...
كما ابتلينا بمن اتخذ منجزات الغرب وحضارته صنما/عائقا يعتقل عقلنا ويمنعنا من فهم متطلبات حياتنا وتحقيق سيادتنا على حاضرنا ومستقبلنا. وقد حال كل ذلك بيننا وبين الاعتماد على النفس لتحقيق إنجازاتنا الحضارية الخاصة بنا حتى نكون أهلا لقيادة العالم من جديد.
فما نملكه من ثوابت إلهية في جميع ميادين الحياة يعطينا الحق في قيادة الشعوب – إن نحن استمسكنا بها- والتصدر لتوجيهها نحو الخير والفضيلة حتى نكمل رسالة من ابتعثه الله رحمة للناس كافة..
إن الإبداع الحضاري والابتكار والتقدم مرهون إلي حد كبير بثقة الإنسان في صحة مبادئه واعتقاده في تفوقها على جميع المبادئ الأخرى، وإن ما نتج عن الحضارة الغربية إلي حد الآن من تعميق للهوة بين الفقراء والأغنياء ومن احتجاجات عالمية عن ‹‹الكيل بمكيالين ›› وما نراه ونسمعه من تطاحن رهيب وتقاتل على الحكم والمسؤولية باسم الديمقراطية الغربية.. وعدم استقرار للمجتمعات الغربية نفسها، وانتشار للظلم والعنصرية والحروب المدمرة واستفراد أقلية بالثروات الكونية... كل ذلك يجعل من إقناع الأمة الإسلامية بصحة هذه المبادئ والقيم الغربية أمرا متعذرا إن لم يكن مستحيلا، خاصة وهي الوارثة للقرآن العظيم الذي لم يثبت إلي حد اليوم أنه يحتوي على آية واحدة من شانها أن تعرقل التطور أو تقف في وجه الإبداع الحضاري في مختلف الميادين، لأن هذه الآيات لم تعالج مطلقا متغيرات الحياة البشرية وإنما نصت جميعها علي الثوابت/الحقائق التي تتطابق مع الواقع في الكون والحياة والإنسان وهي معادلات تخترق الزمان والمكان. وقد تركت هذه الآيات حرية الإبداع والاجتهاد في كل المتغيرات المعيشية التي يمكن أن تطرأ على حياة الإنسان بشرط استلهامه هذه الحقائق في اجتهاداته المختلفة. ففي قضية العلم مثلا نجد النص القرآني لم يحدد مطلقا الوسائل والأساليب التي يمكن أن يتبعها الإنسان لتحصيل العلم واختراق الآفاق وتحقيق الاكتشافات لأنها متغيرة بتغير الزمان والمكان وبحسب اجتهاد الإنسان وحاجاته، لكنها أجمعت كلها على ضرورة طلب العلم وجعله مفتاحا لكل ما يفيد الإنسان في دينه ودنياه، وفي السياسة نص القرآن علي وجوب الشورى في جميع ما يهم شؤون المسلمين الخاصة والعامة وحث المسلمين علي العدل واجتناب الهوى والحكم بما انزل الله في كتابه العزيز وعدم التمييز بين الناس:«يا أيها الذين امنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو اقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون» (سورة المائدة الآية 8 )، وتحريم الفساد في الأرض أو قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق أو جعل ثروات البلاد -التي هي ملك لله - دولة بين الأغنياء... وطالب باشتراك المسلمين جميعا في تحمل المسؤولية وتكوين: "أمّة" تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتتبع ما أوحى الله به إلى محمد صلى الله عليه وسلم /قدوة كل من أسلم وجهه لله رب العالمين، خلال مرحلتين: مرحلة الدعوة(المرحلة المكية)ومرحلة الدولة(المرحلة المدنية ).. وهكذا دواليك.... ودور الإنسان أن يعتمد هذه الثوابت المعلنة لاستنباط المؤسسات الكفيلة بإنزالها إلي حيز الواقع المعيش حتى ينعم الناس - جميع الناس- برحمة السماء ويأمنوا على حياتهم وأرزاقهم ومكتسبا تهم ويمتلكوا القدرة علي الإضافة والإبداع ويواصلوا أداء رسالتهم في الحياة.. يقول الله عز وجل :‹‹قل لوكان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفذ كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا ›› ﴿الكهف الآية عدد 109 ﴾ فما الذي أصابنا في العصر الحديث حتى صرنا عاجزين عن استنباط ما يلزمنا من حلول لإصلاح معيشتنا انطلاقا من آيات الله التي لا تنفذ معانيها أبدا وصرنا نتخبط خبطا عشواء معرضين عن نور الله!؟
إن اقتحام أ متنا لعصر العولمة باقتدار وجدارة وامتياز، رهين لشروط وقرائن لأبد من استحضارها جميعا حتى نفوز بقصب السبق في جميع الميادين الحضارية:
* إذ لابد من استعمال عقولنا وحواسنا نحن لمواجهة مشكلاتنا الحياتية، واستنباط ما يلائمنا من حلول لمختلف مشكلاتنا بما يتوافق مع مصلحتنا حاضرا ومستقبلا مستندين في ذلك إلى كتاب الله، بدلا من استنساخ الحلول القادمة من وراء البحار وإسقاطها على شعوبنا المسلمة والكف عن استعارة عقول ‹‹الآخرين /الأعداء›› وطرق تفكيرهم ومناهجهم في بحث المشكلات العالقة...
*لا بد من استحضار الواقع المعيش بكل تجلياته وتعقيداته.. ولا فائدة من ستر أمراضنا مهما كان الداء مستحكما بدعوى الحفاظ على أسرارنا وعيوبنا حتى لا يستغلها الأعداء !!؟ إن منطق التستر على الآفات التي تكدر صفو حياتنا السياسية والثقافية والاجتماعية والعلمية وغيرها قد زاد الطين بلة حتى صارت الجراثيم تصول وتجول وترتع حيثما شاءت وتعفن ما قدرت على اقتحامه من حياتنا حتى بدا لنا العلاج متعذرا لشدة ما فتكت بنا الأمراض وألحقته في نفوسنا من أذى وفي أجسادنا من جراح مثخنة. وكل هذا يتطلب وقفة حازمة صادقة خالية من العقد لنواجهه بصبر وثبات وننقذ حياتنا مهما تطلب ذلك من تضحيات....
*لا بد عند بحثنا لمجمل قضايانا أن نعود إلي ثوابتنا القيمية والحضارية والتي يمكن اختزالها في القرآن أساسا مستعينين في فك المستغلق من هذه الثوابت ـ إذا شئنا ـ بإنجازات كل الحضارات الإنسانية بدون استثناء دون إن يعيقنا ذلك عن المضي فدما في طريق بناء الحضارة الإسلامية الجديدة مستفيدين مما يمكن الاستفادة منه ودون الارتهان لتلك الإنجازات قديمها وحديثها...
إن أخذ كل هذه الشروط والاعتبارات لمواجهة كل مشكلاتنا الحياتية والحضارية من شأنه أن يعيد لنا القدرة علي الفعل والتحفز أكثر على الإنجاز واختراق الأفاق وبلوغ ما وراء العرش تطورا وازدهارا وتقدما حتى نكون أهلا لقيادة مسيرة البشرية من جديد.
الهجرة في سبيل الله
تعني الهجرة بأبسط مدلولاتها الانتقال من مكان إلى مكان وهجر مكان إلى أخر لأكثر من سبب، وهي قضية قديمة قدم وجود الإنسان على الأرض... لكننا سنهتم فيما يلي فقط بالهجرة في سبيل الله ومفهومها في القرآن.. تبتدئ الهجرة إلى الله باعتزال فكري/ نفسي داخل المجتمع الذي يحيا فيه المؤمن وذلك بالانخلاع من العادات والعبادات والتصورات والمفاهيم غير الإسلامية... وتنتهي بهجرة عملية حركية بالانتقال من موقع إذا ما تبين عقمه في مجال العطاء الإسلامي إلى مواقع أخرى أكثر خصبا ونماء..
1- الاعتزال الفكري/ النفسي وعدم الركون إلى الظلم:
الاعتزال الفكري يعني معرفة الحق ومن ثم الارتحال إليه فكريا والالتزام به قولا وعملا والثبات عليه والاستمساك به، وهو طريق الرسل عليهم السلام وكل الذين اختاروا السير على دربهم من المؤمنين عبر مختلف أحقاب التاريخ البشري – منذ نزول ادم عليه السلام إلى الأرض-. وهي ثمرة الأيمان بالله خالق الكون والإنسان والحياة، وتوحيده والخضوع لأمره، وبالتالي هي اصطباغ بالمفاهيم الإسلامية في النظرة للكون والإنسان والحياة والمجتمع التي ضمنها الله كتابه المعجز الموحى به إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم.. .يقص القرآن علينا قصة أصحاب الكهف – الفتية الذين امنوا بربهم : « هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين فمن اظلم ممن افترى على الله كذبا. وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا» (سورة الكهف الآيتين 15 و16). كما اخبرنا الله عن قصة نبيه إبراهيم عليه السلام مع أبيه وقومه: « واعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا» (سورة مريم الآية 4).
إن الإيمان بالله يوجب على المسلم الاستقامة بإتباع الوحي في كل صغيرة وكبيرة دون تجاوزه مهما كانت المبررات والضغوطات.!«فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا انه بما تعملون بصير. ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون» (سورة هود الآيتين112 و113).
إن استمساك المؤمن بالحق والخضوع لأوامر الله ونواهيه في العقيدة وما ينبثق عنها من سلوك قويم في مختلف ميادين الحياة ليس بالأمر الهين في محيط مجتمع تهيمن على معتقدات أفراده الأباطيل والخرافات وعلى سلوكياتهم وأقوالهم الظلم والفساد والمنكر والتقليد الأعمى لميراث الأجداد بغثه وسمينه:«وإذا قيل لهم اتبعوا ما انزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان إباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون»(سورة البقرة الآية 170)... إن التعارض والتضاد والتناقض حد العداء بين ما أصبح ينتهجه المؤمن من سلوك قويم مستندا في ذلك إلى أوامر الله في القرآن بفضل إيمانه بالله رب وحيد لكل مفاهيمه في الحياة وبين معتقدات المجتمع ومفاهيمه التي ترتكز أساسا على موروث الآباء والأجداد أو ما ترتئيه أهواؤهم أو ما يشرعه لهم نخبهم ورجال أديانهم... ينتج عنه حتما صراع بين أهل الإيمان الذين يستمدون مفهوم حياتهم من القرآن وبين أهل المعتقدات الزائفة. فيبدأ أهل الضلالات في أذية المؤمنين اعتقادا منهم أن الأذى قد يعيد المؤمنين إلى دائرة الجهل والطواغيت التي تعبد من دون الله وتطاع وتتخذ مرجعا في تقويم السلوك وسن التشريعات.. لكن الإيمان بالله يشحن المؤمنين بقدرة على تحمل إلاّ ذي والصبر على المكاره ومكر المناوئين والاستقامة كما أمر الله عز وجل في كتابه العزيز طمعا في مرضاته والفوز بجنته وعدم إتباع أهواء الذين لا يعلمون، متخذين من الرسول الكريم قدوة لهم: «قل يا عبادي الذين امنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وارض الله واسعة إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب» (سورة الزمر الآية 10).«لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا»(سورة الأحزاب الآية 21)
2- الهجرة في سبيل الله:
تعد الهجرة معلم خالد من معالم الدّعوة إلى الله وتحقيق العبودية لله رب العالمين.. وهي إحدى وسائل الصراع وصور المواجهة في المعركة بين الحق والباطل وطريقة للاستمساك بالحق والانتصار له... فهي في مضمونها وفي أصل شرعيتها انتصار للإيمان واستعلاء به وتحطيم للأغلال والقيود التي يحاول أعداء الحق إحكامها حول المؤمنين، وكسر للحواجز التي تحيط بالمؤمنين حتى لا يبلغوا دعوة الله، وسبيل لعدم السقوط تحت أقدام الطغاة والجبابرة استذلا لا واستعطافا لان ذلك يتنافى وكرامة الإنسان المؤمن وعزة نفسه.. لذلك يلاحظ المتأمل لحركة النبوة -من لدن ادم عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم- بان التفكير بالهجرة لا يبدأ والإذن بها لا يتحصل إلا عندما يستحيل أمر الدعوة ويحاط بها من كل جانب ويهدد الدعاة إلى الله في حياتهم وعندما تنعدم كل الخيارات إلا خيار الهجرة.. ومثال ذلك هجرة سيدنا موسى عليه السلام إلى مدين عندما أحيط به من كل جانب «وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملا يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين» (سورة القصص الآية 20 ). كما تقررت هجرة ا لرسول محمد صلى الله عليه وسلم وإذن بها لما اجتمع كيد الكفار في دار الندوة على الاشتراك في قتله وتوزيع دمه على القبائل «وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين» (سورة الأنفال الآية 30).
فالهجرة تتوجب عندما تفتقد الفاعلية ويتوقف العطاء على أرض المعركة وانسحاب مؤقت للعودة للمواجهة بوسائل أخرى، وهي ليست حركة انسحابية من المجتمع وتخليا وهروبا من مواجهة الظلم واستسلاما لواقع اليأس والإحباط.. وليس إيثارا للراحة وطلبا للعافية ولو كان الأمر كذلك لفقدت الهجرة هدفها وثوابها وأثرها وكونها وسيلة من وسائل التغيير الاجتماعي التي اعتمدها الأنبياء/ القدوة عليهم السلام .. لذلك لا يجوز للمؤمن التفكير في الهجرة إلى خارج الأرض التي يسكنها إلا إذا سدت الآفاق أمامه وفتن في دينه وظلم..«والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة اكبر لو كانوا يعلمون. الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون» (سورة النحل الآية 41 و42).
فالهجرة في سبيل الله هي إذن مواصلة للدعوة إلى الله والبحث عن النصرة لدين الله والتمكين لشريعته في ارض الله الواسعة:«ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم» (سورة النحل الآية 110)، لان المؤمن يعتقد أن الأرض كلها لله يورثها عباده الصالحين، «الموسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين» (سورة الأعراف الآية 128 ). بل إن انتصار الحق على الباطل وتمكين الله للمؤمنين في الأرض هو قانون من قوانين الله في الكون والحياة:«ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون»(سورة الأنبياء الآية 105 ).
الرحمة المهداة للعالمين
عاش الرسول الأمي محمد صلى الله عليه وسلم يتيما فقيرا مدة أربعين سنة ثم اجتباه ربه من بين جميع البشر ليكون المبلغ عن الله كلماته للناس كافة، وقد كان محمد صلى الله عليه وسلم في مستوى التكليف والمسؤولية الملقاة على عاتقه، فاستوعب آيات الله البينات، وامن بها وجسدها في أخلاقه ومعاملاته ومعتقداته ونظرته لكل تفاصيل الحياة البشرية فكان خلقه القرآن، واستطاع بصبره على أذى قومه بمكة أن يؤسس مجتمعا إسلاميا بالمدينة يدين بالإسلام في جميع مناحي الحياة الثقافية والسياسية الاجتماعية والاقتصادية والتشريعية...
إن آيات الله الموحى بها إلى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم تتناول كلها الحقائق والمفاهيم الثابتة في الكون والإنسان والحياة لأنها من عند العزيز العليم رب السماوات والأرض، ربّ العالمين، وهي حقائق لا تتبدل ولا تتغير منذ خلق الله الكون والإنسان والحياة، وقد أوحى الله بهذه الحقائق إلى كل أنبيائه عليهم السلام بلغاتهم المختلفة لتكون للمؤمنين بهؤلاء الأنبياء النور الذي به يهتدون في ظلمات الحياة ودروبها المتشعبة المدلهمة، يقول الله العليم الحكيم:«شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب» (سورة الشورى الآية 13).
لقد جاءت كلمات الله البينات لتفك كل رموز الحياة وتصحح مفاهيم الإنسان عن الألوهية والربوبية الحقة والكون والإنسان والحياة وتجعل الإنسان على بينة من أمره ليحيا من حيي عن بينة ويهلك من هلك عن بينة، وهي مهمة قد تكفل الله بها منذ نزول ادم عليه السلام إلى الأرض:«قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون» (سورة البقرة الآيتين 38 و39). وقد شاءت حكمة الله عز وجل أن يجعل من أسباب الحياة الطيبة الهنية الاهتداء بآياته البينات في جميع مناحي الحياة، يقول الله عز وجل:«قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى. ومن اعرض عن ذكري فان له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى. قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا. قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى» (سورة طه الآيات 123و124و125و126 ).
لقد كرّس الرّسول محمد صلى الله عليه وسلم كل حياته في سبيل إنارة درب أمته الإسلامية بمفاهيم الإسلام وجعلها خير امة أخرجت للناس للشهادة عليهم وقيادتهم وإخراج من شاء منهم من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده خالق الكون والإنسان والحياة الجدير بالعبادة، ومن ضيق الدنيا - بفعل الأغلال والتقاليد التي يلزمون بها أنفسهم إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان الباطلة إلى عدل الإسلام ورحمة الله التي وسعت كل شيء، قدوته في كل ذلك جميع الأنبياء السابقين عليهم السلام ما داموا يشتركون جميعا في حمل نفس الرسالة الموحى بها من الله رب العالمين: «يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم. وإن هذه أمتكم امة واحدة وأنا ربكم فاتقون.» (سورة المؤمنون الآية 51 و52). إن إقتداء الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بالرسل من قبله يأتي من منطلق وحدة الرسالة الالاهية التي بشروا بها أقوامهم على اختلاف أزمانهم وأوطانهم كما يأتي استجابة لأوامر الله عز وجل الذي قص عليه قصصهم في القرآن مع أقوامهم وكيفية تعامل كل واحد منهم مع قومه في التبشير والإنذار بالرسالة الالاهية التي كلفوا جميعا بإبلاغها إلى أقوامهم في إطار من الوضوح والبيان يقول الله عز وجل:«أولئك الذين أتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فان يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين. أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسالكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين» (سورة الأنعام الآيتين 89 و90).
فالله عز وجل قد أبان للإنسان المنهج الحق والشريعة الحق منذ خلق ادم عليه السلام لذلك نجده عز وجل يخاطب عبده ادم عليه السلام قائلا:«اهبطوا منها جميعا – الجنة- فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون» (سورة البقرة الآيتين 38 و39 ). كما نجد الله عز وجل يذكر المسلمين دائما بان القرآن هو كتاب الله الخالد الذي جاء مصدقا لما بين يديه من التوراة والإنجيل وكل الكتب الالاهية السابقة له:«إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى»(سورة الأعلى الآيتين 18و19)وعندما يخاطب الله بني إسرائيل يقول لهم:«يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون. وامنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون» (سورة البقرة الآيتين 40 و41). كما أن عقيدة المؤمن مبنية أساسا على الإيمان بالله وجميع كتبه ورسله... يقول الله عز وجل:«امن الرسول بما انزل إليه من ربه والمؤمنون كل امن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين احد من رسله وقالوا سمعنا واطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير» (سورة البقرة الآية 285 ). وعندما يأمر الله عز وجل المؤمنين بصيام شهر رمضان يذكرهم بان فريضة الصيام قد فرضت على المؤمنين من أتباع الرسل السابقين أيضا... يقول الله تبارك وتعالى:«يا أيها الذين امنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون»(سورة البقرة الآية 183). والحاصل إن شريعة الله مكتملة منذ خلق الله عز وجل ادم عليه السلام وقرر أن يجعله خليفة في الأرض، فأوامر الله ونواهيه ثابتة لا تتغير ولا تتبدل بتغير الزمان أو المكان، وكانت المهمة الأساسية لرسل الله عليهم السلام تذكير أقوامهم بها ليسير على هديها من شاء ويكفر بها من شاء، والمتبعون لها يسميهم الله:«المؤمنون والمهتدون وأولو الألباب وأولو العلم...» وغير المتبعين لتعاليم الله يسميهم الله:«المشركون والكفار والمنافقون والعصاة والظالمون والذين لا يعقلون والجاهلون كما يشبههم الله عز وجل بالأنعام بل هم أضل... وبالتالي لم يترك الله إمكانية للاجتهاد البشري في الدين ولو كان هذا المجتهد نبيا أو رسولا. فالتشريع قد اختص الله به دون سائر البشر وكل ما يحتاجه المؤمن في حياته الدنيا قد فصل الله فيه القول تفصيلا.. وقد أعلمنا الله عز وجل انه:«ما فرطنا في الكتاب من شيء» و«وكل شيء فصلناه تفصيلا». وهذا الإخبار ينزع عن المجتهدين في الدين أي مشروعية، بل إن الله يعتبر أن أتباع هؤلاء المجتهدين في الدين :"قد اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم" كما فعل اليهود والنصارى من قبل ..وبالتالي فان المجتهدين في الدين وأتباعهم هم كفار ومشركون في المفهوم القرآني! فالمؤمن بالله حق الإيمان المقتنع بربوبية الله عز وجل لا يحتاج لانتهاج السلوك القويم إلاّ لكتاب الله الذي انزل آيات بينات استطاع محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه من الأميين فهمها واستيعابها وإقامة دولة إسلامية قوية على أساسها أوصلت تعاليم الله إلى أقاصي الأرض.إن سلوك المؤمن يعتبر كله عبادة لله إذا ما اهتدي بهدي القرآن.. ولا يعبد الله إلا بما شرع في كتابه العزيز.
الوحي الإلاهي:
لقد جاء الوحي الالاهي منذ بداية نزوله على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم مبشرا بقراءة جديدة للكون والإنسان والحياة والربوبية الحقة والألوهية الصحيحة ومفاهيم مغايرة لما تعارف عليه البشر واصطلحوا عليه واستنتجوه من خلال تجاربهم الحياتية المحدودة زمانا ومكانا... إن القراءة الجديدة التي بشر بها الإسلام تصطبغ بصبغة الله الذي أحسن كل شيء خلقه:« اقرأ باسم ربك الذي خلق» فهي قراءة تبتدئ باسم الله وتنتهي باسم الله وهدفها الأساس فهم كلمات الله البينات لتجسيمها في الواقع المعيش للإنسان والسير على هداها في جميع مناحي الحياة لان كل سلوك المؤمن هي عبادة لله رب العالمين ما دام هذا السلوك منضبط بأوامر الله ونواهيه، وغايته ابتغاء وجه الله والإخلاص لدينه والفوز برضاه في الدنياوالآخرة...
لقد اخطر الله نبيه عليه السلام منذ بداية إنزال الوحي عليه بأنه عز وجل قد: «علم الإنسان ما لم يعلم» حتى لا يخطرن ببال إنسان مهما أوتي من علم انه يجوز له أن يفتي بغير ما انزل الله ولو كان نبيا:«قل ما كنت بدعا من الرسل وما ادري ما يفعل بي ولا بكم إن اتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين»(سورة الاحقاف الاية9). «وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا. ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا. إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا» (سورة الإسراء الآيات 73 و74 75. (
إن علم الله يتجاوز كل قدرات الإنسان الذهنية فالله قد أحاط بكل شيء علما أما معارف الإنسان فهي نسبية ومحدودة وهي مجرد استنتاجات وتخمينات قد تخطئ وقد تصيب، فالإنسان عاجز بقدراته الذهنية ووسائله المحدودة زمانا ومكانا أن يعرف السلوك القويم للإنسان في مختلف مجالات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية... وإنما هو قادر فقط بما وأتيه من إمكانيات ذهنية وتجريبية وتاريخية.. وقدرة على الاستفادة من حياة الكائنات والعوالم الأخرى أن يستنبط الحلول الملائمة لتطوير معيشته وابتكار أنجع السبل والوسائل لتيسير حياته كابتكار وسائل فلاحية متطورة والارتقاء بوسائل النقل البري والبحري والجوي وتيسير وسائل التعلم والمعرفة وصناعة آلات حربية ووسائل عسكرية اقدر على الفتك بالإنسان والتدمير وإهلاك الحرث والنسل...وقد سمى الله عزّ وجلّ كلّ ذلك "العلم بظاهر الحياة الدنيا": « يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا» (سورة الروم الآية 7). فاكتشاف القوانين الفيزيائية والكيميائية والجيولوجية وغيرها وتطويع كل ذلك لتيسير معيشة الإنسان وجلب الرفاهية له أمر متيسر لجميع البشر إذا ما تعلقت همتهم بذلك، أما السلوك الإنساني الرشيد الذي يرضي الله عز وجل ويضمن الحياة الطيبة والهانئة والمطمئنة للإنسان... فأمر متروك لخالق الكون والإنسان والحياة وحده، العليم بأسرار مخلوقاته، المطلع على كل خفاياها الظاهرة والباطنة...
الألوهية والربوبية:
لا أحد من الخلق ينكر أن الله عز وجل هو خالق كل شيء في الوجود وانه تعالى قد أحسن كل شيء خلقه، يقول عز وجل:«ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ». لكن الإشكالية الكبرى التي تنازع فيها البشر ولا يزالون يختلفون فيها ويقتتلون من أجلها ويتصارعون هي: ربوبيّة الله سبحانه وتعالى، والرّبوبية تعني في أبسط مفاهيمها خضوع العبد المؤمن بألوهية الله إلى كل أوامر الله ونواهيه والعمل بمقتضى آيات الله البينات، لذلك تساءل الله سؤالا استنكاريا:«أتقتلون رجلا يقول ربي الله ؟!». والذي يقول: "ربي الله" هو في المفهوم الإسلامي هو"المؤمن الحق "الذي يستحق الفوز بجنة عرضها السماوات والأرض، لذلك يتكرر في القرآن اقتران الإيمان بالله ب"العمل الصالح" أي العمل الذي يستضيء بنور الله وإلا أصبح إيمان المرء عدميا أي لا قيمة له، فالعمل الذي لا يقترن في ذهن صاحبه بربوبية الله أي أن يكون القصد منه التقرب إلى الله والسعي لمرضاته هو عمل كالهباء المنثور، يقول الله عز وجل: «وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا» ويقول أيضا: «والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الضمان ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب » (سورة النور الاية39). صدق الله العظيم.
جدلية الحداثة التغريبية
والتخلف الحضاري
لعل أغرب ابتكارات الحداثيين التغريبيين في عالمنا الإسلامي زعمهم أن كل ما هو قديم يتعارض مع الحداثة وبما أن«النص الديني» قديم في تقديرهم فلا يمكن حينئذ أن «يكون الأدب حديثا إلا اذا رفض كل نص مقدس» (كمال أبو ديب (. ولا يمكن لعاقل أن يقبل مثل هذه المعادلة التي تتنكر لأبسط حقائق الوجود، فالواقع لا يقر أبدا برفض القديم لأنه قديم أو قبول الجديد لمجرد انه جديد، بل يقبل الإنسان عادة على الأشياء التي يراها قادرة على تحقيق رغباته والإيفاء بحاجياته وتجسيد طموحاته.. فنحن حين نقرا للمعري مثلا أو المتنبي أو أبي نواس لا شك أننا نستفيد من تجربتهم الشعرية رغم طول العهد بيننا وبينهم، وبالتالي لا يمكن أن تطرح قضية الحداثة من حيث القدم أو الجدة بل الأصح أن تطرح قضية الحداثة من ناحية قيمة الشيء ومدى فاعليته في حياتنا المعاصرة. فما نراه نافعا لنا وقادرا على دفعنا نحو التجاوز والإبداع الأدبي أو التقدم الحضاري نستحضره ونأخذ منه ما يروق لنا وندع ما لا نفع فيه، فالمسالة لا تتعلق بمدى جدة الشيء أو قدمه زمنيا بقدر ما تتعلق«بجدوى الشيء أولا جدواه». فالشاعر طرفة بن العبد مثلا لا يزال حاضرا في ذاكرتنا فاعلا رغم طول العهد بيننا وبينه في حين يموت بعض شعراء« الحداثة » قبل أن يولدوا.
أما بخصوص النّص الدّيني ولأفترض أن- المقصود به القرآن – فلم تقف ولن تقف نصوصه –قديما أو حديثا- حجر عثرة في وجه الإبداع الأدبي أو غيره من المجالات الإبداعية والحضارية لسبب بسيط وهو أن هذه النصوص لم تتناول أبدا المتغيرات التي يمكن أن تطرأ على الحياة البشرية في أي زمان أو أي مكان وإنما نصت جميعها على الثوابت / الحقائق في الكون والإنسان والحياة وتركت للإنسان حرية التصرف في المتغيرات التي يمكن أن تطرأ على حياته بشرط أن يستلهم المسلم في اجتهاداته المختلفة تلك الثوابت ويستنير بحقائقها.. ولنأخذ مثلا قضية العلم، فالنص القرآني لم يحدد مطلقا الوسائل والأساليب التي يمكن أن يتبعها الإنسان لتحصيل العلم واختراق الآفاق لأنها متغيرة بتغير الزمان والمكان وبحسب اجتهاد الإنسان، لكنها أجمعت كلها على ضرورة طلب العلم واعتباره مفتاحا لكل ما يفيد الإنسان في دنياه وأخرته ولا يصح إيمان المرء إلا بالعلم الصحيح الذي هو القرآن...
إن أولئك الذين يربطون الحداثة بالمتغيرات الدائمة دون الارتكاز على ثوابت تحمينا من المنزلقات والمعوقات الخطيرة يريدوننا أن نكون كالشجرة التي اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار فلا تثمر أبدا بل تزداد يبسا على مر الزمن.أما الثوابت الواردة في النص القرآني / الديني فهي قادرة على جعلنا شجرة يانعة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها – إن نحن استرشدنا بها واتخذناها بصائر لنا – حتى لا نسير بالبشرية في دياجير الظلمة والضبابية المهلكة كما هوبائن في الحضارة الغربية المتداعية للسقوط.!.بل نشبع جوعها ونروي عطشها ونهديها طريق الأمن ورحمة السماء.
فالمتغيرات« الحداثية» إذن تدعونا إلى الضبابية وترك زمام أمورنا تذروها الرياح، مذبذبين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، ديدنا التردد والحيرة والتيه في دياجير الظلمة والتخلف والانحطاط.
توزيع الثروة في البلاد الإسلامية
درجت الحكومات في العالم الإسلامي على الإلقاء باللائمة على شحّ الموارد الطبيعية وقلة الثروات الاقتصادية في تفسير مظاهر الفقر بين الناس وعدم قدرتها على تلبية حاجيات مواطنيها والإيفاء بمتطلبات حياتهم الاجتماعية والصحية والثقافية وغيرها، وهذا لعمري تمويه وتضليل لعموم الناس حتى لا يطالبوا بحقهم في ثروات بلادهم، لان المشكلة الحقيقية التي توصل المواطنين في بلد ما إلى الفقر والحرمان بمختلف تشكلانه ليس فقر البلاد وقلة مواردها كما يزعم المضللون والمستكبرون بل التوزيع الظالم- الذي لا تراعى فيه حدود الله - للثروة مهما قلت، وعلى هذا الأساس فالمشكلة التي يجب أن يبحث لها عن حل هي فقر العباد وليس فقر البلاد، وعدم حصولهم على كفايتهم من الحاجيات والرغائب أي عدم قدرة الأفراد على تلبية حاجياتهم العضوية والغرائزية والفكرية...، وبعبارة أخرى المشكلة تكمن في توزيع الثروة وليس في إنتاج الثروة، فإنتاج الثروة أمر لا يختلف حوله الناس كاستعمال أحدث التقنيات العلمية والتقنية والتكنولوجية في الإنتاج..
أما مشكلة فقر الأفراد فأمر لا مناص منه فتحتاج إلى حل والحل يختلف باختلاف وجهة النظر والمفاهيم التي يؤمن بها الإنسان في الحياة كما يختلف باختلاف الشعوب والأمم على عكس مشكلة إنتاج الثروة.
وعلى خلفية المفهوم الإسلامي « الخلق كلهم عيال الله فأحبهم إلى الله انفعهم لعياله » يصبح مفهوم تآخي الناس والمساواة بينهم في المجتمع وأمام القضاء لا معنى له إذا لم تعززه عدالة اقتصادية واجتماعية تضمن لكل فرد حقه إزاء ما يقدمه لمجتمعه أو للناتج الاجتماعي، وتكفل ألا يستغل احد أحدا أو يبخسه حقه. فالعامل مثلا له أجره العادل لقاء مساهمته في الإنتاج والمعاملة الحسنة من قبل صاحب العمل، والحد الأدنى الذي يجب أن يحصل عليه العامل لقاء ما يقدمه من خدمات للمجتمع هو ما يؤمن للعامل كفايته من طعام جيد وملبس حسن له ولأسرته دون أن يكلف ما لا يطيق. أما الحد الأمثل فهو كما قرره النبي صلى الله عليه وسلم، الأجر الذي يمكن العامل من أن يأكل ويلبس، كما يأكل صاحب العمل ويلبس، فقال عليه الصلاة والسلام:« إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم من كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل ويلبسه مما يلبس » (رواه مسلم والبخاري). وعليه فان الأجر العادل لا يمكن أن يكون أقل من الحد الأدنى، وما ذلك إلا لينخفض التفاوت في الدخول ولتضييق الهوة التي تفصل العامل عن صاحب العمل في شروط معيشتهما، وهذا التفاوت لو حصل في المجتمع المسلم من شانه أن يوهن روابط الأخوة التي تعتبر سمة أساسية من سمات المجتمع المسلم الحق.
إن التفاوت الفاحش في الدخول والثروات وهو ما نراه اليوم منتشرا في كل « الدّول الإسلامية » ينافي جوهر الإسلام لان فيه قضاء محتما على مشاعر الأخوة التي يريد الإسلام بثها بين المسلمين" إنما المؤمنون إخوة"، وليس هناك أي مبرر يدعو إلى حصر الثروة « التي هي ملك لله خالق السماوات والأرض » عند قلة من الناس طالما أن الخالق سبحانه وتعالى لم يجعلها وقفا على فئة معينة.
إن عدالة التوزيع لثروة البلاد الإسلامية بين المسلمين في حدها الأدنى على الأقل من شانها أن توفر لكل فرد مستوى من المعيشة تهيؤه لان يحيا حياة تليق بكرامة الإنسان. ويتوجب على الدولة بعد ذلك أن تعمل على تامين العمل لمن يبحث عنه وإثابة العاملين بالأجر العادل وجمع الزكاة ليعاد توزيع الدخل للفقراء الذين لا يستطيعون ضربا في الأرض أو يعانون من معوقات عقلية أو جسمية أو يرزحون تحت وطأة ظروف خارجة عن إرادتهم كالبطالة مثلا وتطبيق شريعة الله في الإرث ليؤول إلى اكبر عدد من الناس.
الحضارة الغربية
وتفريخ الإرهاب
لعل أبرز ما يميز الحضارة الإسلامية على غيرها من الحضارات هي إيلاؤها الإنسان أهمية قصوى لا حدود لها، فلا شيء يعلو على حياة الإنسان / أي إنسان وضمان رفاهيته واستقراره النّـفسي والمادي:«فليعبدوا ربَّ هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وأمنهم من خوف»(سورة قريش الآية 3و4).. يستوي في ذلك كل الناس على اختلاف مواقعهم الاجتماعية والثقافية والسياسية، لان حياة كل البشر هي هبة من الله وبالتالي فهم عبيد متساوون في العبودية لله حتى وان أنكر بعضهم ذلك.
ومن هذا المنطلق فلا يجوز أن يستعلي احد على احد أو أن يظن أن حياته هي أهم من حياة الآخرين بسبب مركزه الاجتماعي أو السياسي أو الثقافي، ومن هنا يعتبر إزهاق روح بشرية واحدة ظلما وتعسفا هو بمثابة إزهاق أرواح البشر جميعا، وإحياء نفس بشرية (إنقاذها من الهلاك مثلا)هو إحياء للناس جميعا في الثقافة الإسلامية.
إن قداسة حياة الإنسان في الحضارة الإسلامية تجعل من إمكانية الاعتداء على فرد بسبب موقعه الاجتماعي أو انتمائه العرقي أو بسبب توجهاته الفكرية أو السياسية عملا مرفوضا جملة وتفصيلا في الثقافة الإسلامية، يستوي في ذلك المؤمن وغير المؤمن ما لم يبادر بالاعتداء وارتكاب جرم يوجب القصاص... إن مثل هذا المفهوم يغيب في الحضارة الغربية التي تزعم التفوق على من عاداها من الحضارات!؟. فأوروبا منذ بدايات القرن التاسع عشر الميلادي بادرت باضطهاد الشعوب واستعمارها ونهب خيراتها.. بمجرد امتلاكها للقوة التي تقهر بها تلك الشعوب، وأمريكا اليوم تبادر باضطهاد شعوب بأكملها لمجرد الحفاظ على مصالح تراها حيوية، وتدعم الصهيونية المقيتة لاغتصاب أراضي الغير وقتلهم وتشريدهم... فلا عجب أن نرى بسبب ذلك انتشار ظاهرة الجماعات الإرهابية، والتي هي حالة مرضية كردة فعل على حضارة مريضة لا تقيم أي وزن للإنسان / الآخر، وآن الأوان لاستبدالها بحضارة إسلامية جديدة ومتطورة تقوم على ثوابت الرحمان بدلا عن ترهات الإنسان وجهالته..
الإسلام يكره الإرهاب ويجرم الإرهابيين
صار ما يعرف بـ« الإرهاب الإسلامي » ظاهرة تتفاقم كل يوم وتسجل حضورها في مناطق مختلفة من العالم. ولقد سجل الإرهاب العالمي حضوره بكثافة في وعي الرأي العام العالمي كثافة الآلام التي يسببها لأناس أبرياء لا صلة لهم – في الغالب الأعم – بالسياسة والحروب التي يفجرها مصاصو دماء الشعوب... فهل في نصوص القرآن(مصدر سلوك المسلم الحق) ما يبرر مثل تلك الأعمال القتالية خاصة وأن الإرهابيين يزعمون أنهم يخوضون ضد الكفار حربا جهادية ركيزتها آية من آيات القران الكريم: «واعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوفى إليكم وانتم لا تظلمون»(سورة الأنفال المدنية الآية 60).؟!
لقد جاء الإسلام رحمة للعالمين.. من عرب وعجم وأهل كتب الاهية سابقة«وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين»(سورة الأنبياء الآية107).. ووعد أتباعه المؤمنين بالقرآن، المتبعين لوحي الله بالعزة والقوة والتمكين لهم في الأرض.. « ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون » (سورة الأنبياء الآية 105). ورسم لهم في كتابه المجيد كل الثوابت والسنن الحضارية التي تورثهم الأرض وتجعلهم قادرين على قيادة العالم بالعدل والحق والقسطاس المستقيم والشهادة على الناس... ولقد كان الرسول محمد صلى الله عليه وسلم خير قدوة عملية لإنزال آيات القرآن العظيم / الثوابت الالاهية في الكون والإنسان والحياة للواقع المعيش في دنيا البشر. ولقد انقسمت حياته عليه الصلاة والسلام إلى فترتين هامتين سمي القرآن باسمهما:
1 – الفترة المكيّة – القرآن المكّي: دامت 13 سنة، وقد خلت كل السور المكيّة الموحى بها خلال هذه الفترة (86 سورة)من أي إشارة إلى القتال في سبيل الله كما خلت حياته صلى الله عليه وسلم من أي عنف أو استعمال للقوة في ردّ الاضطهاد والتـّنكيل الذي كان يتعرض له المؤمنون برسالته... وقد أمر الله فيها المؤمنين بتطهير نفوسهم وتزكيتها من الشرك بالله وإفراغها من قيم وتقاليد مجتمعهم الجاهلي، وملئها بقيم الإسلام الحنيف وتوحيد الله وإفراده بالطاعة، والخضوع التام لأوامره ونواهيه.. ولعل أبرز ما نهت عنه الآيات والسور المكية الفحشاء والمنكر كالزّنا وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وامتدحت: « الذين لا يدعون مع الله الاها أخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق آثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا ».(سورة الفرقان الآيات 68-69).
2 – الفترة المدنيّة- القرآن المدني: وهي الفترة التي تواجد فيها الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة التي كون فيها الرسول صلى الله عليه وسلم دولته الإسلامية، وقد أذن له وللمؤمنين بالقتال لحماية المؤمنين الذين صاروا يحيون طبقا للشريعة الإسلامية وتنتظم حياتهم بآيات القرآن المدني..يقول الله عز وجل: « أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله » (سورة الحج المدنية الآيتين 39 و40).
إن استحضار حياة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في تطبيق وحي الله عز وجل تكشف لنا بوضوح حقيقة هؤلاء الإرهابيين والمتمثلة في أنهم لم يستجيبوا لأوامر الله في النهي عن قتل النفس البريئة التي حرم الله قتلها ولم يدر في خلدهم الاستجابة لأوامر الله أو الخضوع لشرعه وإنّما هم يتبعون أهواءهم بغير علم ولا هدى من الله.:«ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله».
اللغة العربية والإبداع الحضاري(1)
أحب العرب لغتهم وتباروا في إتقانها منذ ما قبل مجيء الإسلام، واستعملوها في حلهم وترحالهم، وانتقوا القصائد العصماء سميت «المعلقات» لتعليقها عند الكعبة.
ولما انطلق المسلمون لحمل رسالة الإسلام الخالدة كانوا في الوقت نفسه حملة للغة العربية، لغة القرآن، لان الإسلام لا يمكن تفهم مفاهيمه عن الكون والإنسان والحياة وشريعته التي تنظم حياة المسلمين الاجتماعية والسياسية والاقتصادية إلا من وجهة لسان العرب. وبذلك كان المسلمون يدعون القلوب إلى الإيمان والألسنة إلى التعريب.
كما برع الخطاطون المسلمون في رسم اللغة العربية، وأبدعوا خطوطا عديدة زينتها بحلة قشيبة لان الخط الجميل يزيد الحق وضوحا وإبانة .. وزينوا المساجد والمنازل والقصور في مختلف البلاد الإسلامية وجملوا الأثاث والسجاد والملابس والمباني والآلات والكتب وغيرها.
ولقد مثلت اللغة العربية ولا تزال إحدى اللغات العريقة ذات التاريخ الحافل، وهي لغة ثرية بأبجديتها وتضم من الحروف ما لا يوجد مثيلها في اللغات الأخرى: كالثاء والخاء والذال والظاء.. فضلا عن حرف الضاد الذي تنفرد به دون سائر اللغات العالمية.
وهي لغة تفي بالقليل عن الكثير، وتمج الغث وتعج بالسمين.. كما أنها تمثل قلب الأمة الإسلامية النابض وعقلها الواعي الذي يحوي تراثها ومجدها.. ولقد استوعبت إنجازات المسلمين الحضارية كلها عبر تاريخهم الطويل بوفاء وأمانة، بل لقد شرفها خالق الكون والحياة بان اختارها ليخاطب بها بني ادم عبر كتاب معجز شكلا ومضمونا. وقد حولها هذا التشريف إلى لغة عالمية.. يقول المستشرق «جوبيوم» في مقدمة كتابه تراث الإسلام: « إن اللغة العربية لغة عبقرية لا تدانيها لغة في مرونتها واشتقاقها... ».
هذا بالإضافة إلى أنها اللغة ذات الصوت الواضح المميز، وذلك راجع إلى دقة مخارج حروفها، بعكس ما هو ملحوظ في بعض اللغات الأخرى التي تكثر بكلماتها الحروف الساكتة، أو التي يتلاشى بعضها في بعض خلال النطق.
إن تميز اللغة العربية بخصوصيات كثيرة جعلتها تتربع على عرش اللغات جميعها بما احتوت عليه من ضروب البيان والبلاغة والإعجاز وسهولة الاشتقاق منها وقدرتها العجيبة على التعبير عن كل خلجات النفس البشرية في أفراحها وأتراحها، في هزلها وجدها، في علومها وآدابها.. ولقد أدرك أعداء امتنا الإسلامية الارتباط الوثيق بين اللغة العربية ومجد ووحدة المسلمين، فعملوا جاهدين على ترويج الدعاوي التي تتهم الفصحى بالعقم والبداوة والقوا عليها مسؤولية التخلف الحضاري"لأمة الإسلام " في العصر الحديث، زاعمين بعدم استجابة الفصحى للحضارة الحديثة وهي عسيرة على من يتعلمها !؟
واتفق هؤلاء - المتآمرون على رمز هويتنا الحضارية- على استبدال اللغة العربية بلغات المستعمرين القدامى لديارنا أو باللهجات العامية لشعوبنا الناطقة بالضاد أو كتابة العربية بالحروف اللاتينية لمسخها والقضاء على صحة النطق بها، أو تغيير الأساليب البيانية والبلاغية للغة الفصحى.
وهذه الدعوات مهما لبست من أقنعة، وزخرفت من قول إنما هي دعوات مسمومة / مفضوحة يريد لها أصحابها أن يخربوا هوية" الأمة الإسلامية" حتى يسهل لهم تذويبها وتركيعها لأطروحاتهم المعادية لمصالح امتنا في التقدم والتطور وتحقيق العزة والمناعة.. ذلك لان اللهجة العامية مثلا التي يريدها أعداء امتنا بديلا عن اللغة الفصحى تمثل ألفاظا مهلهلة من لهجات تختلف من بلد لآخر كما تختلف في البلد الواحد باختلاف مناطقه وأجيال أبنائه، وهي فقيرة كل الفقر في مفرداتها، مضطربة في قواعدها وأساليبها حتى إن العربي يخاطب أخاه على لسان غير مبين فلا يكاد يفهمه ! يقول العقاد:«اللغة العامية لغة الجهل والجهلاء وليست بلغة الشعبيين، ولا من يحبون الخير للشعوب».!
لقد عبرت اللغة الفصحى قديما وحديثا بصدق عن المفاهيم والمصطلحات العلمية والأدبية والمشاعر التي توصل إليها المسلمون في مختلف ميادين الحياة ودروبها، تقوى وتينع بقوة المسلمين الحضارية وعزتهم وتضعف بضعف المسلمين وتخلفهم، فلا مجال إذن لان نتهم اللغة الفصحى بالعجز أو القصور بل الأصح أن نتهم أنفسنا بالتخلي عن دورنا الإسلامي والحضاري في قيادة الشعوب وبلوغ ما وراء العرش تطورا وازدهارا.
إن اللغة لا يمكن أن تتطور وتزداد مفرداتها وتراكيبها ويترسخ جمالها وتنتشر بين الناس إلا إذا تراكمت المعارف الجديدة والمعاني الجليلة والمفاهيم المتطورة، وكثرت الاكتشافات والاختراعات، وأبدع الناس في كل المجالات الحياتية والمعرفية والتكنولوجية.. حينئذ تأتي اللغة لتعبر عن هذا التطور والرقي والازدهار عن طواعية، وتسلم قيادها للمبدعين.. وكلما كثر هؤلاء المبدعون، كلما تطورت لغتنا واتسع قاموسها اللغوي وكثرت المعاني الجميلة بها، واقبل عليها الناس واستعملوها في أحاديثهم وخطبهم وكتاباتهم وإبداعاتهم.
---------------------------------
المراجع
1 - بن سالم بن عمر(محمد)اللسان العربي وتحديات التخلف الحضاري في الوطن العربي الإسلامي الطبعة الأولى 1995- المطبعة العصرية بتونس-
الفن الإسلامي وشروط الإبداع
يقصد بالفن: "التعبير عن الحال بمختلف الأساليب والأدوات من أدب إلى رسم إلى شعر.. "إلى غير ذلك من أساليب التعبير، والفنان إنسان يعبر عن الإحساس الداخلي الذي يحس وينفعل ويتأثر به، فيعبر بصورة من صور الفن التي يجيدها، والفنان الحق هو الذي يختار من الأفكار والأحاسيس التي يجد فيها مظهرا لجمال ظاهر أو خفي، أي يختار ما يوجد التأثر والانفعال، وتكون الألفاظ والتراكيب التي تؤدي هذه الأفكار والأحاسيس على وجه يثير القراء ويثير السامعين، فيهز مشاعرهم، ويبعث فيهم ما يقتضيه هذا الانفعال من غبطة ورضا، أو سخط وغضب.
كما أن الفنان الحقيقي هو الذي يمثل بفنه مثله العليا ومفاهيمه عن الكون والإنسان والحياة.. وينظر دائما إلى عالمه بالمقارنة مع مثله وقيمه ومبادئه، وكذلك الأديب الحق، والشاعر المقتدر هو الذي يبلغ أهدافه ولا يضيق ذرعا بقيود اللغة السليمة والتراكيب الجميلة المعبرة عن أن تصير وعاء يستوعب أفكاره ومشاعره التي يحسها داخل نفسه، فيساهم بقسطه من اجل رفع الحياة البشرية وترقيتها، ويسعى إلى تحريك النفس لتنفعل بالحياة في أعماقها وتتجاوب تجاوبا حيا مع الأشياء والأحياء.
يقول الجرجاني: « إن من كمال الجمال البلاغي أن تكون مادته الخير والفضيلة ». أجل، فليس الأدب سوى رسالة سامية تنير سبيل الحياة الطيبة التي بشر الله بها عباده المؤمنين بروبيته، وتعرف الناس كيف يهتدون إلى منابع السعادة والمعرفة فيها.. وهل الأديب سوى مبدع يحمل بيده مشعل الحب والحرية والتسامح، ويبحث بكل ما في ضميره من شوق وشغف وما في نفسه من نشاط وإخلاص عن مصدر السعادة والمعرفة في الحياة ليهدي إليهما نفوس البشر الحائرة، ويزيل عن وجه الحياة قشور الكآبة والجفاف، ويكلله بنور الغبطة والانتعاش ؟! نقول هذا القول ونحن ننظر بعين الحسرة والألم لما آل إليه الأدب الآن، إن قصارى جهود الكثيرين من «الأدباء والشعراء» التحدث عن التجارب الخاصة والمفاهيم المنحرفة عن هداية الله، واغلبها يدخل في نطاق المرأة، كما أصبح الأدب يعطي صورة منقبضة متشائمة للحياة طافحة باليأس والألم والقسوة، لأنه أدب صادر عن نفس حائرة مضطربة قد اهتزت أمامها السبل، فلا ترى اتساقا في الكون، وإنما عبثا، ولا تنتظر أملا، بل يلفها التشاؤم، إنها إفرازات العبث والعدمية والتّنكر لروبية الله ووحدانيته... وكم نحن بحاجة إلى أدب متفائل يحمل الحب والأمل والدعوة إلى العمل بمقتضى التنزيل الحكيم من لدن عليم خبير.
لقد مثل الفن بأشكاله المختلفة عبر الأحقاب التاريخية المختلفة مرآة الأمم ونبضات قلبها وعصارة فكرها وحقيقة وجدانها ومختلف تصوراتها عن الكون والإنسان والحياة، وهذا يجعلنا بحاجة أكيدة إلى تحديد إطار واضح، ومفهوم محدد للفن الذي ننشده، ليكون فنا متميزا واضحا، يعبر عن التصور الإسلامي والحضاري لامتنا الإسلامية... حتى نستطيع تقديم هذا المفهوم للناس إزاء المفاهيم الأخرى للفن الهائم والسائر في ظلمات بعضها فوق بعض والمتخبط على وجهه في متاهات الحياة ودروبها المدلهمة، فلا يكفي أبدا أن ننادي بفن إسلامي بديل وننشد الاهتمام به، دون تحديد لمفهومه ومعالمه وتصوراته.
إن الفن الذي ننشده هو كل فن جميل مؤثر ازدهر في ظل قيمنا الإسلامية وثوابتنا الحضارية المستنبطة من القرآن وارتوى بروائها وتغذى من نبعها، وأشرق على الدنيا داعيا إلى قيم المحبة في الله والخير والجمال والحق والعدل بين الناس، وانتصر للقضايا العادلة وحارب الباطل بمختلف تشكلا ته.. بعزة وثقة تامة وإقدام وبأسلوب واضح ولغة فصيحة يفهمها كل الناس. فالفن الذي ننشده هو نقيض الفن الهائم والضائع الذي يتبنى الزيف منهجا للحياة مزركشا بالأكاذيب والمساحيق المضللة عن الحق والعدل، إنا نطمح إلى فن إسلامي نظيف يحارب الغموض والعبث، ويشجب الحيرة والاضطراب والتناقض ونشر الفساد في الأرض، ونندد بكل فن يعمل على إيجاد الصراعات والإحن بين الناس، أو يكرس واقع التخلف والتوحش وحياة الأنعام، أو يشكك في شيء أصيل وجميل في ألذات البشرية. إن المبدع الفرقاني / الداعي إلى سبيل ربه بالحكمة هو إنسان خير بطبعه، ولديه مجموعة من الثوابت الالاهية والقيم السامية تدفعه لان يعمل ويبحث في موضوع ما، ومن أهم القيم التي يمتلكها المبدع المسلم هي الإصلاح والبحث عن الأصالة والصدق والأمانة، وكل الموضوعات التي يعالجها تصطبغ بالقيم الإنسانية الرفيعة التي يؤمن بها ويجسدها في حياته... على عكس الفنان الهائم الضال عن هداية الله الذي يقول ما لا يفعل ويظهر غير ما يبطن ويعيش حياة ضنكا بسبب إعراضه عن الحق.! وهكذا يصبح الفن وسيلة للبناء والتشييد، والسمو والتقدم، وحافزا للرّوح، ومشكلا للفكر والوجدان والمفاهيم المتطابقة مع الحق والعدل، وباعثا للحيوية والقوة الايجابية في حركة الحياة الشاملة، وممهدا لطريق السعادة والنقاء والحياة الطيبة المطمئنة، وحارسا لهوية أمّتنا الإسلامية...
إن الفن الإسلامي فسيح الرقعة، واسع الأرجاء، لان كل فن سار في فلك القيم الإنسانية النبيلة التي لا تمجها النفس السوية صراحة أو ضمنا كان فنا إسلاميا، وكل فن عالج قضايا وأفكارا بتصور إنساني راق واصطبغ بالمفاهيم الإسلامية الواردة في كتاب الله فهو الفن الإسلامي الذي ننشده لبناء حضارة إسلامية جديدة ومتقدمة عن أية حضارة إنسانية لا ترتكز على المفاهيم القرآنية في بناء المجتمع. وكل عمل يبث الخير في نفوس شبابنا وأطفالنا والأسرة بشكل عام هو عمل إبداعي وحضاري، وأي عمل فني ينفع الناس ليس فيه فساد ولا إفساد متعمد، وإنما فيه خير نبثه في نفوس شبابنا وأطفالنا وعقولهم ليساعد على خلق جيل يحمل الخير في نفسه، فهو عمل نباركه، والفن إن لم يكن خادما للمجتمع، مدافعا عن ثقافة الأمة ومفاهيمها السوية وأسلوب عيشها المميز في الحياة ومدافعا عن تطلعات الناس وطموحاتهم وحقهم في الحياة الكريمة وفق المنهج الإسلامي الذي ارتضوه لحياتهم، وتبصيرهم بالواقع، والصدق مع النفس،والتجاوب العاطفي الوجداني مع المشكلات الحياتية النابعة من ممارسات الواقع، ساعيا إلى تغيير البنية المادية والنفسية لأفراد الأمة، فاعلا بنجاعة في تطور المجتمع ومساهما في أداء الناس لمسؤولياتهم، رافضا لكل أنواع القهر والاستبداد والاستغلال، قائدا للأمة إلى أهدافها الرئيسية في الحياة.. فليس بفن.
إن أولى مهمات الفنان المؤمن هو مواجهة أوضاع التخلف والظلم والاستبداد والتسلط والطغيان وتغييرها إلى الأفضل والأمثل والتخلص من قيود المرض والجهل والتمييز الطبقي والطائفي، والتفتح على القيم الإنسانية النبيلة في العالم والارتفاع بمستوى المجتمع والأمة لتتناسب أوضاعها مع مبادئها الحضارية/الإسلامية التي تحفزها لبلوغ ما وراء العرش تطورا وتقدما وازدهارا، والنفاذ من أقطار السماوات والأرض...
إن هذه المهمات التي ندعو لأن يبشر بها الفنان الفرقاني في أدبه ومسرحه ورسومه ومختلف الأشكال الفنية التي يحسنها، هي التي ستجعله فنا متميزا جديرا بنيل احترام الناس بوصفه يتبنى قضاياهم ويعالج مشاكلهم ويساعدهم على تبين طريق الحق والسعادة والفلاح.
لقد قام الفن الإسلامي منذ بدايات الدعوة المحمدية بمهمات جليلة في التمكين لقيم الإسلام ومبادئه السمحة، وظهرت آثار التصور الإسلامي في المدينة المنورة، ونجحت التجربة الإسلامية نجاحا باهرا حين قدمت لنا وللعالم كله روائع الشعر الإسلامي القديم، ولقد عبر الشعر – ديوان العرب الأول – عن أدق خواطر الإنسان ومشاعره، وأزماته وهمومه، وحيرته وقلقه، وسخطه وتمرده،وموقفه من الحب والغربة والموت، وتأملاته في الكون والطبيعة، وتعاطفه مع الحيوان، ورثائه للطيور الصادحة، وحنينه إلى الأوطان، وتمجيده للقيم النبيلة، وتصويره للبطولات الملحمية... إلى غير ذلك من التجارب الشعرية الرائعة. كما استخدم الأدب كوسيلة في تهذيب الأخلاق وتربية الضمير وهداية العقول إلى الحق والخير وفي هذا يقول حسان بن ثابت:
إذا الشعر لم ينشر مكارم قومه فلا حمدت منه المكارم مشهدا
ويقول زهير بن أبي سلمى:
وإن أحسن شيء أنت قائله بيت يقال إ ذا أنشدته صدقا
فالحضارة الإسلامية لم تفصل في يوم من الأيام بين النواحي الجمالية في الفن والمضامين الراقية التي ترتفع بفكر الناس وأذواقهم وتجلب لهم الفائدة في حياتهم وتخضع لهم الدنيا ذليلة لأنهم عرفوا حقيقتها من خلال الحكم والأمثال والقصص التي تبثها مختلف الفنون في نفوسهم، يقول عبد القاهر الجرجاني في (أسرار البلاغة ج 2 ص 133): « المقصد الاسنى للشعر هو تنمية الذّوق السّليم بحكمة يقبلها العقل وأدب يحسب به الفضل وموعظة تروض جماع الهوى وتبعث على التقوى وتبين موضع القبح والحسن في الأفعال وتفصل بين المحمود والمذموم من الخصال ».
ويشدو أبوتمام:
ولولا خلال سنها الشعر ما درى
بغاة العلا من أين تؤتى المكارم
واستمر هذا الفهم الصحيح لمهمات الفن الإسلامي والأدب المصطبغ بالمفاهيم القرآنية وأنتج تيارا فنيا مباركا ظل متدفقا في مختلف العصور الإسلامية، حتى أطلت علينا رؤوس الفتن في حياة هذه الأمة بنزعاتها العنصرية، وشعوبيتها وقومياتها الحديثة، وكان السبب الرئيس والمباشر في ذلك فتور المفاهيم الإسلامية الصحيحة التي كان لها الفضل في عزة المسلمين وقوتهم وازدهارهم. ولا عجب بعد ذلك أن أصبحنا نرى في العصر الحديث أفرادا يحملون القلم ويخطون الكتاب ويدبجون المقال والقصة والقصيدة... بيد أنهم منفصلين عن كيان الأمة الإسلامية وضميرها!!
لقد شهد النصف الثاني من القرن الماضي تحركا إنسانيا ملحا في سبيل البحث عن ألذات، وتحديد الهوية البشرية الحقة، ونفض الغبار المتراكم على إلا ذهان والقلوب بعد أن شعر الفرد بالتمزق والضياع، واختنق العالم كله فكريا وروحيا بمنطق العصر الآلي الصناعي... بل وأصبح الناس يوصفون بالرجال الجوف، ويشبهون بتماثيل مليئة بالقش تصيح قائلة:
نحن الرّجال الجوف *** حشينا بالقش(1)
وفي ظلّ هذا الواقع الجديد الذي صار إليه الإنسان بسبب بعده عن هداية السماء يبقى: (العامل الالاهي وحده، هو الذي يستطيع أن ينتصر على العزلة، وأن يجعل الإنسان مدركا للشعور بالألفة والصلة ومتوخيا غاية جديرة بوجوده (2)، لذلك ينبغي أن يكون التصور الإسلامي هو الذخيرة التي يستمد منها الفن الفرقاني موضوعا ته ومجالاته، ثم تعمل البراعة الفنية عملها، فتخرج من تلك المفاهيم في شتى مجالاتها فنونا جميلة رائعة، بمقدار ما تطيق الفهم والتلقي والاكتشاف، وبمقدار ما تتفتح بصيرتها لارتباطات الكون والحياة والوجود، فالكون خلقه الله من عدم، وكل شيء فيه موجه بقدرته وعنايته سبحانه وتعالى، وهو في حركيته يخضع لقانون واحد ويتجسد فيه التكامل والتعاضد وتحدث فيه جملة من التطورات التي لا تصطدم مع المشيئة الالاهية، وقد كرم الله الإنسان وجعله خليفة في الأرض ليقيم العدل اعتمادا على الميزان – ميزان القرآن – وهو مسئول على عمارة الأرض وإنشاء الحضارة، والبشر كلهم من ادم وادم أصل خلقته من تراب وأحب البشر إلى الله انفعهم للناس إذا ما قصدوا بأعمالهم التقرب من الله، وما الشريعة إلا وسيلة ليعرف الناس دورهم في الحياة ولكي لا يتيهوا عن طريق الحق والرشاد. فالفن الفرقاني هو الذي سيبشر بالرؤية الشاملة للإسلام التي تملا فراغ النفس والحياة، وتستوعب الطاقة البشرية في الشعور والعمل، وفي الوجدان والحركة، فلا تبقي فيها فراغا للقلق والحيرة، ولا للتأمل الضائع الذي لا يحقق سوى التسيب والعبث.
إن الفنان الفرقاني مطالب بالبحث عن الحقائق الوجودية وأن يعيها جيدا، ويحاول الغوص وراء أسرارها ورموزها، ويبحث عن النماذج الإنسانية والتحركات الجماعية التي تؤكدها وتبلورها، حتى ينطلق في مسيرته نحو الخير والكمال والجمال. فهو اقدر الناس على نفع المجتمع الإنساني والسير به في الطريق الصحيحة لتحقيق المطامح المشروعة في هذه الحياة، لان منهاج حياته منضبط بالصدق والتعاون مع الآخرين، وبواجبات كثيرة ومتنوعة نحو نفسه ونحو الآخرين، وكذلك نحو المجتمع الذي يعيش فيه، ويحيى على أمل انه «لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون» وهو قوي أمام إغراءات الحياة المختلفة، فلا يقع في الحرام، أو ينزلق إلى الرذيلة، ولا يحني رأسه أمام الفساد والظلم وشراء الذمم، رافعا راية العدل والقوة والمحبة والوئام لإخراج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.
انه من الخطورة بمكان أن يقتنع بعض المبدعين في ديارنا الإسلامية بتفوق الثقافة الغربية على ثقافتنا فيلجئون تبعا لهذه القناعة إلى اتخاذ الغرب قدوة ومثالا، ويستبطنون مدارسه الإبداعية المختلفة، ومفاهيمه عن الحياة يقيسون بها إبداعاتنا ونتاجاتنا الفنية..، إن مثل هذا العمل يسقطهم أولا وأخرا في التقليد الذي يتنافى تماما مع العملية الإبداعية، لان التقليد يمثل العدو الأول للإبداع، كما أن استحضار الغرب في كل خطواتنا واعتباره سباقا في كل المجالات الحياتية يضعف من همتنا، ويميت تحفزنا للإبداع واختراق الآفاق، لان المرء إذا ما أدرك أن هناك من سبقه إلى درب من دروب الحياة واعتقد بعدم إمكانية الإتيان بشيء جديد، يفتر عزمه، ويتلاشى حزمه في تقديم التضحيات الكافية لبلوغ ذلك الدرب المقصود، على عكس ما إذا كان سباقا لاكتشاف جواهر مطمورة، ولآلئ مكنوزة، وتحف لم تر العين مثلها من قبل، فان نفسه تكون في توق، وقلبه في شوق، لتقديم كل غال ونفيس ليفوز بقصب السبق في الاكتشاف الجديد وبلوغ الهدف المراد ونيل كل عجيب متسام، ولقد أدرك أجدادنا من المسلمين هذا السر في الإبداع فصنعوا المعجزات فكرا واكتشافات، وبهروا نفوسا كرعب من ينابيعهم الثرة وبحارهم العميقة المليئة بكل رائع وجميل ومؤثر عجيب، وانتقلت آدابهم إلى أوروبا عبر الدردنيل والأندلس وصقلية وغيرها... وعلى ورثة هؤلاء الأفذاذ أن يواصلوا مسيرتهم في البناء والتشييد والإبداع...
ولقد جاء في مادة بدع ما يلي:« بدع، بدعا الشيء: اخترعه وصنعه لا على مثال، والبدع المحدث الجديد، والبدعة ما أحدث على غير مثال سابق»(3). والفن إبداع لأنه يبدع ما هو جديد، ويجعله يظهر للوجود فجأة، كان المرء يراه لأول وهلة، ولا بد من الإشارة إلى أن الفنان لا يقوم بخلق العمل الفني، لان الخلق هو عملية الإيجاد من العدم، وإطلاق صفة الخلق على الفنان يعتبر تجاوزا لحقيقة العمل الذي يمارسه الفنان. فالله وحده خالق كل شيء في الوجود. إن أقصى ما يستطيعه الفنان هو تركيب الصور والمفاهيم والمعاني التي خلقها الله، بشكل جميل ملفت للانتباه، ومؤثر، أي بشكل بديع يحسبه الناظر إليه انه يراه لأول مرة، فالرسام مثلا يختار بعض المشاهد الكونية التي خلقها الله ثم يقوم بتركيبها بصورة جميلة ملفتة للانتباه، وتحدث العجب والدهشة في نفس المشاهد، محاكيا في رسم هذه المشاهد حقيقة المشاهد الكونية، ومصبغا عليها المفاهيم التي توصل إليها خلال مسيرته الوجودية، إن المعاني والمفاهيم هي أيضا قد خلقها الله مع خلق الإنسان، ومهمة الإنسان اكتشافها والبحث عنها في المخلوقات الكونية أوفي الكتب السماوية الصحيحة التي تضمنت تلك المعاني والمفاهيم. إن أقصى ما يمكن إن يطمح إليه الفنان المبدع هو تحقيق السبق في اكتشاف المشاهد والصور والمعاني الراقية الجميلة والجليلة وتركيبها بصورة مؤثرة وممتعة لتقريبها من البشر حتى يتمتعوا بجمالية الصور والمعاني التي من شانها أن ترقى بأذواقهم وأفكارهم وتسموبسلوكهم وأخلاقهم. وهذا الفهم لرسالة المبدع / الفنان المسلم يجعلنا نلح على ضرورة توفر المضمون الهادف في كل الأشكال الإبداعية وأن تحتوي نتاجات المبدع على القيم الإسلامية النبيلة والمبادئ السامية من اجل رفع الحياة البشرية وترقيتها إلى مستوى التكريم الالاهي للإنسان. فالفنان إنسان واع بدوره في الوجود، يسعى بفنه إلى تحريك الحواس المتبلدة لتنفعل بالحياة في أعماقها، وتتجاوب تجاوبا حيا مع الأشياء والأحياء، فقيمة الفن تظهر فيما يقدمه للحياة والناس من خير، وما يبشر به من قيم عليا ومثل سامية وما يدعو إليه من أخوة وتراحم وعدالة ومحبة بين الناس ليتعارفوا ويعيشوا في امن وسلام، ويدلهم على الطريق ويأخذ بأيديهم إلى العزة والفضيلة، إن الفن موهبة من الله يحدث به صاحبه ثورة فكرية تضرب الأوضاع الفاسدة، وتملا النفوس تذمرا وتطلعا دائما إلى الأفضل، فهو وسيلة للدفاع عن الحق والانتصار له وإذاعة الفضيلة ومحاربة الشر في كافة صوره ومقاومة الظلم وأصحابه ومن يمشون في ركابه...!
فأمام الفن إذن حقول خصبة للإبداع والعطاء وخاصة في مجال القوة الذاتية التي تحفظ القيم السامية والمبادئ النبيلة في نفوس الشرفاء المؤمنين برسالتهم في الحياة جيلا بعد جيل، ولعل من أعظم الأشياء قيمة « الأمل»، حيث لا تموت الأماني، أو يتطرق اليأس إلى النفوس في أحلك الأوقات وأحرجها، ولا يقع الفنان المؤمن برسالته فريسة الخوف أو الخشية إذا ما قارن قوة أعداء أمته المادية بقوته، المهم أن يمضي قدما في مسيرته الخالدة مهما كانت التضحيات جسيمة « إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي...» وهذا يجعل مقاييس النصر أو الهزيمة، ومقاييس القوّة والضّعف تختلف وجهة نظر الفنان الفرقاني إزاءها عن وجهة نظر الآخرين باعتباره يستمد كل مفاهيمه عن الكون والإنسان والحياة من القرآن الكريم. وهكذا يصبح الفن المنشود هو الذي يقوي الذات وينميها ويكملها، فالفن يجب آن يكون إنسانيا يخاطب في الإنسان سموه، ويركز على جانب القدرات الايجابية فيه، والتي تنسجم مع مهمته فوق الأرض، والتي تحقق مبدأ الاستخلاف، ما دام الإنسان مستخلفا، انه إضاءات وجدانية، وإشراقات عقلية في الوقت نفسه تستهدف الإنسان كأعظم مشروع يتحقق فيه التصحيح.
إن المضامين الهادفة والراقية إذا لم توضع في قوالب جمالية مؤثرة تفقد جزءا من قيمتها ويصبح تأثيرها محدودا، لذلك يصبح من شروط إبداع الفن الفرقاني تهيئة اللقاء بين الجمال والحق، فالجمال حقيقة في هذا الكون الذي أبدعه الله كأحسن ما يكون.. والحق هو ذروة الجمال، من هنا فإنهما يلتقيان في القمة التي تلتقي عندها كل حقائق الوجود، والفن بهذا المعنى هو التعبير الجميل عن حقائق هذا الوجود اعتمادا على مواهب ناضجة، وأسس فنية واضحة، مؤثرة، فالفنان المسلم يجب أن يكون وسيطا بين الوجود والتعبير ويقف في موضع الوفاق والتناغم الذي يحيل كل شيء إلى لحن جميل، وأن يبتعد قدر المستطاع عن عيوب الخطابة والتقريرية، وجمود الشكل، ونثرية العبارة، وبهوت الصورة، بشرط أن لا يطغى الإحساس بالجمال عن الفكرة الملتزمة بقضايا الوجود والحياة والمصطبغة بصبغة الإسلام وثوابته .
فلا بد إذن من اتخاذ العدة الفنية التي تستطيع تقديم الفكر النظيف في صورة موحية مؤثرة، وأن يسعى الفنان إلى استغلال الجوانب الفنية والنفسية والتأثيرية في الفن لاجتذاب الفطر السليمة.. وإقناع العقول السوية، والتغلغل إلى أعماق الوجدان الحي، للخروج بالإنسان إلى نطاق الفعل المتبصر، والحركة الواعية، والتغيير الايجابي، وإيجاد مجتمع الخير والعدل والفضيلة مع الانتصار على سلبيات الفكر والسلوك.
إن المزاوجة بين الجمال والحق أي المزاوجة بين الشكل والمضمون بصورة مبدعة تتطلب الاقتدار على الضبط، والبراعة في إحسان التحرك وإجادة التصرف في أضيق المساحات والمجالات، وأدق الأطر دون المساس بها، أو خدشها وتشويشها أو المروق منها. والاقتدار على الحركة داخل هذا الإطار الضيق المحدود هو المقياس أو المعيار الذي نفرق به بين الصادق والدعي، وبين الأصيل المتمكن والدخيل المتطفل. فالطفل الذي لم تنم مهاراته، تعطيه الصفحة الكاملة ليرسم فيها شجرة فيحتج بصغر المساحة التي لا تتسع لرسم شجرة، وتعطي عشر معشارها لفنان مقتدر، فيعطيك فيها عالما متكاملا يضج بالحياة، وينضح بالفتنة والجمال...
والفنان المبدع يدرك جيدا أن الفن لا يقوم على تصوير الحياة كما هي، بل لا بد من تدخل الفنان الذي يقوم باختيار أهم العناصر وانتقائها من واقع الحياة ثم يعيد ترتيبها ويخلع عليها من ذاته المسلمة وخياله وتفسيره مم يجعل تلك العناصر عملا فنيا محكما، فيه يمتزج الواقع بالخيال بما لا يشوه ذلك الواقع أو يفقده واقعيته ولبابه، فالفن الفرقاني المنشود لا بد أن يكون مرتبطا بالحقيقة والواقع متميزا بأسلوبه ومضمونه وغايته ويقصد منه أولا وأخرا تحقيق الموعظة الحسنة والعبرة ودفع الناس للتفكير في حكمة الله وربوبيته، وان يبتعد قدر المستطاع عن الغموض والإبهام، ويحرص على تحقيق الإشباع العقلي والوجداني دون حيرة أو إبهام، حتى يمهد ذلك السبيل لرحلة جديدة من التفكير والتذكر واتخاذ موقف واضح من الوجود.
--------------------------------
المراجع
1- نقلا عن كتاب « اليوت» للدكتور فائق متى ص155.
2- نيقولاي برديائف : العزلة والمجتمع ص121 – ترجمة فؤاد كامل – مكتبة النهضة المصرية – القاهرة 1960 .
3- منجد الطلاب ص24 – 25
المصادر والمراجع
المصادر:
القرآن الكريم
المراجع
1* (أمين)احمد: زعماء الإصلاح في العصر الحديث بيروت – دار الكتاب العربي 1979.
2* (شرابي)هشام: المثقفون العرب والغرب بيروت – دار النهار 1973.
3*كتاب الرحالون العرب وحضارة الغرب في النهضة العربية الحديثة د. نازك سابايارد الطبعة الأولى 1979.
4*مستقبل الثقافة بمصر د. طه حسين .
5*الإسلام في مفترق الطرق تعريب عمر فروج .
6*دراسة في السيرة للدكتور عماد الدين خليل، مؤسسة الرسالة، الطبعة الخامسة 1981.
7*كارل ماركس بيان الحزب الشيوعي
8* (يكن)فتحي:كيف ندعو إلى الإسلام ص55
9*خفاجي المحامي عبد الحليم حوار مع الشيوعيين في أقبية السجون ص55
10*العلمانية وانتشارها غربا وشرقا، فتحي القاسمي سلسلة موافقات –الدار التونسية للنشر – فيفري 1994)
11*فولغين(ف)فلسفة الأنوار- بيروت – دار الطليعة ط1981
يقول الله عز وجل « الله ولي الذين امنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون » 14* (سورة البقرة الاية257 )
12*أليوت- الدكتور فائق متى.
13*العزلة والمجتمع- نيقولاي برديائف.
14*بن سالم بن عمر(محمد)-اللسان العربي وتحديات التخلف الحضاري في الوطن العربي الإسلامي –الطبعة الأولى 1995-المطبعة العصرية- تونس.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire